عودة إلى يأجوج ومأجوج

يأجوج مأجوج طائفتان كبيرتان، وأمتان عظيمتان من ولد آدم عليه السلام وحواء، فهما من الجنس البشري

  • التصنيفات: أشراط الساعة -

 

سامح محمد البلاح

كان لا بد من المرور بقصة ذي القرنين؛ والوقوف على تفصيلاتها؛ لأن هذا الرجل ساقه الحق جل وعلا ليخلص الذين استغاثوا به من هجمات يأجوج ومأجوج وفسادهم، ومن هنا كان أول خيط في قصة هؤلاء القوم يبدأ من قصة ذي القرنين.

لكن، من هؤلاء القوم، ولم سموا بذلك، وما قصت

التسمية:

اختلف العلماء في أصل هذين الاسمين:

فمنهم من قال: إنهما اسمان أعجميان منعًا من الصرف للعلمية والعجمة، وبناء على هذا، فهما غير مشتقين؛ لأن الاسم الأعجمي لا يشتق من العربية.

ومنهم من قال: إنهما اسمان عربيان، واختلف في اشتقاقهما، فقيل: إنهما مشتقان من أجيج النار، أي: التهابها، وقيل: إنهما مأخوذان من الأُجاج وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل: من الأجّ وهو سرعة العدو، وقيل: من الأجّة بالتشديد، وهي الاختلاط والاضطراب. انظر: لسان العرب 2/ 207، التذكرة للقرطبي ص 815، فتح الباري لابن حجر 13/ 106، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/ 113.

يقول الفخر الرازي في تفسيره: " في يأجوج ومأجوج قولان:

الأول: أنهما اسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف.

والقول الثاني: أنهما مشتقان، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز. وقرأ الباقون ياجوج وماجوج. وقرىء في رواية آجوج ومأجوج، والقائلون بكون هذين الاسمين مشتقين ذكروا وجوهًا. الأول: قال الكسائي: يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها؛ فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك. ومأجوج من موج البحر. الثاني: أن يأجوج مأخوذ من تأجّج الملح وهو شدة ملوحته؛ فلشدتهم في الحركة سموا بذلك. الثالث: قال القتيبي: هو مأخوذ من قولهم أجّ الظليم في مشيه يئجّ أجًّا إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه. الرابع: قال الخليل: الأجّ حب كالعدس والمجّ مجّ الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما".

ويعضد القول باشتقاق الاسمين أنه مناسب لحال يأجوج ومأجوج وصفاتهم، كما يعضد الاشتقاق أيضًا، وقول من جعله من ماج إذا اضطرب قوله تعالى: وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض". عند خروجهم من السد. انظر: فتح الباري 20/ 147.

فصفات يأجوج ومأجوج وما اتسموا به من سرعة الحركة وشدة اضطرابها، كل ذلك يقوي القول باشتقاق الاسمين.

وخلاصة القول: إن يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار أي من التهابها ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة والحرارة؛ فالنار المضطرمة المتأججة والمياه الحارة المحرقة المتموجة تناسب ما ورد من كثرة تقلبهم، وشدة تأججهم واضطرابهم، وسرعة حركتهم، وكثرة تخريبهم، وإفسادهم في الأرض.

النسب:

يأجوج مأجوج طائفتان كبيرتان، وأمتان عظيمتان من ولد آدم عليه السلام وحواء، فهما من الجنس البشري، وليسوا إخوانًا للبشر من جهة أبيهم آدم، كما زعم البعض.

فقد حكى النووي - رحمه الله - في شرح "مسلم" عن بعض الناس: أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك. فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا من حواء. ووقع في فتاوى الشيخ محيي الدين: " يأجوج ومأجوج من أولاد آدم لا من حواء عند جماهير العلماء فيكون إخواننا لأب".

وهذا القول كان قد أثاره كعب الأحبار، حيث كان يقول: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف، فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الاب لا من جهة الام" انظر: تفسير القرطبي 11/ 56.

ولا يخفى ما في هذا القول من الغرابة والنكارة؛ لأن الأنبياء - كما قال العلماء - لا يحتلمون، كما أن هذا القول صادر من كعب الأحبار وهو من أحبار اليهود الذين دخلوا الإسلام وبين أيديهم من الإسرائيليات ما لوث كتب التفسير؛ فلا يجوز الرجوع إليها، أو الاعتماد عليها؛ لأن معظمها أكاذيب وأحاديث مفتعلة.

يقول القرطبي: وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. السابق.

وقال ابن كثير: وهذا قول غريب جدًّا، ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب، لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم.

وقال ابن حجر: ولم نر هذا عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح ونوح من ذرية حواء قطعًا.

يتضح لنا من أقوال العلماء أن يأجوج ومأجوج بشر كسائر البشر، من ذرية آدم، يدلنا على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «"يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟! قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد". قالوا: وأينا ذلك الواحد؟ قال: "أبشروا؛ فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألف"» . [رواه البخاري] .

قال الحافظ: "البعث بمعنى المبعوث وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها، ومعناها هنا: ميّز أهل النار من غيرهم، وإنما خُصّ بذلك آدم لكونه والد الجميع، ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء. فقد رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة الحديث". تحفة الأحوذي 8/ 2.

الجد نوح والأب يافث:

جاءت الأحاديث الصحيحة بالنص الصريح على أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم عليه السلام، فهما قبيلتان من ولد يافث أبي الترك، ويافث هذا هو ابن سيدنا نوح عليه السلام، قال تعالى: " {وجعلنا ذريته هم الباقين} ".

قال أهل التاريخ: أولاد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والشام، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج.

وقال الكسائي في العرائس: إن يافث سار إلى المشرق، فولد له هناك جوهر ونبرش وأشار واسقويل ومياشح، وهي أسماء أعجمية، فمن جوهر جميع الصقالبة والروم وأجناسهم، ومن مياشح جميع أصناف العجم، ومن أشار يأجوج ومأجوج وأجناسهم. أهوال يوم القيامة وعلاماتها الكبرى، السفاريني، ص68.

لكن، ما علاقة يأجوج ومأجوج بالترك؟

يقول البلاذري: الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام باتفاق النسابين وكان ليافث سبعة أولاد منهم ابن يسمى كور، فالترك كلهم من بني كومر. ويقال: الترك هو ابن يافث لصلبه وهم أجناس كثيرة ذكرناهم في (تاريخنا الكبير). عمدة القاري 14/ 200.

ووفقًا للآثار المروية وما نقله المؤرخون، يتضح لنا أن يأجوج ومأجوج والترك أو التتار بني جنس واحد، ويجمعهما أصل واحد، وهو يافث بن نوح عليه السلام، فالترك - إذن - أحد فروع يأجوج ومأجوج، وسرية من سراياهم كانوا في غزو أثناء قيام ذي القرنين ببناء الردم، فتركوا خارج الردم؛ فلذلك سموا الترك.

روى ابن مردويه من طريق السدى قال: الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت تغير فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجًا.

وروى ابن أبي حاتم وغيره من طريق سعيد بن بشير عن قتادة قال: يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة بني ذو القرنين السد على إحدى وعشرين، وكانت منهم قبيلة في الغزو غائبة وهم الأتراك، فبقوا دون السد.

وقد ذكر القرطبي عن الضحاك أنه قال: "الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت في هذا الجانب".

وقد خلط المؤرخون ومن تابعهم بين يأجوج ومأجوج والترك المغول، استنادًا إلى هذه الأخبار التي تبين أنهما من أصل واحد، وظنوا اجتياحهم الذي حدث في القرن السابع الهجري هو الخروج الذي جاء في القرآن الكريم.

وهذا الخلط الذي وقع فيه المؤرخون لم يأت من فراغ، فإنه يتبين لنا من مجموع هذه الأقوال والأخبار أن يأجوج ومأجوج قبل بناء الردم كانوا وحدة واحدة، فقام ذو القرنين بالردم عليهم، كما جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم في سورة الكهف، ولم يردم على جزء منهم كانوا خارج أراضيهم في غزو لهم، كما جاء في الآثار المروية آنفًا. (راجع في ذلك: يأجوج ومأجوج من الوجود حتى الفناء، ص246.)

وهؤلاء الترك، الذين تركوا خارج الردم أجناس كثيرة سكنت الشمال الشرقي لآسيا قديمًا، وقد اختلف في أصلهم فقال الخطابي: هم بنو قنطوراء أمة كانت لإبراهيم عليه السلام. وقال كراع: هم الديلم. وتعقب بأنهم جنس من الترك وكذلك الغز وقال أبو عمرو: هم من أولاد يافث وهم أجناس كثيرة وقال وهب بن منبه: هم بنو عم يأجوج ومأجوج لما بنى ذو القرنين السد كان بعض يأجوج ومأجوج غائبين فتركوا لم يدخلوا مع قومهم فسموا الترك. وقيل: إنهم من نسل تبع. وقيل: من ولد أفريدون بن سام بن نوح وقيل: ابن يافث؛ لصلبه وقيل ابن كومي بن يافث. فتح الباري 6/ 104.

وسئل علي - رضي الله عنه - عن الترك، فقال: هم سيارة ليس لهم أصل، هم في يأجوج ومأجوج، خرجوا يغيرون على الناس، فجاء ذو القرنين فسد بينهم وبين قومهم، فذهبوا سيارة في الأرض. رواه ابن المنذر.

ومعنى هذا الكلام أن الترك من قوم يأجوج ومأجوج، وكانوا خارج الردم حين بناه ذو القرنين، وهؤلاء هم التتار المغول؛ لما بينهم وبين يأجوج ومأجوج من صلة وقرابة؛ قرابة الأصل الواحد الذي يوحد بينهم، وقرابة الشكل الواحد والصفات المشتركة التي تجمعهم، فقد اشتهر نسل يافث بالرأس المستدير والشعر الأسود الخشن والجبهة المرتفعة والوجه العريض المفلطح، والعيون المتحرفة ذات الجفون السميكة والأنوف العريضة والآذان الطويلة الضيقة والشفاه المتوسطة واللون المائل إلى الصفرة والقامة المتوسطة وفي الغالب القصير. راجع في ذلك: يأجوج ومأجوج من الوجود حتى الفناء، ص21.

وقد اغتر قوم بهذه الصفات المشتركة، فزعموا أن التتار الذين اجتاحوا العالم الإسلامي في القرن السابع هم يأجوج ومأجوج، وأن انسياحهم هو الخروج الذي دلت عليه الآيات القرآنية وليس كذلك وإنما هم طائفة منهم كانوا في غزو لهم فتركوا خارج الردم؛ لأن يأجوج ومأجوج سيخرجون في نهاية الزمان، كما دل على ذلك حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه النواس بن سمعان - رضي الله عنه -، والذي يثبت أن خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى وأن هذا سيكون بعد نزول نبي الله عيسى عليه السلام وقتله الدجال.

وهذه الأوصاف مطابقة - أيضًا - لما ورد من صفة الترك أو المغول الذين قاتلهم المسلمون في القرن السابع الهجري في موقعة عين جالوت، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حمر الوجوه، ذُلْف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر". رواه البخاري

قال القاضي البيضاوي: "شبه وجوههم بالترس لبسطها وتدويرها وبالمطرقة لغلظها وكثرة لحمها. وقال الهروي: المجان المطرقة هي التي أطرقت بالعصب أي ألبست به. وقيل: المطرقة هي التي ألبست الطراق وهو الجلد الذي يغشاه ويعمل هذا حتى يبقى كأنه ترس على ترس".

وفي رواية أخرى قال -صلى الله عليه وسلم-: " «إنكم تقولون: لا عدو، وإنكم لن تزالوا تقاتلون حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعاف ومن كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» ". [ رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح] .

يقول البلاذري: فإن قلت هذا الخبر من جملة معجزات النبي حيث أخبر عن أمر سيكون فهل وقع هذا أم سيقع؟ قلت: قد وقع بضع ذلك على ما أخبر به رسول الله في سنة سبع عشرة وستمائة، وقد خرج جيش عظيم من الترك، فقتلوا أهل ما وراء النهر وما دونه من جميع بلاد خراسان، ولم ينجُ منهم إلا من اختفى في المغارات والكهوف، فهتكوا في بلاد الإسلام إلى أن وصلوا إلى بلاد قهستان، فخربوا مدينة الري وقزوين وأبهر وزنجان وأردبيل ومراغة كرسي بلاد أذربيجان، واستأصلوا شأفة من في هذه البلاد من سائر الطوائف، واستباحوا النساء وذبحوا الأولاد، ثم وصلوا إلى العراق الثاني وأعظم مدنه مدينة أصفهان، وقتلوا فيها من الخلائق ما لا يحصى، وربطوا خيولهم إلى سواري المساجد والجوامع كما جاء في الحديث.

وروى أبو داود الطيالسي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال رسول الله: " «لينزلن طائفة من أمتي أرضًا يقال لها البصرة، فيجيء بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار العيون، حتى ينزلوا على جسر لهم يقال له دجلة، فيفترق المسلمون ثلاث فرق: أما فرقة فتأخذ بأذناب الإبل، فتلحق بالبادية فهلكت، وأما فرقة فتأخذ على أنفسها فكفرت فهذه وذلك سواء، وأما فرقة فيجعلون عيالاتهم خلف ظهورهم ويقاتلون فقتلاهم شهيد ويفتح الله على بقيتهم» .

وروى البيهقي من حديث بريدة «إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه؛ كأن وجوههم الجحف ثلاث مرات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب قالوا: يا نبي الله، من هم؟ قال: "الترك، والذي نفسي بيده، ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين» ". انظر: عمدة القاري 14/ 201.

ويقول ابن كثير: "والمقصود أن الترك قاتلهم الصحابة فهزموهم وغنموهم وسبوا نساءهم وأبناءهم، وظاهر هذا الحديث يقتضي أن يكون هذا من أشراط الساعة، فإن كانت أشراط الساعة لا تكون إلا بين يديها قريبًا، فقد يكون هذا - أيضًا - واقعًا مرة أخرى عظيمة بين المسلمين وبين الترك، حتى يكون آخر ذلك خروج يأجوج ومأجوج كما سيأتي ذكر أمرهم، وإن كانت أشراط الساعة أعم من أن تكون بين يديها قريبًا منها؛ فإنها تكون مما يقع في الجملة ولو تقدم قبلها بدهر طويل، إلا أنه مما وقع بعد زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الذي يظهر بعد تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب". النهاية في الفتن والملاحم.

صفاتهم:

لا نكاد نجد فيما لدينا من مصادر شيئًا يضع أيدينا على صفات يأجوج ومأجوج، وأكثر ما جاء إنما هو روايات إسرائيلية، لا نطمئن لها، فكلها عجائب وغرائب تنبئ من أول وهلة بكذبها وتهافتها، يقول ابن كثير: "ومن زعم أن منهم الطويل الذي كالنخلة السحوق، ومنهم القصير، ومنهم من له أذنان يتغطى بأحدهما، ويتوطأ بالأخرى، فقد تكلف ما لا علم له به، وقال ما لا دليل عليه".

لكننا نستبعد هذا كله ونكتفي النص القرآني اليقيني، بيد أننا لا يجد أي إشارة فيه إلى صفة هؤلاء القوم، فالقرآن اقتصر على صفة من صفاتهم وهي الإفساد الناتج عن طبيعتهم الخبيثة. ويا لعظمة القرآن حين يصور طبيعة قوم أفسدوا في الأرض! إنه لا ينحو إلى التفصيل الذي يكوّن الصورة الموحشة لهؤلاء القوم، وإنما يعتمد على الكلام العام، الذي يرسم من خلاله كل شخص يقرأ الآيات صورة فيها قسمات هؤلاء القوم وملامح شخصيتهم التي أحدثت هذا الفساد في الأرض، ومن ثم تتعدد التخيلات والصور وهذا ما يريده القرآن الكريم؛ لأن هذا يحدث في النفس من الأثر ما لا تحدثه الصورة الواحدة التي تحددت من التفصيلات المسهبة. وإذا حللنا قوله: "فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا". نجد أن النص القرآني كان يعي مسبقًا قوة هؤلاء القوم وضخامة أجسادهم، فأتى بما يلائم هذا إعجازًا ولبيان قوة الردم الذي بناه ذو القرنين ومدى إحكام بنائه.

فكلمة "استطاعوا" التي تعني القدرة، جاءت مكررة في الآية، لكن جاءت في أول الآية دون تاء؛ لأن تسلق السد يحتاج إلى خفة ولياقة، فحذفت التاء من الكلمة تخفيفًا، لتناسب حالهم وهم يصعدون، كما أنها لم تحذف من الكلمة الثانية؛ لأن النقب يحتاج إلى قوة عضلية وإمكانات وآلات وكل ذلك ثقل على كواههلهم يناسبه الثقل الموجود في كلمة "استطاعوا".

لكن، هناك المزيد من الأمور التي توقفنا على صفاتهم، فمن يتأمّل اسمهم ويرجع إلى الأصل الذي اشتق منه، يمكن أن يضيف إلى الصورة التي رسمها من خلال الآيات القرآنية ملامح شخصيتهم وسماتها، فقد اتفق المحققون من أهل اللغة أن الاسمين مشتقان من أجيج النار، أي اضطرامها وتأججها، أو من الماء الأجاج أي المتموج الشديد الملوحة والحرارة، وهذه الصفات التي اشتق منها هذان الاسمان تضع بين أيدينا السمات هؤلاء القوم، وهي كثرة تقلبهم وشدة اضطرابهم، وسرعة عدوهم وقوته، وحشية اجتياحهم في الأرض، وهذه الصفات لا تتصف بها غير الأجساد التي توافر حظها من القوة العضلية والكثرة العددية.

كما أن من يتأمل الطبيعة الجبلية التي كان يسكنها هؤلاء القوم يستطيع أن يتخيل تكوين أجسامهم وسماتهم النفسية وقدراتهم العضلية، ونجد مصداق هذه الأوصاف في أحد فروعهم المغول الذين انحدروا من المكان نفسه وغزوا البلاد الإسلامية وأكثروا فيها الفساد.

ثم إن الحديث النبوي الذي رواه النواس بن سمعان في ذكر خروجهم آخر الزمان يوقفنا على حجم هؤلاء القوم ومدى ضخامة أجسادهم بناء على الأثر الذي يحدثه خروجهم آخر الزمان.

وإذا رجعنا إلى المصادر التاريخية، نجد وصفًا لهم سجله أبو الطب اليوناني أبو قراط في أخريات القرن السابع قبل الميلاد حين خرجوا على جيرانهم من أهل الصين والآشوريين ثم الرومان، وأحدثوا الخراب والفساد في تلك البلاد، وأطلق عليهم "السكيثيون"، فقال أبو قراط:

"والسكيثيون يتشابهون فيما بينهم بمقدار ما يختلفون عن سائر الشعوب ولونهم أحمر مشرب بسمرة".

ويصف أجسامهم وتأثير المناخ البارد عليهم:

"والسكيثيون بالضرورة ضخام، سمنهم يحجب مفاصلهم، وأبدانهم رطبة مسترخية، وتجاويفهم ولا سيما السفلى ملآنة رطوبة؛ لأنه لا يمكن أن ييبس البطن في مثل هذه البلاد ومع هذا المزاج وتحت هذا الإقليم، فسمنهم وبضاضة جلودهم يجعلانهم متشابهين بعضهم لبعض، رجالهم لرجالهم، ونسائهم لنسائهم؛ لأنه لما كانت فصولهم تكاد تكون واحدة لم يكن المني يحصل في تجمده فسادًا أو تغيرًا إلا لآفة أو مرض". كتاب "أبو قراط أبو الطب"، الأهوية والمياه والبلدان.

كما وصف المؤرخ الروماني "جوردانيس" ملامحهم بعد أن رآهم عن قرب فقال: هؤلاء "يعني يأجوج ومأجوج" ليسوا ببشر، وليس لهم لسان مفهوم كسائر خلق الله، ولا حرفة عندهم إلا الصيد وإدخال الرعب في قلوب أعدائهم، فقد كان مظهرهم مخيفًا لدرجة أن الشعوب القوية كانت تهرب في فزع؛ تجنبًا للقائهم؛ لأن لونهم الداكن، ووجوههم الكالحة كانت تقذف بالرعب في القلوب".

وقد وصف الشاعر الفارسي "أمير خسرو" المغولَ فقال: "عن عيون المغول ضيقة جدًّا، وتظهر مجوفة بشكل عميق، بحيث يخيل للمرء من ضيقها كما لو حفرت في قطعة نحاس صفراء، ورائحة أجسامهم منتنة ومقززة للنفس، وأشد قرفًا وبشاعة من لونها المرعب، أما رؤوسهم فموضوعة على أبدانهم بحيث تيدوا للعيان كما لو كانت وضعت على أجسامهم دون أن يكون لها رقاب، وخدودهم تشبه القوارير الجلدية، تغطيها غضون وثنايا وتجاعيد ذات عقد وأنوفهم مفلطحة.. وشواربهم طويلة وكثيفة إلى حد الغرابة، بينما شعر اللحية خفيف يتناثر على الذقون بلا نظام". انظر: يأجوج ومأجوج من الوجود حتى الفناء، ص22-23 بتصرف.

كما وردت صفات الترك المغول في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حمر الوجوه، ذُلْف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر".

وفي رواية أخرى: " «إنكم تقولون لا عدو، ولا تزالون تقاتلون عدوًا حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعور من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة» ". [رواه أحمد والطبران] ي.

فصفات الترك المغول كما دل عليها الحديثان، هي: عراض الوجوه - صغار الأعين - صهب الشعور، أي لها سواد يضرب إلى البياض أو الكُدْرة، كأن وجوههم المجان المطرقة، أي التروس المستديرة.

والذي دعانا إلى ذكر أوصاف المغول أو التتار أنهم يلتقون مع يأجوج ومأجوج في الأصل الواحد وهم بقيتهم الذين تركوا خارج السد، ونسل يأجوج ومأجوج يشترك في الشكل العام إلى حد كبير، فقد اشتهر نسل يافث بالرأس المستدير والشعر الأسود الخشن والجبهة المرتفعة والوجه العريض المفلطح، والعيون المتحرفة ذات الجفون السميكة والأنوف العريضة والآذان الطويلة الضيقة والشفاه المتوسطة واللون المائل إلى الصفرة والقامة المتوسطة وفي الغالب القصير. انظر: يأجوج ومأجوج من الوجود حتى الفناء، ص21.

عددهم ومدى فتنتهم:

من يتأمل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تثبت خروج يأجوج ومأجوج كعلامة على قرب الساعة، يستطيع أن يرى تلك الكثرة الكاثرة التي اتصف بها هؤلاء القوم، فآية سورة الكهف تقول: "وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض".

فلك أن تتأمل كلمة "يموج"، وما فيها من حركة واضطراب، فهي مأخوذة من الموج بمعنى الاختلاط والاضطراب، يقال: ماج البحر إذا هاج موجه واختلط واضطرب، ويقال: ماج القوم إذا دخل بعضهم في بعض وتزاحموا واختلطوا حائرين فزعين. فالكلمة بهذه المعاني توحي بمدى الكثرة التي كان عليها هؤلاء القوم، حتى إنهم بقوا خلف السد مختلطين حائرين لا يستطيعون الخروج، فالآية تعني على أحد تفسيريها: وجعلنا وصيرنا بمقتضى حكمتنا وإرادتنا وقدرتنا، قبائل يأجوج ومأجوج يموج بعضهم في بعض. أي: يتزاحمون ويضطربون من شدة الحيرة؛ لأنهم بعد بناء السد، صاروا لا يجدون مكانًا ينفذون منه إلى ما يريدون النفاذ إليه، فهم خلفه في اضطراب وهرج. التفسير الوسيط، سيد طنطاوي، ص2751.

كما أن آية سورة الأنبياء تقول: " {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} ". ومعناها على أحد التفسيرين: إن يأجوج ومأجوج ينحدرون من كل مرتفع على الأرض مسرعين إلى الأماكن التي يوجههم الله عز وجل إليها، فكلمة "فتحت"، وما تدل عليه من دك السد وفتحه يوم اقتراب الساعة، واندفاع من خلفه إلى الخروج، وكلمة "حدب" التي تدل على انسياح هؤلاء القوم حتى إن اجتياحهم يكون من كل حدب، هاتان الكلمتان تنبئان بكثرة هائلة لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.

وأضع هنا بين يدي كل من يريد أن يقف على عدد هؤلاء القوم ومدى كثرتهم - حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟! قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد". قالوا: وأينا ذلك الواحد؟ قال: " «أبشروا؛ فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألف» ". [رواه البخاري] .

وروى - أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: " «تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كما قال الله عز وجل: "من كل حدب ينسلون". فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يَبَسًا حتى إن من يمر من بعدهم بذلك النهر، فيقول: قد كان ههنا ماء مرة. حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، بقي أهل السماء. ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء فترجع مختضبة دمًا للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله - عز وجل - دودًا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى، لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه، فينظر ما فعل هذا العدو؟ فيتجرد رجل منهم محتسبًا نفسه، قد أوطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين، ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرّحون مواشيهم، فما يكون لهم مرعى إلا لحومهم، فتشكر عنه كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط» . [رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم] .

وخلاصة القول إن أعداد هؤلاء القوم كبيرة جدًّا، لا يحيط بها إلا الله، ومما يدل على عظم أعدادهم أن المسلمين سيوقدون سبع سنين من قسيهم ونشابهم وأترستهم، كما يدل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه النواس بن سمعان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " «سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين » [رواه ابن ماجه] .

فهذا الحديث والحديث الذي سبقه يضع أيدينا على كثرة عددية اتصف بها هؤلاء القوم، تعيث في الأرض فسادًا كما عاثت من قبل، فهؤلاء القوم لكثرتهم العددية يأتون على الأخضر واليابس، ويشربون ماء الأرض، حتى إن الأنهار والبحار لتيبس وينضب ماؤها، وتقع فتنة عامة تعصف بالأرض وشرٌّ مستطيرٌ لا يقدر أحد على دفعه؛ لأنه لا طاقة لأحد بقتالهم، وبعد انتشارهم في الأرض ينحاز الناس إلى حصونهم ويخلون لهم الطرقات خوفًا منهم، فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، ويتمادون في فجرهم وفسادهم، فيقولون: تعالوا لنقتل أهل السماء. فيرسلون نشابهم وسهامهم إلى السماء، ويبتليهم الله عز وجل ليتمادوا في غيهم فيرد عليهم نشابهم ملطخة دمًا، فيقولون: قتلنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء.

ففتنة يأجوج ومأجوج بلاء مبين لم تشهد الأرض مثله قط، وشر مستطير لم تعيه البشرية من قبل، لذا فإن الناس يذهلون من وقع هذا الحدث عليهم، ويعم الأرض هرج ومرج يطيش معه الصواب، ويعصف بالعقول فلا يدري أحد أين المصير!