ضرورةُ الوقت: تعلُّمُ عقيدةِ أهلِ السُّنّة والتصدي للمخالفين
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
د. محمد بديع موسى
هُناك من يتصدرُ ميدانَ الدعوة إلى الله تعالى، ويستهين بدراسة عقيدة أهل السنة والجماعة مع معرفة عقائد الفرق الضالة والرد على شبهاتها. وإن اهتم بدراسة العقيدة، جعل دراسةَ عقائدِ الفِرَق وكشف شُبُهاتهم من فُضول القول، فلا داعيَ لإضاعة الوقتِ في فِرَق قد عفا عليها الدهرُ، وانقرضت من الوجود -زعموا- !.
والحقيقةُ أن معرفةَ عقائدِ الفِرَق المنتسبة إلى الإسلام، ودراسةَ مناهجها وأفكارها، وكشفَ شُبُهاتها من أهم العلوم النافعة التي ينبغي أن يحرصَ عليها المسلم، مما يحصّنه من الزلل، والوقوع في مزالق أهل البدع والضلال، ويردّ دعاوى أهل الزيغ، ويكشف شبهاتهم ، ويعينُ على التمسك بالوحيين، والثبات على سبيل المؤمنين، في عصر تكاثرت فيه الآراء، وتشعّبت المذاهب، وازدادت الشبهات، والله عز وجل يقول : {{ وَكَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡآیَـٰتِ وَلِتَسۡتَبِینَ سَبِیلُ ٱلۡمُجۡرِمِینَ }} .
قال السعديُّ رحمه الله: "أي: نوضِّحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي والرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها".
فهذا كتابُ الله بين أيدينا أنزله الله تعالى هدىً للمتقين، ورحمةً وذكرى للعالمين، {{ كِتَـٰبࣱ فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ }} ، نزل يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، فما كان من أهل الزيغ إلا أن ضربوا بعضه ببعض، وحرّفوا آياته، وعطلوا أحكامه، وجاؤوا إلى الآيات الكثيرة التي وصف الله بها نفسه ليعرِفَه بها عباده، فيعظموه، ويَقْدُروه حق قدره، فحرفوا كلام الله عن مراده، وكان منهم المفوِّضة، ومنهم المعطِّلة، ومنهم المؤولة، وإن كانوا جميعا يقصدون تنزيه الله تعالى عن النقائص ، لكنهم في الحقيقة حرفوا معاني الكتاب، وضلوا عن مُراد الله من كلامه. {{ وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِ } } [سُورَةُ الزُّمَرِ: ٦٧]
فمن الذي يبين زيغ هؤلاء، ويكشف شبهاتهم سوى أهل العلم ؟!
ثم انظر إلى ضلال الصوفية ومن تَبِعهم من الجهلة - الذين يُرَوَّجُ لِسوقهم في زماننا - فقد وصل الأمرُ ببعضهم إلى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، وطلب المَدَد منه، واستدلوا بقوله تعالى:
{{ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ جَاۤءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُوا۟ ٱللَّهَ تَوَّابࣰا رَّحِیمࣰا }} [سُورَةُ النِّسَاءِ: ٦٤].
فظنوا أن هذا المجيء والطلبَ من الرسول، يكون في حياته وبعد مماته، وهذا هو الشرك الذي كان عليه أهل الجاهلية الأولى، قال تعالى : {{ وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ }} [سُورَةُ يُونُسَ: ١٨]. ومع ذلك فهم يدّعون محبةَ وتعظيمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكرون على من خالفهم في ذلك، ويصفونه بأشنع وَصْف !.
وإذا كان هؤلاء الصوفية ومن شابَههم من أهل البدع قد ضلوا في فهم مسألة الشفاعة، وظنوا أن الشفاعة في الآخرة كالشفاعة في الدنيا، وأنها مَنْفَذ مؤكّد، ينقذ منه الشافعُ مَن شاء ومتى شاء يوم القيامة!! فقد أنكر غيرهم من أهل البدع بعض أنواع الشفاعة التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة!.
فها هم الخوارج وجدوا أن إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم يخالف معتقدهم الفاسد، فهم يَرَون أن مرتكب الكبيرة كافر مُخلّد في النار، لذلك أنكروا أنواعاً ثابتة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم!.
وهم مع ذلك قد فتنوا الناس بعباداتهم وصلاتهم ومظاهرهم، وأوقعوا في شِراكِهِم الأغرار من حُدَثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، تأولوا آيات القرآن بالباطل ، وأنزلوا نصوصه التي جاءت في الكفار على المسلمين، فكفّروا عامة أهل القبلة، واستباحوا دماءَ المسلمين، ووقعوا بِشَرّ أعمالهم.
وحقيقتُهم - التي لا يعرفها إلا أهل العلم - أنهم "يمرقون من الدين كما يمرق السَّهم من الرميَّة" ، كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم.
أما المعتزلة ممن يظنّ بعض المسلمين أنهم انقرضوا وفَنِيَ مذهبُهم فقد تابعوا الخوارج على قولهم بتخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار، وأنكروا بعض شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا بعض أصولهم من الفلاسفة وعلماء الكلام، وخاصة معتزلة زماننا الذين يتسترون بمصطلح ( المفكرين ) ويردّون بعقولهم القاصرة و( تفكيرهم الحر )الكثير الكثير من الأحاديث النبوية التي جاءت في أصح كتب السنة، وأمهات دواوينها، بحجج واهية وشبهات تنطلي على كثير من المسلمين، ولاينقضها ويردها إلا الراسخون في العلم !!
ولقد تسرّبت بشكل كبير مفاهيمٌ إرجائية منحرفة إلى مجتمعاتنا، فصار كثير من عوام المسلمين عقيدتهم هي عقيدة المرجئة نفسها، فهم يظنون أنهم لمجرد انتسابهم للإسلام سوف يدخلون الجنة من أوسع أبوابها، فلا يعملون للعمل والطاعات حساباً، فالإيمان عند الكثيرين في القلب، ولا علاقة للمظهر ولا للطاعة بل ولا للصلاة - التي هي عمود الدين - بالإيمان عند هؤلاء، وغلاتهم يقولون : لايضُرُّ مع الإيمان معصية، كما لاينفع مع الكفر طاعة، وزاد من خطورة مذهب المرجئة أن بعض الناس وجد فيه مسوِّغاً لكثير من الأهواء، بل لمنكرات كثيرة وكبيرة، وفي أقل الأحوال مهوِّناً من بعض مظاهر الكفر والفجور.
ولقد وُجد - وللأسف - من يدعو إلى مذهب الإرجاء صراحة، ومن يموِّل ذلك، ويدعم أصحابه، بدعوى أنه السبيل الأنجح لمواجهة الغلو والتطرف والتكفير الذي يقع عند البعض، وبالتالي تضليل أهل السنة والوقيعة بعلمائهم ودعاتهم، ويزعمون أنهم هم الطائفة المنصورة من أهل السنة والجماعة!!
أما الشيعة فما أكثرهم في زماننا - لا كثّرهم الله - ، فهذه دولتهم قد جيّشت جيوشها لمحاربة أهل السنة على كل صعيد، فما أكثر قنواتهم، وما أخبث أساليبهم، وما أكثر أكاذيبهم و افتراءاتهم على الصحابة رضوان الله عنهم بل على الله ورسوله والمؤمنين.
فمن ذا الذي يتصدى لجحافل المضلين، ويُبطل أراجيف المنحرفين إن تقاعس عن ذلك أهل الحق ؟!
لذلك فإن دراسة عقيدة أهل السنة والجماعة يجب أن يرافقها - عند طلاب العلم - معرفة عقائد الفرق الضالة، والرد على أقوالهم، وكشف شبهاتهم بالحجة والدليل، فهذا من العلم النافع الذي يحصّن المسلمين من زيغ أهل الفتن وشُبَه أهل الضلال التي تنتشر في زماننا بسرعة عبر وسائل التواصل الحديثة، والتي تحارب أهل الحق ، وتشيع الفساد في الأرض، وتسعى لتغيير مفهوم الإسلام الوسطي في قلوب وعقول المسلمين، ليوافق أهواء المبطلين، ويحقق أغراضهم.
فلا يكفي في الإيمان التوحيد دون معرفة الشرك، وإلى هذه الحقيقة العظيمة أشار العلي العظيم في قوله: { لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّۚ فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللّه سَمِیعٌ عَلِیمٌ}
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٥٦].
وهذا الأمر أصلٌ، بُعث الرسل لتحقيقه، قال تعالى: {{ وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِی كُلِّ أُمَّةࣲ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ}}
[سُورَةُ النَّحۡلِ: ٣٦].
وأكده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله» " أخرجه مسلم.
وأساس هذا في السنة جلي لحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:
"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"أخرجه البخاري.
وهو أمر مشهود في الواقع فإنه لا تتم معرفة الشيء إلا بنقيضه.
قال ابن قتيبة الدينوري رحمه الله في (تأويل مختلف الحديث): "ولن تكمل الحكمة والقدرة إلا بخلق الشيء وضده ليعرف كل واحد منهما بصاحبه فالنور يعرف بالظلمة، والعلم يعرف بالجهل، والخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضر، والحلو يعرف بالمر".
ويقول عمر رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
فإذا ترك طلابُ العلم أهل الجاهلية يصولون ويجولون اليوم على الفضاء الإلكتروني وغيره، ولم يتصدوا لكشف شبهاتهم وفضح زيف دعواتهم، فكم ستكون خسارة المسلمين في التشكيك بعقيدتهم، والطعن بثوابت دينهم ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خَلَف عُدوله، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبطلين، وتأويل الجاهلين" . رواه البيهقي . وصححه الألباني في " المشكاة ".
{{ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَیۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ }}