شكر الناس

إن قيمة الإنسان وشرفه ومكانته فيما يحمل من معتقدات وأخلاق وحسن علانية وسريرة...

  • التصنيفات: تزكية النفس -

إن قيمة الإنسان وشرفه ومكانته فيما يحمل من معتقدات وأخلاق وحسن علانية وسريرة، وكلما ارتقى الخلق مكانة قل أن يناله إلا أفراد من الناس؛ قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، فالشكر ونخص منه شكر الناس لا يعرفه حقيقة إلا معادِن الرجال.

 

وإذا كان الشكر للناس أمَرَ به الشرع، فقد جعل للوالدين أوْفَرَ الحَظِّ والنصيب، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، قال حَبْرُ الأُمَّة ابن عباس: "فمَنْ شكر الله ولم يشكر والديه لم يُقبَل منه".

 

وقال السعدي: {اشْكُرْ لِي} بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وألَّا تستعين بنعمي على معصيتي {وَلِوَالِدَيْكَ} بالإحسان إليهما بالقول اللِّيِّن، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضُع لهما، [وإكرامهما] وإجلالهما، والقيام بمئونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وَجْه بالقول والفعل"[1].

 

ولا أظُنُّ عاقًّا مهما بلغت مكانتُه في هذه الحياة الدنيا يرزقه الله شكره أو مرضاته.

 

الاقتران بين شكر الله وشكر الناس:

إن نعمة الله تأتي على وجهين:

1- ابتداءً كالخلق، فالشكر له وحده سبحانه وتعالى انفرادًا لا شريك له.

2- بواسطة البشر كما أعطانا العلم النافع والهدى وطريق العمل الصالح من قبل الأنبياء والصالحين وصفوة العلماء، فنشكر الله أنْ سخَّر هذه الوسائط، ونشكر هؤلاء البشر؛ لأن في شكرهم حقيقة شكر الله، يُجلِّي هذا:

حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»[2]، وفي رواية لهذا الحديث: «أَشْكَرُ النَّاسِ للهِ، أَشْكَرُهم للناسِ» [3].

 

قال بعض العارفين: "لو عَلِمَ الشيطان أن طريقًا تُوصِّل إلى الله أفضلُ من الشكر؛ لوقَف فيها، ألا تراه قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] ولم يَقُلْ: لا تَجِدُ أكثرهم صابرين"[4].

 

رد المعروف من الشكر:

وهؤلاء الأنصار شامة في جبين الأُمَّة، أهل العطاء والفضل حملوا الإسلام وأهله من المهاجرين حتى فاض العطاء، فكان كشمس الفضاء، وهنا أصابت أهل الهجرة غصة، فذهبوا يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَتْ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، قَالَ: «كلَّا مَا دَعَوْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ»[5].

 

فمَنْ بالَغَ في الشكر حتى ظَنَّ أنه قد قصر فيه، فلم يجد إلا التفويض إلى الله بأن يجزي المعطي خير الجزاء، ويوفيه أحسن الوفاء، فله مع المعطي عظيم الأجر وحسن الرعاية والفضل.

 

ذم مانع الشكر:

وإنَّ من عظيم معصية ترك الشكر أن يطلق عليها كفرًا؛ ولكن ليس الكفر الذي يُخرِج من المِلَّة خاصة عندما يكون مُسْديه له مكانة وشرف، فعن عبدالله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفَارَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ»، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ»[6].

 

وَخَصَّ كُفْرَانَ الْعَشِيرِ مِنْ بَيْنَ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ لِدَقِيقَةٍ بَدِيعَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» فَقَرَنَ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَإِذَا كَفَرَتِ الْمَرْأَةُ حَقَّ زَوْجِهَا، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا هَذِهِ الْغَايَةَ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَهَاوُنِهَا بِحَقِّ اللَّهِ[7].

 

فالشكر حَقٌّ لله، وحَقٌّ لعباد الله بأمر من الله، فيُؤدَّى على مراد الله، وفي ذلك أوجه منها:

1- أداء الشكر لا يتعلق بمعطيه؛ بل مجرد العطاء يستوجب الشكر؛ فعن أبي عيسى قال: "كان إبراهيم بن أدهم إذا صَنَعَ إليه أحدٌ معروفًا، حرَصَ على أنْ يُكافِئَه، أو يتفضَّل عليه، قال أبو عيسى: فلَقِيَني وأنا على حمار، وأنا أُريد بيتَ المقدس، وقد اشترى بأربعة دوانيق تُفاحًا وسفرجلًا وخوخًا وفاكهةً، فقال: يا أبا عيسى، أُحِبُّ أنْ تَحمِل هذا، قال وإذا عجوز يَهوديَّة في كوخ لها، فقال: أُحِبُّ أنْ تُوصِّل هذا إليها، فإنني مرَرتُ وأنا مُمسٍ فبيَّتَتني عندها، فأُحِبُّ أن أُكافِئها على ذلك".

 

2- قال العلماء: "مِنْ آدَابِ النِّعْمَةِ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعْطِيَ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَعَ الذِّكْرِ يَشْكُرُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ.. "[8]؛ لحديث طلحة بن عبيدالله قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن أُولِيَ معروفًا فَلْيَذْكُرْهُ، فمَن ذكرَهُ فقد شَكَرَهُ، ومَن كَتَمَهُ فقد كَفَرَهُ»[9].

 

3- المبادرة بالشكر والمكافئة على الإحسان لها ثمرات، ومن ذلك أنك ترفع عنك ثقل العطاء، والأمر الآخر المسارعة في الخير لأهل الوفاء، فموسى عليه والصلاة والسلام سقى لامرأتين فما لبث أن جاءت إحداهن فقالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25].

 

4- وهذه نصيحة ذهبية وهي واسطة العقد في حلية الشكر: "لا تجعل شكر الناس وحده يُحفِّزك على العطاء، ولا كفرهم يمنعك من الخير والوفاء".


[1] تفسير السعدي.

[2] إسْنَادٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

[3] رواه أحمد والطبراني عن الأشعث بن قيس؛ (صحيح)، انظر: حديث رقْم (1008) في صحيح الجامع.

[4] فيض القدير للمناوي، ج (1)، ص (341).

[5]رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وصحَّحَه ابن حجر في الفتوحات الربَّانية, والألباني في صحيح أبي داود, والأرناؤوط في تخريج سُنَن أبي داود.

[6] البخاري (304)، مسلم (80).

[7] فتح الباري ابن حجر (1 /83) .

[8] عون المعبود (13 /115).

[9] رواه الطبراني عن طلحة بن عبيدالله، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عائشة رضي الله عنها، والحديث حسَّنه الألباني في صحيح الترغيب، رَقْم (964).