القراءة مهمة إنسانية

القراءة تأخذ المرء من مطالعة كلمات مخطوطة في صفحات كتاب، إلى قراءة أفكار ورؤى مطبوعة في صفحات الحياة...

  • التصنيفات: تزكية النفس - مجتمع وإصلاح -

كادت القراءة أن تكون فضيلةً يتحلَّى بها أثرياءُ العقول وأولو الألباب والنظر، فبها تتجلَّى سيرةُ الحياة، وتتراءى حِكَمُ الدَّهْرِ المقصورات في خيامٍ سامية، وينفتح العقل وينقدح عن بنات أفكارٍ تحوم في فضاء الفكر، وحول جُدد الفهم والتمييز؛ أبيضها وأحمرها.

 

ومن لم يقرأ أحداث الحياة ووقائعها، فهو يحمل على ظهره وِزْرَ الجهل ومعايبه، ولا تسوؤه وصمةُ الدهر أن يقول: كم مررت بجاهل لم تشرئبَّ عنقُه، ولم تُشحَذ همتُه، فيقوم لهفًا لاتباعي ومجاراتي ومحاورتي لأُعلِّمه ممَّا عُلِّمْتُ رشدًا!

 

والقراءة تأخذ المرء من مطالعة كلمات مخطوطة في صفحات كتاب، إلى قراءة أفكار ورؤى مطبوعة في صفحات الحياة، لا يجليها سواها، ما لم يُلْهَم المرء ويُنادى من وراء حجاب! فيتعرف على جماليات وأنمار، وأذكار وأسفار، وما خبَّأه الليل وكشف عن لبناته النهار، فيغزو شمائل مَنْ تنادوا فيما بينهم، وسطروا ما دار من سجال وجدال ونزاع وصراع وسبحات الحب وما خلفته الأطلال.

 

والقراءة شجرة باسقة الأغصان، وارفة الظلال، ثرية الثمار، تؤتي أُكُلها كل حين، ورقها الكلم، وغصنها الحكم، ولحاؤها مادة الفهم التي تعتمل في العقول، وتنير البصيرة نحو كم هائل من المعارف واللطائف.

 

وعمل القراءة في الإنسانية كعمل الغذاء في جسدها البالي، غير أن القراءة تُغذِّي روحًا تطوف في رحاب الكون، منتشية التأمُّل، سافرة عن وجه الحكمة الموسوم في كُنْه الأشياء وتصاريف الأقدار، فهي مهمة عظيمة، وقبلة نبيلة، تنقل لك التاريخ حيًّا تسري فيه الرُّوح، وتبسط لك الرُّوح حيةً متوشِّحةً بأحداث التاريخ، وتلهمك فهم التفاعُلات في الكون، وكيف لعنصر كيميائي أن يختلط بآخر في ظروف ومقادير معينة، فينتج مركبًا جديدًا، وكيف لعنصر بشري أن يُخالِط آخر في ظروف ومقادير معينة، فينتج تواءم وأُلْفة أو غيرة ونفرة!

 

والقراءة مهمة عتيدة، قديمة قدم البشر، فكان أول ما خلق الإله القلم، ليقرأ الناس ما يسطره، بنظر ثاقب وقلب واعٍ وعقل لبيب مدرك، وإن لم نرها مخطوطة على ألواح وحجر، فقد أرشدتنا ملامح الدهر وإشاراته إلى أن هنالك كان شيء مكتوب طالما وجدت أداة الكتابة، فقرأت وأنا في العصر الحديث ما قرأه أبواي في بداية عهدهما، فقرأ آدم فكرة الخلق كما وَعَتْها الملائكة، وحاول جاهدًا أن يتعاطى مع ملكوت الإله وكلماته؛ لكن خانه العزم ولم تسعفه الذاكرة، وقرأ أيضًا هو وزوجته مغبة التعرِّي وعواره وعدم تجانسه مع فطرتهما البشرية السوية فطفقا يخصفان على ما استحَيَا أن يُرى من جسديهما من ورق الجنة ليواريا به سوآتهما! وكم في الحياة من سوأة قصرت يد العِفَّة أن تواريها!

 

وقرأ ابنا آدم فلسفة القتل والتخلُّص من الغريم، فنبذها أحدُهما، وبسط لها الآخر يد السطوة المستقوية بطمع، ورغم عقله المشتعل فكرًا وتصرُّفًا، إلا أنه عجز أن يُواري سوأة أخيه، لولا غراب بهيم علَّمَه مكامن الحكمة، فعلم أن لفظة أخي حان وقتها للتسرية عن نفسه الظالمة الغشوم، فواراه التراب بتجربة عاينها!

 

وهل سطا على أيامنا ذكر أحداث العصور البائدة وصالحيها وأنبيائها وملوكها وشعوبها وحروبها وشعرائها وأقوالهم الحية الحاضرة سوى بالقراءة التي عرفنا بها بدايات الخَلْق وأحوالهم على مَرِّ العصور، فما أجدر القراءة أن تُحيي موات العقول، وترفع أُمَمًا من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان والعلم! وقد تراسل لها مَلاكُ السماء إلى أنبياء الأرض، أن اقرأوا وعلموا من دونكم الكِتاب والحكمة.

 

ومن أتعسُ شأنًا وأقل نصيبًا من فَهْم مدارات الحياة ومبتدئها ومآلاها من إنسان أقعده الجهلُ عن أن يقرأ؟!

______________________________________________
الكاتب: محمد عمر المصري