الأدب مع الله

إن طريق المرسلين، وسبيل المؤمنين، ومَسْلك الصالحين إلى يوم الدين، الأدب مع الله ربِّ العالمين، التودُّد إليه، والتوجُّه إليه، وإرجاع الأمر له

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق - محاسن الأخلاق -

أيها المسلمون، الأدب مع الله ما أعظمه! التواضُع أمام الخالق ما أحسنه! الحياء من الرازق ما أجمله!

 

أدب العبد مع الله تعالى يقتضي توحيده وتعظيمه، وذكره وشكره، وطاعة أوامره ونواهيه، والحياء منه، والتوكُّل عليه، وهذا يشمل كل جوارحه.

 

أدب العبد مع الله ألا يقترح أو يطلب.

 

 

أدب الرسول مع ربِّه:

عباد الله، هكذا كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربِّه في تحويل القِبْلة، يريد ولا يطلب، يرغب ولا يقترح، يتمنَّى ولا يبوح، لكن الله مُطَّلِع عليه، يعلم سِرَّه وعلانيَّتَه، يعرف شكواه ونجواه، يعلم ما يجول في خاطره، يرى تقلُّبَه في السماء، فيُحقِّق له رغبته، ويرضيه في مراده، ويحول له وجهته، ويُغيِّر له قِبْلتَه، كيف؟! {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144].

 

دون طلب، دون اقتراح، دون إلحاح! أيقترح على ربِّه؟! أيُغيِّر في الدين؟! كلَّا؟! لذلك كانت الإجابة على وجه السرعة له: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ، ولأُمَّتِهِ {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، وعطاء ربِّه له متواصل {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] "سنُرْضيك في أُمَّتِك".

الجهات كلها لله:

كيف لا والجهات كلها لله؟! كيف لا والمشرق لله والمغرب لله؟! {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

 

الشرق لله، والغرب لله، الجهات كلها لله، والأمر بيد الله، ونحن عباد الله، نتعبَّد في الجهة التي أرادها الله، وعندما يتأدَّب العبد مع ربِّه يُوفِّقه الله، ويهديه إلى الطاعة، ويرشده إلى العبادة، يهديه إلى الامتثال لأمره؛ لكن الذين عاندوا وأعرضوا، رفضوا هذه الأوامر ظُلْمًا وعلوًّا، كُفْرًا وعِنادًا، سخريةً واستهزاءً، ظُلْمًا بغير حقٍّ، وعنادًا بغير حُجَّة، وسفهًا بغير علمٍ كانت لهم أسوأ عاقبة، كيف؟! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

 

 

المؤمِن والتأدُّب مع الله:

أمَّا المؤمن إذا أمر أن يتَّجِه إلى الشرق يُشرِّق، أو إلى الغرب يُغرِّب؛ لأن أمر الله فيه الهداية والكفاية، فيه النجاح والفلاح، فيه التوفيق والصلاح.

 

هذا هو نبيُّه يتأدَّب معه، فيحول الله له ما سبق، ويُغيِّر من أجله ما كان، وينسخ له ما يعجبه، كيف؟!

 

 

آيات منسوخة ووجهات متحولة:

أيها المسلمون، كان تحويل القِبْلة أوَّلَ نَسْخٍ وَقَعَ في الإسلام، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، والله سبحانه وتعالى أقَرَّ جواز النَّسْخ في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].

 

 

وهناك رواياتٌ مُتعدِّدة لتحويل القِبْلة، منها أنها حدثت في النِّصْف من شعبان بعد ثمانية عشر شهرًا من الهجرة، وروى البخاري حديثًا عن البراء رضي الله عنه يُوضِّح قصة تحويل القِبْلة، فيروي البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قِبْلتُه إلى البيت، وأنَّه صلَّى- أو صلَّاها- صلاة العصر وصلَّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان معه، فمَرَّ على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت.

 

 

حديث المرجفون والرد عليهم:

وتحدَّث المُشكِّكون والمُضلِّلون والمرجفون - كما هم في كل عصر ومصر - أن الذي مات على القبلة قبل أن تُحوَّل رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]؛ أي: عملكم محفوظ، وصلاتكم مقبولة، لن تضيع، ولن تسقط، وإنَّما لكم أجرها وثوابها.

 

 

مكانة الرسول والأُمَّة:

عباد الله، لأجل محمد رسول الله خير الأنبياء وأعظمهم، ولأجل الأُمَّة خير الأمم، وخلاصة العالم، وأشرف الطوائف، حُوِّلت القبلة إلى الكعبة، تتجه إليها الأمة من كل حدبٍ وصَوْبٍ، فهي الأمة الوسط، العدول، الشاهدة على الأمم يوم القيامة كيف؟! {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

 

 

إنَّها خيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5].

 

 

اختبار كاشف وامتحان قاسٍ للسُّفهاء وغير السفهاء:

عباد الله، تحويل القِبْلة اختبار كاشف، كشف مرضى القلوب، وسفهاء الأمس واليوم، وسفهاء كل يوم {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].

ولمَّا تحوَّلت القبلة تحرَّكت القلوب المريضة، وانطلقت الألسنة المتسلِّطة، وانتشرت الإشاعات الهدَّامة، وما أكثر الألسنة المتسلِّطة والمتطاولة في كل زمانٍ وفي كل مكان!

قال اليهود: خالف قِبْلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيًّا لكان يُصلِّي إلى قِبْلة الأنبياء، وقال المشركون: كما رجع إلى قِبْلتنا يُوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق، في حين قال المنافقون: ما يدري محمد أين يتوجَّه إن كانت الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل.

 

هؤلاء جميعًا لم يتأدَّبُوا، لا مع أنفسهم ولا مع غيرهم، ولا مع نبيِّهم ولا مع ربِّهم؛ لذا سمَّاهم القرآن سفهاء، وردَّ عليهم ربُّ الأرض والسماء: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].

وكل مَن يتعرَّض للإسلام، أو لكِتابه أو لرسوله أو لأهله بالسوء، سواء من قريب أو من بعيد، فهو سفيهٌ بنصِّ القرآن الكريم.

 

قال سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143]، قال ابن عباس: إلَّا لنرى {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} صلى الله عليه وسلم {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} ؛ أي: وإن كانت هذه الكائنة العظيمة الموقع كبيرة المحل شديدة الأمر، {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} ؛ أي: فهم مؤمنون بها، مُصدِّقون لها، لا يشكُّون ولا يرتابون؛ بل يرضون، ويسلمون، ويؤمنون، ويعملون؛ لأنهم عبيدٌ للحاكم العظيم القادر المقتدر الحليم الخبير اللطيف العليم.

 

والأدَبُ مع اللهِ طريقٌ سَلَكَه الأنبياءُ، كيف؟!

أيها المسلمون، إنه طريق المرسلين، وسبيل المؤمنين، ومَسْلك الصالحين إلى يوم الدين، الأدب مع الله ربِّ العالمين، التودُّد إليه، والتوجُّه إليه، وإرجاع الأمر له {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

 

إنَّ أعظمَ الناسِ أدَبًا مع ربِّهم سبحانه، هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وتأمَّل أحوال الرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله، وخطابهم وسؤالهم تجدها مشحونة بالأدب.

 

هذا آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، من الأدب مع الله أنه لم يقل: "ربِّ قدرت عليَّ وقضيت عليَّ"، وهذا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] النتيجة {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]، قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، ولم يقل: لم أقله! وفرق بين الجوابينِ في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر إلى عِلْمِه سبحانه بالحال وسِرِّه، فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116].

 

ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربِّه، وما يختصُّ به سبحانه، فقال: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، ثم أثنى على ربِّه، ووصفه بتفرُّده بعلم الغيوب كلها، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربُّه به - وهو التوحيد بعينه – فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117]، ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد وفاته لا اطِّلاع له عليهم، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطِّلاع عليهم، فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]، ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة، فقال: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى.

 

ومع استحقاقهم للعذاب قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].

 

ولم يقل: "الغفور الرحيم"، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالـى، فإنه قال في وقت غضب الربِّ عليهم، والأمر بهم إلى النار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة؛ بل مقام براءة منهم.

 

 

وهذا إبراهيم عليه السلام: في الأثر: "يُوضَع في النار، فيأتيه آتٍ: هل لك حاجة؟ فيرد: كيف أحتاج إليك وأنسى الذي أرسلك إليَّ، علمُه بحالي غنيٌّ عن سؤالي"، كان الرد على هذا الأدب الجَمِّ {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].

 

وكذلك قول إبراهيم الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 - 80]، ولم يقُلْ: "وإذا أمرضني"؛ حفظًا للأدب مع الله.

 

وهذا سليمان عليه السلام سخَّر اللهُ له الجِنَّ والطير والريح وآتاه الحكمة وفَصْل الخطاب، فلم يتكبَّر ولم يتعالَ؛ بل كان متواضِعًا مُتأدِّبًا مع الله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

 

وهذا يوسف عليه السلام بعد كل المِحَن التي أصابته، بِيعَ في السوق بثَمَنٍ بَخْسٍ دراهم معدودة، وُضِعَ في الجُبِّ، كان عبدًا عند العزيز، اتُّهِم في شرفه من امرأة العزيز، اتُّهِم بالسرقة من أخوته، ومع ذلك قال ما سجَّله ربُّه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].

 

أدبه مع ربِّه ساقه للأدب مع أبيه وإخوته: كيف؟! قال يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100]، ولم يقل: "أخرجني من الجُبِّ"؛ حفظًا للأدب مع إخوته، وتَفَتِّيًا عليهم: ألَّا يخجل بما جرى في الجُبِّ، وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] ولم يقل: "رفع عنكم جهد الجوع والحاجة" أدبًا معهم، وأضاف ما جرى إلى السبب، ولم يُضِفْه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه، فقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، فأعطى الفُتوَّة والكَرَم والأدب حقَّها، ولم يكن كمال هذا الخُلُق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

 

لذلك أكرمه الله بالتمكين في الأرض والرفعة والشرف في السماء {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

 

وهذا موسى عليه السلام: مطارد ومجهد ومُهدَّد ومُتْعَب ومع ذلك يتودَّد لربِّه: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، أكرمه ربُّه بزوجةٍ ومسكنٍ وراتبٍ، وقال له ربُّه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39].

 

لاحظ أنه قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، ولم يَقُل: "أطعمني".

 

وهذا أيوب عليه السلام في المرض: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، قال عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، ولم يقل: "فعافني واشفني"، فاستجاب له ربُّه على الفور {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84].

 

مِن الأدب مع الله: أن يتلقَّى المسلم أقدارَ الله بالرِّضا والصبر، وأن يعلَمَ أن ما قدَّره الله عليه إنما هو لحكمة عظيمة ربما لا يعرفها هو، وإنما يعلمها العليم الحكيم سبحانه.

 

وهذا الخَضِر عليه السلام في السفينة {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، ولم يقل: "فأراد ربُّك أن أعيبها"، وقال في الغلامين: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ [الكهف: 82]، وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10]، ولم يقولوا: "أراده ربهم"، ثم قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].

 

من صور الأدب مع الله:

ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يستر عورته، وإن كان خاليًا لا يراه أحد؛ أدبًا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشِدَّة الحياء منه، ومعرفته ووقاره.

 

من الأدب مع الله: أن يتحقَّق حُسْن الخُلُق مع الله بأن يتلقَّى الإنسانُ أحكام الله بالقبول والتطبيق العملي، فلا يرُد شيئًا من أحكام الله، فإذا ردَّ شيئًا من أحكام الله، فهذا سُوء خُلُق مع الله عز وجل، سواء ردَّها منكرًا حُكمها، أو مستكبرًا عن العمل بها، أو متهاونًا بالعمل بها، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

 

سُئِل الحسن البصري عن أنفع الأدب، فقال: التفَقُّه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك.

 

قال ابن المبارك رحمه الله: مَنْ تهاوَنَ بالأدب عُوقِب بحرمان السُّنَن، ومن تهاون بالسنن عُوقِب بحرمان الفرائض، ومَنْ تهاوَن بالفرائض عُوقِب بحرمان المعرفة.

 

مِنَ الأدب مع الله تعالى طاعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللهَ هو الذي أرسله للناس، وكلَّفه بالرسالة، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52].

أدب العبد مع ربِّه يستدعي أن يُنظِّف ثوبَه، ويُطهِّر صدرَه، ويُنظِّم هندامه، ويخشع في صلاته، ويرحم خلقه، ويعبده ولا يشرك به شيئًا، ويلتزم هذا الأدب ظاهرًا وباطِنًا.

 

قال بعض السلف: الزم الأدب ظاهرًا وباطنًا، فما أساء أحد الأدب في الظاهر، إلا عُوقِبَ ظاهرًا، وما أساء أحدٌ الأدب باطنًا إلا عُوقِب باطِنًا.

 

اللهم ارزقنا حُسْن الأدب مع الله جلَّ في عُلاه، وحُسْن الخُلُق مع رسول الله عليه أفضل التسليم والصلاة.

_____________________________________________________

الكاتب: خميس النقيب