حتى تستمر الحياة
لما كان الخطأ سمةً من سمات بني آدم، كان لزاماً علينا -حتى نحافظ على علاقاتنا الاجتماعية- أن نغض الطرف عما يصدر من إخواننا أحياناً من تصرفات غير مَرضية اجتماعياً.
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
ما كان الإنسانُ مدنياً بطبعه، اجتماعياً بفطرته، يألف ويؤلف، يعيش في ثوب الجماعة، ويحيا في نسيج البيئة التي تحيط به، يخالط الناس، ويعافس الضيعة والأولاد، يأخذ ويعطي، كان لابد في معاملاته تلك من أن يتعرض لمواقفَ اجتماعية ربما لا يرضى عنها ولا يستسيغها، كان من الضروري أن يتوافق مع السلوكيات العامة للمجتمع، فهذه بعض نقاط وضعتها من خبرة الحياة، وتجربة المعاشرة والاحتكاك أضعها بين أيديكم لعل الله تعالى أن ينفعني بها وينفع بها من قرأها:
• لا تنظر إلى أحد على أنه كامل؛ حتى لا ترى منه زلة فينهار صرحُ الفضيلة في عينك:
ينظر المرء في بعض الأحيان إلى من يحب على أنه كامل الأخلاق، جامع الفضيلة، جمُّ الأدب، ومن ثَمَّ ينظر إلى جميع تصرفاته بعين الرضا والكمال، ومن المؤكد أنَّ هذا لا يستقيم بحال؛ لأنّّ الله تبارك وتعالى تفرد بالكمال المطلق، فلا ينبغي لنا أبداً أن نتعامل مع من نحب أو نجلُّ أو نحترم على هذا الأساس؛ خشية أن تقع منه زلة -وهذه طبيعة البشر- فتظلمَ الدنيا في أعيننا، وتتوقفَ عجلة الحياة الدائمةُ الدوران.
• حاول أن تغض الطرف عن مساوئ أخيك ما استطعت:
لما كان الخطأ سمةً من سمات بني آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كلُّ بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، كان لزاماً علينا -حتى نحافظ على علاقاتنا الاجتماعية- أن نغض الطرف عما يصدر من إخواننا أحياناً من تصرفات غير مَرضية اجتماعياً، وبقدر تعامي المرء عن سقطات غيره يكون غضُُّهم للطرف عن أخطائه.
• لا تتصيد عيوب أخيك، فيتصيدَ الآخرون عيوبك، ولا تنتظر من أخيك خطأً:
لما كان الجزاء من جنس العمل، فإن من تتبع عورة أخيه وتصيَّدَ أخطاءه وزلاتِه سلَّط الله تبارك وتعالى عليه من يفعل ذلك معه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله»، فعلى المسلم أن لا يعامل إخوانه على حرف، بل ينبغي للمسلم أن يعاشر الناس بالحسنى.
• لا تكثر العتاب في كل صادرة وواردة فيملَّك مَن حولك:
العتاب صابون القلوب ولا يعاتبك غير محب -كما يقولون- فهو يغسل دنس القلوب، ويمحو رانها، ويصقلها حتى تعود صافية، ولكن الإكثار من معاتبة الإخوان كلما صدر من أحدهم تصرفٌ لا يرضيك قد يكون سبباً في أن يبتعدوا عنك؛ فالإنسان بطبيعته يرفض كثرة النقد وتوجيه الملاحظات باستمرار.
• انظر إلى نصف الكأس الممتلئ، ولا تنظر إلى النصف الفارغ:
كثيراً ما ينسى الإنسانُ كلَّ صنائع الخير التي أسداها إليه صاحبُه لمجرد أن تقع بينهما خصومةٌ أو خلاف، فيستر حسنات صاحبه بسيئاته، وكأنه ما رأى منه خيراً قط، فيطلقَ لسانه فيه والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، ويُروى أن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كان يمشي مع حوارييه يوماً فرأوا شاة ميتة، فأخذوا يتكلمون في نتن ريحها وقبيح منظرها، فقال لهم عليه السلام: «هلا نظرتم إلى بياض أسنانها».
• حاول أن تلتمس الأعذار لإخوانك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فتُلتمسَ لك عندهم:
لابدَّ للإنسان من أن يلتمس الأعذار لإخوانه إذا حصل ما يستوجب عتباً كتأخر عن موعد مثلاً، أو رؤية ما لا مسوغ له عندك؛ لذلك قيل: التمس لأخيك سبعين عذراً. وصدق الشاعر إذ قال:
إذا ما بدت من صاحب لك زلةٌ فكن أنت ملتمساً لزلته عذرا
• لا تترك للشيطان سبيلاً إلى قلبك، فيريك الحق باطلاً:
إذا أطلق الإنسانُ لنفسه العَنان واتبع الهوى ضلَّ عن سبيل الحق، والشيطانُ إذا وجد المنفذ إلى القلب ولج حتى يتربع على عرشه ما أتيحت له الفرصة، وقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ؛ لذا ينبغي لنا أن لا نترك سبيلاً للشيطان إلا قطعناه، ولا منفذاً إلا سددناه.
• لا تعامل الناس على أساس الماضي، وكن ابنَ يومك ووليدَ لحظتك:
كثيراً ما يتعامل المرء مع الناس على أساس ماضيهم، فيحكم على تصرفاتهم من خلاله، وهذا بكل تأكيد تصرف خاطئ؛ لأن الإنسان دائم التغير، والله سبحانه وتعالى يقول: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95]، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «التوبة تهدم ما قبلها»، فعلينا إذاً أن نتعامل مع غيرنا على أساس حاضرهم المشرق لا ماضيهم المظلم.
• لا تُعِنِ الشيطانَ على أخيك، بل كن عوناً له على الشيطان:
هذا معنى كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم حين قال للصحابة الكرام عندما شتم أحدُهم شاربَ الخمر: «لا تعينوا الشيطان على أخيكم»، لو أن الأمة طبقت هذا المعنى اليوم لما رأيت أحداً يبغي على أحد، بل وجدت كل واحد منا ينصر أخاه على نفسه وعلى شيطانه، ولتحققنا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً».
• أخرج ضغينة نفسك، واغسل قلبك بماء المودة والحب:
المؤمن إنسان طيب القلب، مصقول الفؤاد، طاهر النفس، لا يحمل حقداً، ولا يُكِنُّ عداوةً، ولا يضمر سوءاً، بل على العكس من ذلك، وهذا حال الكرام من أمة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كما وصفهم ربهم سبحانه وتعالى -عند حكاية دعائهم- بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الحشر: 10].
• لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيَه الله تعالى ويبتليك:
المجتمع المسلم مجتمع متكامل متآزر تسوده الألفةُ، وتحوطه المحبةُ، يعيش الناس فيه على أساس الجسد الواحد، وعليه فلا يجوز لفرد من أفراده إذا حصل ما يستوجب شماتةً منه بأخيه أن يفعل ذلك؛ لأن فعله هذا سينعكس عليه سلباً، فقد قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك».
• اطلب الخير لغيرك تجده في نفسك:
يروى أن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال له: اطلب الخير لغيرك تجده في نفسك. وهذا المعنى صحيح فمن أراد تحصيل شيء يحبه فليطلبه لأخيه المسلم في غيبته، فإن ذلك أقصر السبل إلى تحقيقه، إذ يُؤمِّن الملائكة الكرام على دعائه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا دعا المؤمن لأخيه بظهر الغيب وكل الله به ملكاً يقول: ولك مثل ذلك».
• حتى تكون صادق الصحبة أخلص في نصح أخيك:
لا يكون الإنسان صادق المحبة، صادق الصحبة، إذا لم يكن صادق النصح مخلصه، فهذا حقٌّ لكل مسلم، فكيف إذا جمع إلى إسلامه صحبته لك؟! وقد عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إخلاصَ النصيحة حقاً للمسلم على أخيه فقال: «حق المسلم على المسلم خمس..».
• لا تطالب إخوانك بحقوقك عليهم قبل أن تؤدي واجباتِك تُجاههم:
كثيراً ما نسمع من إخواننا من يطالب بحقوقه ويكثر الإلحاح في الطلب، ويغضب إن قصَّر أحدٌ معه في ذلك، وإذا سئل عن واجباته تجاه إخوانه أخذ يراوغ ويلتمس لنفسه مخرجاً. وفي الحقيقة لا ينبغي لأحد أن يطالب غيرَه بحقوقه عليه قبل أن يؤدي واجباته تجاهه؛ فالحياة مبنية على أساس الأخذ والعطاء. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ستكون أثرةٌ وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم».
• لا تتعجل في الحكم على أخيك لمجرد سماعك شيئاً عنه، أو رؤية شيء منه:
يتعجل المرءُ أحياناً في إصدار أحكامه على إخوانه لمجرد سماعِه الشيءَ عنهم، أو اطلاعه على شيء من أمورهم دون أن يدرك مغبة فعلته، وعواقب صنيعته، فالمسلم إنسان متثبت متحقق، وقد علمتنا سيرةُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك. وفي سورة النمل نجد أن نبي الله سليمان عليه السلام لم يقبل قول الهدهد في بلقيس وقومها حين أتاه بالخبر حتى تحقق منه.
• تبيَّن قبل أن تُصيب قوماً بجهالة فتصبح على ما فعلت من النادمين:
هذه قاعدة قرآنية يجب أن تكون متأصلة في حياة المسلم، دائمة الحضور في حياته، لا تغيب عن ذهنه أبداً، فالمرء إذا تعجل فلم يتثبت وقع في المحظور، وندم على صنيعه هذا، وتجرَّعه غصصاً وآلاماً.
• تواضع لإخوانك ما استطعت:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد». فالتواضع سمة من سمات الأنبياء والمرسلين، وخلق من أخلاق الأصفياء والمقربين. وقد صدق من قال:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيعُ
• لا تستمع لكل متكلم، فربما أراد أن يوقع بينك وبين أخيك العداوة والبغضاء:
يستمع الإنسان أحياناً لبعض الناس، ويصغي إلى قولهم، خاصة فيما يتعلق بخصومة بينه وبين أخيه، أو منافسة بينهما، أو ما أشبه ذلك. وتجد الشيطان يسلك مع ابن آدم هذا المسلك العجيب، فتزل فيه قدم، وقد يخسر المرء صاحبه وأخاه بسبب ذلك.
وما أروعَ قولَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: «لا يُبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أنْ أخرج إليهم وأنا سليمُ الصدر».
• عاشر الناس واصبر على أذاهم، أو اعتزلهم واصبر على مرارة الوحدة:
الإنسان اجتماعي بطبعه، فلا يستطيع أن يعيش بعيداً عن الناس بيسر وسهولة، بل لا غنى له عن مخالطة الناس، وعندئذٍ ليس هناك بُدٌّ من أن يصبر على أذاهم؛ فهذا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: أُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه، فانتهيتُ إلى رجلين جالسين وهما يقولان: والله ما أراد محمد بقسمته التي قسمها وجهَ الله ولا الدار الآخرة. فتثبت حين سمعتهما، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته، فاحمرَّ وجهُه، وقال: «دعني عنك، فقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر».
فعِشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنه مقارفُ ذنبٍ مرةً ومجانبُه
• كن مرآةً صادقةً صافية:
جاء في الحديث الشريف قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمن مرآة المؤمن»، ومن المعلوم أن للمرايا أنواعاً، فمنها التي تقرب البعيد، ومنها التي تباعد القريب، ومنها التي تخدع الناظر فيها، ومنها الصادقة الصافية المصقولة بعناية، التي تريك الأشياء على حقيقتها. فكن لإخوانك تلك المرآة الأخيرة تفلح ويسعد بك من حولك.
• لا تنتقد أخاك في غَيبته، فذاك غِيبة تضرك ولا تنفعه:
ينتشر في مجتمعاتنا -مع الأسف- ما يسمى النفاقَ الاجتماعي، إذ يلتقي المرءُ الآخرين فيجامل ويداهن ويتزلف ويتقرب ما دام ذاك الإنسانُ حاضراً، حتى إذا استدبر ذلك المجلس الذي كان فيه رأيت سهام الغيبة تنهمر عليه كأنها المطر. وينسى ذلك المسكين أنه حين يغتاب أخاه يرتكب كبيرة عظمى وجريمة كبرى، فتجده يجر غضب الله إليه جراً، ولا يستفيد أخوه من ذلك النقد شيئاً، اللهم إلا ما يهدي إليه من الحسنات. وفي التنزيل: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
_____________________________________________________
الكاتب: فارس عبدالله سلمون
الكاتب: فارس عبدالله سلمون