التمييز والتمايز في القرآن

معاشر المؤمنين، التمييز والتمايُز موضوعٌ يتجلَّى بوضوح في القرآن الكريم، وسياقٌ قرانيٌّ تتعدَّد أساليبُه ومقاصدُه في ثنايا سوره وآياته

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

معاشر المؤمنين، التمييز والتمايُز موضوعٌ يتجلَّى بوضوح في القرآن الكريم، وسياقٌ قرانيٌّ تتعدَّد أساليبُه ومقاصدُه في ثنايا سوره وآياته، التمييز بين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكافرين، وبين المهتدين والضالِّين، وبين المسلمين والمجرمين، وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار.

 

وهذا التمييز والتمايُز القرآني له مقاصدُه الإيمانية والتربوية والدعوية، فتكرارُه وتعدُّد صوره يُرسِّخ الإيمانَ وحقيقتَه، ويُجلِّي ثمراتَه ودلائله في قلوب المؤمنين، ويزيلُ التردُّد والشكوكَ، ويدرأ الغموضَ أن يتسرَّب للنفوس، ويقطع دابر الشيطان بوساوسه وإغراءاته وشبهاته، كما أن هذا التمييزَ والتمايُزَ يصدعُ بالحجج الباهرةِ والأدلةِ القاطعة في مواجهة الكُفْر والظُّلْم، وقطعِ دابر الفساد والإضلال، كما أنَّ تكرارَ هذا التمييز والتمايُز في مآل كلِّ فريق يسكبُ الاطمئنان والسكينةَ والاستبشارَ في قلوب المؤمنين والمهتدين والمصلحين، ويشعلُ الوعيدَ والتهديدَ والاضطرابَ في قلوب الكافرين والضالِّين والمفسدين.

 

ولنتأمل عباد الله هذه الآيات الكريمات، ونتدبَّر ملامح التمييز والتمايُز في هذا السياق القرآني البديع، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، قطعًا مَن يمشي سويًّا على صراطٍ مستقيم هو أهدى وأرشد سبيلًا، والسؤال في الآية ليس للاستفسار؛ بل للتقرير والقطع.

 

وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]، لا يستوي من يؤمن بالله ويوحِّده ويعبده والمشرك الذي يتخذ آلهةً أخرى، فمآلُ الموحِّد أمن وأمان واطمئنان، ومآلُ الآخر قلق وتشكُّك واضطراب.

 

وقال تعالى في التمييز والتمايُز بين الإيمان والكفر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 - 22]، فتأمَّلوا- أثابكم الله- كيف عدَّدَتْ هذه الآياتِ صورًا للتمييز والتمايُز بين حقيقة الكفر وحقيقة الإيمان، فهما كالعمَى والإبصار، وكالظلمات والنور؛ بل وفي الحقيقة كالفرقِ بين الموت والحياة.

 

أمَّا عن مآل كُلِّ فريق، فالتمايُز والتمييز واضحٌ جدًّا في وعده للمؤمنين والمتقين والمحسنين بالمغفرةِ والرضوان، ووعيده للكافرين والفُجَّار والظالمين بالعذاب والنيران، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وقال جلَّ وعلا: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36].

 

لا يستوي مآلُ المسلمين ومآلُ المجرمين؛ بل لا يظن من له عقل أنهما يستويان؟ وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25]، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 38 - 40]؛ هكذا يتميَّز مآل المؤمنين عن غيرهم.

معاشر المؤمنين، اعلموا أنَّ التمايُز والتمييز يكون بين المؤمنين أنفسهم كذلك، في اختلاف مراتبهم ومنازلهم في العلم والعمل والجهاد والإنفاق، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

 

وهكذا تتوالى الآيات، عباد الله، لتبقى جذوة التنافُس بين المؤمنين مشتعلةً، وهممهم متوقدةً، لنيل أعلى الدرجات، والفوز بأعلى المراتب، كيف لا وهم يقرءون قولَه تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11].

 

فلنتَّقِ الله عباد الله، ولنتدبَّر كتاب الله، وليكن منهجًا للحياةِ لنا ولأهلينا، وحصنًا لنا ولهم من نزغات شياطين الجنِّ والإنس من دُعاة زخرف القول غرورًا.

___________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي