طعنة خنجر
فيا عجبًا لمن ربَّيْتُ طِفْلًا
ألقِّمُه بأطراف البَنانِ
أُعلِّمُه الرِّمايةَ كُلَّ يومٍ
فلما اسْتَدَّ ساعِدُه رماني
- التصنيفات: قصص مؤثرة -
محمد ونيس
اتصل «حسين» هاتفيًّا بوالد «سُعاد» يطلب موعدًا لزيارتهم، رحَّب والد سعاد بتلك الزيارة، وسرعان ما حلَّ الموعد، فحضر حسين، وبعد أن نال كرم الضِّيافة، أخبر والد سعاد أنه جاء يطلب ابنته للزواج، رحَّب والد سعاد به، رغم أنه يراه شابًّا فقيرًا؛ فلا يرى عليه أثرًا لمال أو نعمة، وقال في نفسه: لا بأس به ﴿ {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ﴾[النور: 32] فالفقر والغنى قدر الله؛ لكن حسين طلب من والد سعاد أن يتزوَّج في بيت سعاد الذي اشتراه لها والدها؛ لأنه لا يمتلك بيتًا يسكن فيه، قال والد سعاد لـ «حسين»: (قد وافقت على زواجكما؛ ولكن أريدك يا ولدي أن تحافظ على ابنتي، فهي أمانة في عنقك، وليس لديَّ سِواها، فهي ابنتي الوحيدة).
قال حسين: (بالتأكيد! سأحافظ عليها يا عمِّي).
حان موعد الزواج، وانتقلت سعاد إلى بيتها الجديد، تحلُم بعيشةٍ هنيَّةٍ مع زوجها حسين، فلطالما انتظرت هذه الحياة.
دخل الزوجان البيت، بدأ حسين يُبدِّل ملابِسَه، كان يرتدي تحت البدلة ملابسَ رثَّةً مليئةً بالخروق؛ كأنَّما رُسِمت عليها دوائر هندسية، ويلبس جوربًا قد خرجت منه أصابعُه تنظر إلى الحياة، خلع حسين البدلة والحذاء ثمَّ وضعهما في حقيبة؛ كي يعيدهما إلى صاحبه الذي استعارهما منه، لاحظت سعاد هذا المشهد؛ لكنَّها لم تُعِرْه اهتمامًا فلا زالت عروسًا تحلُم بالحياة، وقالت في نفسها: (لعلَّ هذا من شدة فقره وحاجته)، ومنذ اللحظات الأولى وزوجها يُمسِك عليها في الإنفاق وهي تتعلَّل بشدة فقره وتقول في نفسها: (عسى أن يرسل الله لنا فرجًا قريبًا)، وتقف بجواره في كل ضائقة.
وقف أبوها بجواره يناصره في عمله، يشد من أزْرِهِ ويُقيل عَثْرتَه، إلى أن صار حسين ذا مالٍ عظيمٍ، حينها انتظرت سعاد أن يفُكَّ حسين الأغلال من عنقها ويوسِّع عليها في النفقة؛ ولكن تمُرُّ الأيام وكل يوم يمُرُّ تفوح فيه رائحة بُخْل زوجها النَّتنة؛ حتَّى كادت تختنق منها، فقد بدأ يكشف عن وجهه القبيح؛ حتى صار كأنما يُحصي عليها أنفاسها، فكان يضع لها علامةً على زجاجة الزيت؛ ليعرف كم استهلكت، ولا تستطيع تناول الطعام إلا بعد جوع شديد، فقد وضع قفلًا على باب الثلاجة؛ فلا تُفتَح إلا بإذنه، يظل المنزل بلا إضاءة أشبه بقبر موحشٍ؛ خوفًا على الكهرباء، وكأن سُكَّان هذا المنزل من ساكني القبور، لا تحلُم سعاد بشراء قطعة ملابس جديدة؛ فهذا حلم صعب المنال، إذا مرضت سعاد تئنُّ من الألم وتظلُّ بلا دواءٍ؛ لأن زوجها يرى أنه لا حاجة للدواء، اشتدَّ في بُخْله حتى صار كأنما ينفق من سَمِّ الْخِيَاط، وكلما عاتبت زوجها على بخله؛ تعلَّل لها بقسوة الحياة وخوف المستقبل، وهكذا عاشت سعاد تتجرَّع غُصَّة بُخْل زوجها، إلى أن مات والدها الذي لم يكن لها في الحياة سواه، حصلت سعاد على ميراث لا بأس به، احتال حسين عليها ليحصل على ميراثها؛ فقد أمطرها بكلام معسول ووعود زائفة، وعدها أن يُوسِّع عليها في النفقة، وحصل على ما أراد؛ فقد دفعت إليه أموالها؛ بل تنازلت له عن بيتها؛ ولكن سرعان ما تبخَّرَتْ وعودُ زوجِها، وذهبت أدراجَ الرياح، وظلَّ حسين على بُخْله وكأنه والبُخْل صارا كيانًا واحدًا، لا يُفرِّق بينهما سوى الموت.
وكانت المفاجأة! اكتشفت أن زوجها يمتلك رصيدًا وفيرًا من المال في أحد البنوك، وأن تاريخ امتلاكه هذه الأموال قبل زواجها!
أُصيب حسين بمرضٍ شديدٍ، ورغم بُخْله وقسوته على زوجته، وقفت بجواره تُضَمِّد جراحه، وتُخفِّف مِن آلامِه، وتسهر على راحته؛ حتى عافاه الله.
استبشرت سعاد من زوجها خيرًا، فلعلَّ ما صنعَتْهُ معه غيَّرَ مِن حاله؛ ولكن ما إن برأ حسين من سقمه، حتى عاد إلى سابق عهده؛ بل صار أشد ممَّا كان عليه؛ وكأن للبُخْل لذَّة لا يستطيع فِراقَها، ذات مرةٍ دخل على زوجته المطبخ فوجد زجاجةَ الزيت قد انسكبت، فانتفخت أوداجُه، وثارت الدماءُ في عروقه، ولَطَمَها بيده على وجهها، وأخذ يركلها بقدمَيْه، ثم صرخ في وجهها: (أنتِ طالق.. لا أريدكِ زوجة لي.. أنتِ لا تصلحين للزواج.. أنتِ مسرفة! اخرجي من بيتي).
بكت سعاد كثيرًا، وتوسَّلت إليه قائلة: (إلى أين أذهب؟ مات أبي ولم يبق لي في الحياة أحد! وقد أخذت ميراثي وبيتي فأصبحت بلا مالٍ ولا مأوى!).
أسرع حسين وأمسك بها ثم قذفها خارج المنزل وأغلق الباب!
أيها البخيل اللئيم.. ماذا صنعتَ مع هذه المسكينة؟! لماذا أنكرت الجميل؟ ألم تكن بلا مأوى فآواك الله بها؟ ألم تكن بلا زوج فأعفَّك اللهُ بها؟ ألم تكن بخيلًا شحيحًا فأغناك الله بمالها؟ ألم تكن مريضًا فواسَتْ جِراحَك وأسهرت ليلها؟ لِمَ نسيت من ضحَّت لأجلك بالأمس؟ لماذا لم ترعَ وِدَادها وتحفظ عِشرتها؟ لِمَ كنت لها كالذئب الذي غذَّوه في الشتاء فافترسهم في الربيع؟ أطعَمَتكَ الشَّهْد بيديها فِلمَ أسقيتها علقمًا؟ لِمَ أسقيتها كؤوس الذُّلِّ بيديك؟ فما أشدَّ مُصابَها فيك؛ إذ أسدت إليك معروفًا وتجرَّعت على يديك سُمًّا!
كمْ صَاحِبٍ خَانَ قَوْمًا ذَاقَ زَادَهمُ
منْ بَعْدِ عِشْرَتِهِمْ أضحى لهمْ خَصْمَا
كَحَيَّةٍ شَرِبَتْ مِنْ قِدْرِهِمْ لَبَنًا
حَتَّى إذا شَبِعَتْ مَجَّتْ بِهِ سُمَّا
أيها اللئيم،لقد صِرتَ كالأعمى الذي ظلَّ طول عمره يتوكَّأ على عصاه، فلما ردَّ الله إليه بصره، أول شيء صنعه، كسر عصاه التي توكَّأ عليها في عَماه، أهكذا يكون ردُّ الجميل من ذاك الأعمى اللئيم؟ ألم تكن عصاه تهديه السبيل؟ ألم تقيه العثرات والحُفَر؟ ألم تكن له نورًا وقتما كانت الدنيا له ظلامًا؟ ألم يضجر الناس منه فكانت أنيسه؟ ألم تجبر كسره حينما تركه القريب والحبيب؟ فلم كسرتها يا ناكر الجميل؟!
فعجبًا والله لمن أنكر الجميل؛ إذا وجد البديل! فما هكذا يكون طبع الأصيل؛ إن الشجر إذا خدمته أثمر، وبعض البشر إذا خدمته أنكر!
من بين هؤلاء الناكرين، هذا الملك اللئيم الذي أمر بتربية كلاب شرسة، وألزم الجميع بأمره؛ أن من أخطأ في نُصْحِه، سيناله من العذاب أن يكون طعامًا لتلك الكلاب.
وذات مرة، عُرضت على الملك قضية، فاحتار في التدبير، وطلب النُّصْح من الوزير، فأخطأ الوزير خطأً يسيرْ، وكان يخدم الملك منذ عشر سنين.
استشاط الملك غيظًا، وصار يُهدِّد ويتوعَّد، ولسان حاله يقول: لم أرَ من الوزير خيرًا قط!
قال الملك غاضبًا: خذوه فألقوه للكلاب؛ لينال نصيبه من العذاب.
قال الوزير: مولاي، خطأ غير مقصود، وأطلب العفو والسماح!
قال الملك: هذا جزاء ما جنت يداك.
قال الوزير: مولاي، ألا تشفع لي عشر سنين في زلَّة واحدة.
قال الملك: قُضي الأمر، خذوه إلى الكلاب.
اندهش الوزير من أمر هذا الملك الحقير! وقال في نفسه: يا له من لئيم! ناكر للجميل، فكم أفنيتُ عمري في خدمته؟!
وماذا صنعتُ كي تأكلني الكلاب؟!
ولم ينتبه الوزير من دهشته إلا على فكرة لمعَتْ في رأسِه.
قال الوزير: مولاي، أمْهِلني عشرة أيام.
وافق الملك على ذلك.
انطلق الوزير إلى حارس الكلاب.
قال الوزير للحارس: أريد أن أخدم الكلاب عشرة أيام.
قال الحارس مندهشًا: ولِمَ تخدم الكلاب؟! وماذا تستفيد من ذلك؟
قال الوزير: دعني وشأني.
بدأ الوزير يعتني بالكلاب: يُنظِّفها، ويُطْعِمُها، ويَسْقيها.
انتهت المدة، وحان الموعد.
أمر الملك بتجويع الكلاب؛ لتنهش من لحم الوزير.
ألقوا الوزير في قفص الكلاب، وانتظر الجميع ما يُصيبه من العذاب، نظر الملك وحاشيته إلى الكلاب الشرسة المسعورة، فإذ بها تحيط بالوزير وتتمسَّح فيه مسرورةً، وتنبح بجواره وكأنها تعلن رفضها لأكله.
اندهش الملك وحاشيته! كيف لم تأكله الكلاب؟! وكيف صارت أليفةً وديعةً؟! وأين ذهبت شراستُها؟! وكيف لم تأكله وهي جائعة؟!
قال الملك: أيها الوزير، ماذا صنعتَ لتلك الكلاب؟
قال الوزير: يا مولاي، خدمتها عشرة أيام؛ فلم تنْسَ جميلي، وخدمتُك عشر سنوات، فألقيتني للكلاب!
فطأطأ الملك رأسه، وقال: قد عفوت عنك!
مَنْ علَّم الكلاب أن تحفظ العشرة وتصون الوِداد؟ مَنْ علَّمها أن ترد الجميل عندما نكره كل لئيم حقير؟!
عزيزي القارئ، إنه لموجع حقًّا أن ترى بعينيك من قسمت له ظهرك، وبذلت له وسعك، وعاديت مَن عاداه، ووصلت من وصله، ثم تكون النهاية، دناءة وحقارة، وخِسَّة ونذالة، ونكرانًا للجميل وإساءة.
طارد الصيَّادون الضبع؛ فأصابها الذعر والهلع، فأتت مسرعةً إلى خيمة الأعرابي، واختبأت فيها، وقف الصيَّادون بالباب، خرج إليهم الأعرابي، قائلًا: ما شأنكم؟
قالوا: كنا نُطارِد الضبع، فدخلت إلى خيمتك.
قال الأعرابي: والذي نفسي بيده، لا تصلون إليها ما ثبت سيفي بيدي!
رأى الصيَّادون إصراره في الدفاع عنها، وأنه لن يتركها حتى يهلك أحد الفريقين؛ فتركوا الضبع وانصرفوا.
رأى الأعرابي الضبع مُنْهكةً؛ من مطاردة الصيَّادين إياها؛ فقام إلى شاته فحلبها، ثم أتى إلى الضبع بإناء حليب وإناء ماء، ووضعهما أمامها لتشرب؛ فأقبلت تشرب مرة من هذا ومرة من هذا؛ حتى ارتوت، واستراحت، وعادت إليها أنفاسها؛ ثم نامت.
انتصف الليل.. نام الأعرابي وغطَّ في نوم عميق، وإذ بالضبع قد وثبت عليه؛ فبقرت بطنه، وشربت دمَه، وأكلت لحمه، ثم تركته وانطلقت!
جاء ابنُ عمِّه يزوره في الصباح، وإذ به يراه على هذا الحال.
التفت إلى مكان الضبع فلم يجدها.
فقال: والله، الضبع التي أجارها بالأمس هي التي فعلت ذلك!
وأخذ قوسه وكنانته، فلم يزل يبحث عنها؛ حتى أدركها وقتلها.
لعمري، هذا من العجب العجاب! حماها وأطعمها وسقاها، فشربت دمَه، وأكلت كبده، وما ناله إلا غدرها ولظاها.
صنعت الضبع خسة ونذالة، تقصر الكلمات عن وصفها، ويعجز البليغ عن بيانها؛ ولكن إذا وقفت الضبع أمام القضاء، لتُحاكَم على جريمتها الشنعاء، صاحت بصوت ارتجَّ له المكان، وصمت له الجميع: أتحاكموني لهذا الأمر الفظيع، فهل لديَّ عقل أسمع له وأطيع؟! فهل حاكمْتُم بني جنسِكم؟! هل حاكمتم عقلاءكم؟! إن منكم من لا ينكر الجميل فحسب؛ بل يزيد على النكران الإساءة.
عزيزي، ماذا لو رأى النبي ما يقع بيننا من خِسَّةٍ ونذالةٍ ونكران للجميل وإساءة؟!
فلقد حدث زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن أسرَ المشركون امرأة أبي ذرٍّ رضي الله عنه وأوثقوها بالحبال، كما أسروا ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تُسمَّى «العضباء» وعلى حين غفلة من القوم استطاعت المرأة أن تتخلَّص من حبالها وتفك وثاقها، ثم أخذت «العضباء» وفرَّت هاربةً، علم القوم بخبرها؛ فأسرعوا في اللِّحاق بها، فلم يستطيعوا، ونذرت المرأة إن نجَّاها الله؛ لتذبحنَّ العضْباء.
وصلت المدينة، فلما رآها الناس فرحوا، وقالوا: العَضباءُ ناقةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم!
فأخبَرَتْهم المرأةُ: أنَّها نذَرَتْ، إن نجَّاها اللهُ عليها لَتَنحرَنَّها.
فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( «سبحان الله!،بِئسَما جَزَتْها!» ))؛ (صحيح مسلم)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبحها.
حملت الناقة المرأة على ظهرها ونجت بها، فهل يكون جزاؤها الذبح؟!
مؤلم جدًّا نكران الجميل، والرد بالإساءة أشد ألمًا
فيا عجبًا لمن ربَّيْتُ طِفْلًا
ألقِّمُه بأطراف البَنانِ
أُعلِّمُه الرِّمايةَ كُلَّ يومٍ
فلما اسْتَدَّ ساعِدُه رماني
أُعلِّمُه الفُتُوَّةَ كُلَّ وقْتٍ
فلمَّا طَرَّ شارِبُه جفاني
وكَمْ علَّمْتُه نَظْمَ القوافي
فلمَّا قال قافيةً هجاني
عزيزي، إن لم تستطِعْ أن تردَّ الجميل فلا تنكره، وإيَّاك! ثم إيَّاك! أن ترُدَّ بالإساءة، فلا تعُضَّ يدًا امتدَّتْ إليك، فإن فعلت، فقد طعنتها بخنجر.