الاعتبار بالآيات الكونية

آيات الله سبحانه لا تقع إلا بقضائه وقدَرِه، ولا تخرج عن علمه، ومشيئته، ومقتضى حكمته؛ لتجمع ما بين التخويف والإنذار، وما بين العظة والاعتبار...

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة - نصائح ومواعظ -

إن ما يحدث في هذا الكون من الكوارث والزلازل والأعاصير والخسوف والكسوف، وغيرها من المصائب العامة التي تنزل بالعباد - ما هي إلا آيات من آيات الله سبحانه، لا تقع إلا بقضائه وقدَرِه، ولا تخرج عن علمه، ومشيئته، ومقتضى حكمته؛ لتجمع ما بين التخويف والإنذار، وما بين العظة والاعتبار.

 

أسباب وقوع المصائب والكوارث:

إن وقوع الكوارث والمصائب في هذا الكون لا تخرج عن أمرين: إما للابتلاء والاختبار، وإما للتخويف والإنذار.

 

فأما الابتلاء والاختبار، فهو لعباد الله المؤمنين؛ فقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

 

وأما التخويف والإنذار، فهو للغافلين الْمُعرِضين عن سبيل الله عز وجل؛ حيث إن وقوع كثير من الابتلاءات والمصائب مرتبط بفعل المعاصي والذنوب؛ فقد قال تعالى:  {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}  [الشورى: 30]، وقال تعالى:  {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}  [النساء: 79]، وقال سبحانه:  {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  [الروم: 41]، كما أخبر سبحانه أن هذه الذنوب من أسباب إهلاك الأمم السابقة:  {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}  [العنكبوت: 40].

 

وقد ذكر ابن الجوزي في المنظم ما رُوي عن نافع، عن صفية قالت: "زُلزلت المدينة على عهد عمر رضي الله عنه، فقال: أيها الناس، ما أسرع ما أحدثتُم، لئن عادت لا أساكنكم فيها"[1].

 

الحكمة من وقوع المصائب والكوارث:

إن المتأمل لهذه المصائب والكوارث التي تقع في الكون يجد أنها لا تخلو من حِكَمٍ؛ وذلك لأنها من فعل الحكيم العليم، ولعل من هذه الحكم:

أولًا: أنها تكون رِفعة للمؤمنين، وزيادة في درجاتهم إذا صبروا عليهم؛ فقد قال تعالى:  {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}  [آل عمران: 140]، وقال تعالى:  {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}  [البقرة: 155 - 157].

 

ثانيًا: يخوِّف الله بها عباده، وينذرهم من بأسه وعقابه عند غفلتهم وبعدهم عن سبيله؛ كما قال تعالى:  {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}  [الإسراء: 59]، ويدعوهم إلى الإنابة والرجوع إليه؛ كما قال سبحانه وتعالى:  {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  [الزخرف: 48].

 

فقد رُوي عن قتادة، في قوله سبحانه:  {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}  [الإسراء: 59]، أن الله يخوِّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذَّكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: "يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه"[2].

 

ثالثًا: تذكيرٌ للإنسان بضعفه وعجزه وقلة حيلته أمام قدرة الله سبحانه؛ ليعلم الإنسان أنه مهما بلغ من قوة ومهما بلغ من تقدم، يظل عاجزًا أمام قدرة الله سبحانه، فلا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وتذكره بأنه لا عاصم له من أمر الله إن أراد به ضرًّا، أو أنزل به بأسًا؛ فقد قال تعالى:  {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}  [الأحزاب: 17]، وقال سبحانه:  {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}  [الأنعام: 65].

 

رابعًا: تذكير الإنسان باليوم الآخر، وما سيقع فيه من تغيرٍ لنواميس الكون، وانقلابٍ لقوانينه، فتُزلزَل الأرض، وتُدَكُّ الجبال، وتُكوَّر الشمس، ويُخسف القمر، إلى غير ذلك من الأحداث العظيمة التي ذكرها لنا القرآن؛ كما قال تعالى:  {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}  [الواقعة: 1- 6]، وقال عز وجل:  {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}  [القيامة: 5 - 9].

 

أقسام الناس عند وقوع المصائب والكوارث:

والناس عند وقوع هذه الآيات ليسوا سواء، بل هم أقسام؛ فمنهم الصابر المحتسب، ومنهم المتذكر المعتبر، ومنهم الغافل غير المكترث.

 

فأعظم الناس أجرًا من صبر واحتسب عند وقوع هذه الكوارث والمصائب، وأسعدهم من تذكر واعتبر، فعاد إلى سيده وأناب واستغفر؛ فقد قال تعالى:  {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}  [سبأ: 9]، وأشقى الناس من غفل عن الاعتبار بهذه الآيات، فلم تَزِدْه إلا بعدًا عن سبيل الله، ولم تزدهم إلا طغيانًا كبيرًا؛ كما قال تعالى:  {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}  [الإسراء: 60].

 

أعظم ما تُستدفَع به المصائب والكوارث:

إن من أعظم ما يُستدفع به البلاء، وتُرفع به البأساء والضراء، العودة إلى ربِّ الأرض والسماء، والالتجاء إليه بالدعاء، والتضرع والتذلل بين يديه، والانطراح على بابه، والتوبة والإنابة إليه، وبذلك يكون قد فهم العبد مراد الله سبحانه من إرسال هذه الآيات، وحقَّق ما أرشده إليه سيده ومولاه؛ حيث قال تعالى:  {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}  [الأنعام: 42].

 

وهذه الكوارث وإن كانت تحمل في ظاهرها العذاب، إلا إنها تحمل في باطنها الرحمة؛ وذلك لأنها رفعة للمؤمنين كما أسلفنا، وتذكير وتنبيه للغافلين كي يعودوا إلى رب العالمين؛ كما قال تعالى:  {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  [السجدة: 21]، فظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى، فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب، فهو يُوعِدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض لعلهم يرجعون، وتستيقظ فطرتهم، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب.

 

وأظلم الناس وأبعدهم عن طريق الهدى من عمِيَتْ بصيرته عن الاعتبار بهذه الآيات، فكان مستحقًّا للانتقام والعقاب؛ حيث قال تعالى:  {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]؛ وذلك لأنه رأى أن هذه الكوارث والمصائب مجرد أحداثٍ عابرةٍ، قد حفل التاريخ بنظائرها، فلم يتأثر بها، ولم يتضرع ولا يتذكر عند وقوعها، ولم يُحدِث توبة، ولا إنابة؛ وذلك لقسوة قلبه، وتزين شيطانه؛ يقول تعالى:  {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}  [الأنعام: 43].

 

لذلك ينبغي للعبد أن يعتبر بهذه الآيات، وأن يسارع بالعودة إلى الله في كل وقت، ولا سيما عند نزول الكوارث، وأن يكون على حذر، ولا يأمن مكر الله، ولا يغتر بطول الأمل، فما بين ليلة وضحاها يتغير الأمر من حال إلى حال؛ فقد قال تعالى:  {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}  [الأعراف: 97 - 99]، وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].

 

وفي الختام: نسأل الله سبحانه أن يلطف بإخواننا المسلمين الذين تعرضوا للزلازل والكوارث، وأن يشفي مصابهم، ويتقبل موتاهم، وأن يربط على قلوبهم، كما نسأله سبحانه أن يرزقنا حسن الاعتبار بهذه الآيات، ونعوذ به سبحانه أن تكون من الغافلين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (4/ 295).

[2] تفسير الطبري (17/ 478).

_________________________________________________________
الكاتب: محمد أحمد الخولي