{وإذ ابتلى إبراهيم ربه}
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
{وَإِذِ ابْتَلَى} : واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، والابتلاء: الاختبار، ومعناه: أنه كلَّفه بأوامرَ ونَواهٍ، إما من الفضائل والآداب، وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به.
{إِبْرَاهِيمَ} مفعول مقدم، وإبراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين «أب رحيم» أو «أب راحم»؛ قاله السهيلي وابن عطية، وفي التوراة أن اسم إبراهيم «إبرام» وأن الله لما أوحى إليه وكلَّمَه أمره أن يُسمِّي إبراهيم؛ لأنه يجعله أبًا لجمهور من الأُمَم، فمعنى إبراهيم على هذا: أبو أمم كثيرة.
ولد في أور الكلدانيين سنة 1996 ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان وهي أرض الفينيقيين فأقاموا بحاران التي هي حوران، ثم خرج منها لقحط أصاب حاران، فدخل مصر وزوجه سارة، وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة، فرأى آيةً صرفَتْه عن مرامه، فأكرمها وأهداها جاريةً مصريةً اسمها هاجر؛ وهي أم ولده إسماعيل، وسمَّاه الله بعد ذلك إبراهيم، وأسكن ابنه إسماعيل وأمَّه هاجر بوادي مكة، ثم لما شبَّ إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك.
والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداءً وبني إسرائيل تبعًا له؛ لأن العرب أشدُّ اختصاصًا بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه، ومنتمين قديمًا للحنيفية، ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين.
وفي هذه الآية مقصد آخر؛ وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام؛ لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس، وتذرَّعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه؛ لأنه غيَّر قِبْلَتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال، وأنَّ الله استبقاها لهذه الأُمَّة تنبيهًا على مزية هذا الدين.
{رَبُّهُ} فاعل مؤخر، قدم المفعول {إِبْرَاهِيمَ} للاهتمام بمن وقع له الابتلاء؛ إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي، وقيل: المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز؛ فلذلك لم يقل: "وإذ ابتلى اللهُ إبراهيمَ".
أضاف الربوبية إلى إبراهيم: وهي من الربوبية الخاصة؛ فالربوبية بإزاء العبودية؛ فكما أن العبودية نوعان ــــ خاصة وعامة ــــ فالربوبية أيضًا نوعان: خاصة وعامة؛ وقد اجتمعا في قول السحرة: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 121]: هذه عامة؛ {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122]: هذه خاصة؛ ولا شك أن ربوبية الله سبحانه وتعالى للرسل ــــ ولا سيما أولو العزم منهم؛ وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام ــــ أخص الربوبيات.
{بِكَلِمَاتٍ} وهذه الأشياء التي فسرت بها الكلمات، إن كانت أقوالًا، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات، وإن كانت أفعالًا، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازًا؛ لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر، والأوامر كلمات.
الأصحُّ في الكلمات التي ابتُلي بها أنها التكاليف؛ أي: اختبره بما تعبَّده به من السنن، وقيل: هي عشر خلال، خمس منها في الرأس: الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق، وخمس في البدن: الختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، فأتمهُنَّ، وعمل بهن، ولم يدع منهن شيئًا.
قال بعض أهل العلم: هو أن الله أوحى إليه أن تَطَهَّر فتمضمض، ثم أن تَطَهَّر فاستنشق، ثم أن تَطَهَّر فاستاك، ثم أن تَطَهَّر فأخذ من شاربه، ثم أن تَطَهَّر ففرق شعره، ثم أن تَطَهَّر فاستنجى، ثم أن تَطَهَّر فحلق عانته، ثم أن تَطَهَّر فنتف إبطه، ثم أن تَطَهَّر فقلم أظفاره، ثم أن تَطَهَّر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقَدُوم، فإن صحت تلك الرواية، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده، وابن ثمانين سنة من وقت نبوَّته، فيتفق التاريخان، والله أعلم.
قال ابن عاشور: والغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله للتكاليف فأتى بها كاملة؛ فجُوزي بعظيم الجزاء، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة، ولعل جمع الكلمات جمع السلامة يُؤذِن بأن المراد بها أصول الحنيفية، وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة، فلعل منها الأمر بذبح ولده، وأمره بالاختتان، وبالمهاجرة بهاجر إلى شُقة بعيدة، وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106].
{فَأَتَمَّهُنَّ} أدَّاهن، وقام بهن، وأتى بهن على الوجه المأمور به، وجيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم والإتمام، وفي معنى الإتمام قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، وقوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105]، وهذه الجملة هي المقصودة من سَرْد القصة.
{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ} يراد به جميع المؤمنين من الأمم بعده، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم ﴿ إِمَامًا ﴾ يأتمون بك في هذه الخصال الحميدة، وقدوة صالحة يقتدي بك الصالحون، فأصله ما يحصل به الأمُّ؛ أي: القصد، ولما كان الدال على الطريق يقتدي به السائر دَلَّ الإمام على القدوة والهادي.
وقيل: المراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة، والرسول أكمل أفراد هذا النوع، وإنما عدل عن التعيين بـ ﴿ رسولًا ﴾ إلى ﴿ إِمَامًا ﴾ ليكون ذلك دالًّا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة، فتنقَّل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر، وكان في جميع منازله محل التبجيل، ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء.
{قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} واجعل من ذريتي إمامًا أيضًا، سأل أن يكون في ذريته الإمامة بأنواعها من رسالة وملك وقدوة على حسب التهيُّؤ فيهم، وأقل أنواع الإمامة كون الرجل الكامل قدوة لبنيه وأهل بيته وتلاميذه.
ولم يقل وذريتي؛ لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نَسْل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم؛ فلم يسأل ما هو مستحيل عادة؛ لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
{قَالَ} الله تعالى {لَا يَنَالُ عَهْدِي} العهد هنا بمعنى الوعد المؤكد، وسُمِّي وعد الله عهدًا؛ لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك، فصار وعده عهدًا؛ ولذلك سمَّاه النبي عهدًا في قوله: ((أنشدك عهدك ووعدك))؛ أي: لا ينال وعدي بالإمامة الظالمين منهم.
ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا؛ لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدًا بأنه مع ذريته، ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم، وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين.
{الظَّالِمِينَ} استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما؛ لأن حكم أحد الضدَّين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز، وإنما لم يذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة؛ لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضًا بأن الذين يزعمون يومئذٍ أنهم أولى الناس بإبراهيم- وهم أهل الكتاب ومشركو العرب - هم الذين يحرمون من دعوته، قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 67، 68]، ولأن المُربِّي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحثِّ على المصالح، فبيان الذين لا تتحقَّق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين.
وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في "الصافات" بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113].
والمراد بالظالمين ابتداءً المشركون؛ أي: الذين ظلموا أنفسهم؛ إذ أشركوا بالله، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، والظلم يشمل أيضًا عمل كبائر المعاصي كما وقع في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]، وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة، وأعلاها الشرك بالله تعالى.
وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذٍ ليسوا جديرين بالإمامة لاتِّصافهم بأنواع من الظلم؛ كالشرك وتحريف الكتاب، وتأويله على حسب شهواتهم، والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم.
وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله، فيفهم من العِلَّة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد.
وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقًّا لإسناد الإمامة إليه أعنى سائر ولايات المسلمين: الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك.