حديث: إذا جمع الله الأولين والآخرين، يرفع لكل غادر لواء

- عن النبي - ﷺ - قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان».

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - الفقه وأصوله -

عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان».

 

قوله: (يرفع لكل غادر لواء) في رواية: «لكل غادر لواء ينصب يوم القيامة بغدرته»، وفي رواية لمسلم من حديث أبي سعيد: «يرفع له بقدر غدرته عند استه»، قال ابن المنير: كأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء يكون على الرأس، فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبًا تمتد إلى الألوية، فيكون ذلك سببًا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم، فيزداد بها فضيحة.

 

وقال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته يوم القيامة، فيذمه أهل الموقف[1]؛ انتهى.

 

وقال البخاري: باب إثم الغادر للبر والفاجر[2].

 

قال الحافظ: أي سواء كان من بر لفاجر أو بر، أو من فاجر لبر أو فاجر، قال: وفي الحديث كله تحريم الغدر، سواء كان من بر لفاجر أو من بر لبر، أو كان من فاجر لبر أو فاجر، ولا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، وفيه أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم لقوله فيه هذه غدرة فلان بن فلان[3].

 

تتمة:

قال في الاختيارات: ويجوز عقد الهدنة مطلقًا ومؤقتًا، والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو، ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة في أظهر قولي العلماء، وأما المطلق فهو عقد جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة، وسئل أبو العباس: عن سبي ملطية مسلميها ونصاراها، فحرم مال المسلمين، وأباح سبي النصارى وذريتهم ومالهم كسائر الكفار؛ إذ لا ذمة لهم ولا عهد؛ لأنهم نقضوا عهدهم السابق من الأئمة بالمحاربة وقطع الطريق، وما فيه الغضاضة علينا والإعانة على ذلك، ولا يعقد لهم إلا من بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهؤلاء التتر لا يقاتلونهم على ذلك، بل بعد إسلامهم لا يقاتلون الناس على الإسلام، ولهذا وجب قتال التتر حتى يلتزموا شرائع الإسلام منها الجهاد، والتزام أهل الذمة بالجزية والصغار ونواب التتر الذين يسمون الملوك، لا يجاهدون على الإسلام وهم تحت حكم التتر، ونصارى ملطية وأهل المشرق ويهودهم لو كان لهم ذمة وعهد من ملك مسلم يجاهدهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية كأهل المغرب واليمن، ثم لم يعاملوا أهل مصر والشام معاملة أهل العهد، جاز لأهل مصر والشام غزوهم، واستباحة دمهم ومالهم؛ لأن أبا جندل وأبا بصير حارَبَا أهل مكة مع أن بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهدًا، وهذا باتفاق الأئمة؛ لأن العهد والذمة إنما يكون من الجانبين، والسبي المشتبه يحرم استرقاقه، ومن كسب شيئًا فادعاه رجل وأخذه، فعلى الآخذ المأخوذ منه ما غرمه عليه من نفقة وغيرها إن لم يعرف أنه ملكه، أو ملك الغير، أو عرف وأنفق غير متبرع؛ والله أعلم.

 

وقال أيضًا: والكتاب الذي بأيدي الخيابرة الذين يدعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطل، وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم؛ كأبي العباس بن سريج والقاضي ابن يعلى، والقاضي الماوردي، وذكر أنه إجماع وصدق في ذلك قال أبو العباس: ثم إنه عام إحدى وسبعمائة جاءني جماعة من يهود دمشق بعهود في كلها: أنه بخط علي بن أبي طالب في إسقاط الجزية عنهم، وقد لبسوها ما يقتضي تعظيمها، وكانت قد نفقت على ولاة الأمور في مدة طويلة، فأسقطت عنهم الجزية بسببها وبيدهم تواقة ولاة الأمور، فلما وقفت عليها تبيَّن لي في نقشها ما يدل على كذبها من وجوه عديدة جدًّا، ومن كان من أهل الذمة زنديق يبطن جحود الصانع، أو جحود الرسل أو الكتب المنزلة، أو الذرائع أو المعاد، ويظهر التدين بموافقة أهل الكتاب، فهذا يجب قتله بلا ريب كما يجب قتل من ارتد من أهل الكتاب إلى التعطيل، فإن أراد الدخول في الإسلام، فهل يقال أنه يقتل أيضًا كما يقتل منافق المسلمين؛ لأنه ما زال يظهر الإقرار بالكتب والرسل، أو يقال: بل دين الإسلام فيه من الهدى والنور ما يزيل شبهته بخلاف دين أهل الكتابين، هذا فيه نظر، ويمنع أهل الذمة من إظهار الأكل في نهار رمضان، فإن هذا من المنكر في دين الإسلام، ويمنعون من تعلية البنيان على جيرانهم المسلمين، وقال العلماء: ولو في ملك مشترك بين مسلم وذمي؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العَنوة، فلا يستحقون إبقاءها، ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا، وإذا صارت الكنيسة في مكان قد صار في مسجد للمسلمين يصلى فيه، وهو أرض عنوة، فإنه يجب هدم الكنيسة التي به لما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجتمع قبلتان بأرض»، وفي أثر آخر: (لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب).

ولهذا أقرهم المسلمون في أول الفتح على ما في أيديهم من كنائس العنوة بأرض مصر والشام، وغير ذلك، فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد في تلك الأرض، أخذ المسلمون تلك الكنائس فأقطعوها وبنوها مساجدَ، وغير ذلك، وتنازع العلماء في كنائس الصلح إذا استخدمت هل لهم إعادتها، على قولين، ولو انقرض أهل مصر ولم يبق أحد ممن دخل في العقد، قلنا العقار والمنقول والمعابد فيء، فإن عقد لغيرهم، فكل عقد المبتدأ، فإن انتقض فكالمفتوح عنوة، ويمنعون من ألقاب المسلمين كعز الدين ونحوه، ومن حمل السلاح والعمل به، وتعلم المقاتلة الدقاف والرمي وغيره، وركوب الخيل ويستطب مسلم ذميًّا بقعة عنده كما يودعه ويعامله، فلا ينبغي أن يعدل عنه، قال: واختلف كلام أبي العباس في رد تحية الذمي، هل ترد مثلها أو وعليكم فقط، ويجوز أن يقال: أهلًا وسهلًا، ويجوز عيادة أهل الذمة وتهنئتهم وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام، وقال العلماء: يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام، وليس لهم إظهار شيء من شعار دينهم في دار الإسلام، لا وقت الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك، ويمنعون من المقام في الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة والينبع، وفدك وتبوك ونحوها، وما دون المنحنى، وهو عقبة الصواب والشام كمعان والعشور التي تؤخذ من تجار أهل الحرب تدخل في أحكام الجزية وتقديرها على الخلاف، وقال أبو العباس: في رده على الرافضي أخذ الجزية في جميع الكفار، وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد، بل كانوا قد أسلموا، وقال في الاعتصام بالكتاب والسنة من أخذها من الجميع، أو سوى بين المجوس وأهل الكتاب، فقد خالف ظاهر الكتاب والسنة، ولا يبقى في يد الراهب مال إلا بلغته فقط، ويجب أن يؤخذ منهم مال كالورق التي في الديورة والمزارع إجماعًا، وأن له تجارة منهم أو زراعة، وهو مخالطهم أو معاونهم على دينهم كمن يدعو إليه من راهب وغيره تلزمه الجزية، وحكمه حكمهم بلا نزاع، وإذا أبى الذمي بذل الجزية أو الصغار، أو التزام حكمنا ينقض عهده وساب الرسول يقتل ولو أسلم، وهو مذهب أحمد، ومن قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم، أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين، فهذا يقتل ولو أسلم، ولو قال الذمي هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب ينغصون علينا إن أراد طائفة معينين، عوقب عقوبة تزجره، وأمثاله وإن ظهر منه قصد العموم ينقض عهده ووجب قتله[4]؛ انتهى وبالله التوفيق.

 


[1] فتح الباري: (6/ 284).

[2] صحيح البخاري: (4/ 127).

[3] فتح الباري: (6/284).

[4] الاختيارات الفقهية: (1/ 613 -616).

_______________________________________________________

الكاتب: الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك