الوصية بالمراقبة

المراقبة هي أعظم مقامات الإيمان بالله تعالى، ومن جاء بها وحقَّقها، فقد حقق لنفسه المنى، وفاز بمن أعده الله لأهلها من القرب منه سبحانه في دار كرامت

  • التصنيفات: أعمال القلوب - نصائح ومواعظ -

الحمد لله الذي زيَّن قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب، ولا في أي الفرقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدله، ولا اعتراض على الملك الخلاق.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه.

 

ومن درر الوصايا الوصية بالمراقبة؛ حيث إن لقمان غرس في نفس ابنه إطلاع الله تعالى على كل شيء في الأرض وفي السماء، فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

 

المراقبة هي أعظم مقامات الإيمان بالله تعالى، ومن جاء بها وحقَّقها، فقد حقق لنفسه المنى، وفاز بمن أعده الله لأهلها من القرب منه سبحانه في دار كرامته، وقبل أن نتكلم على هذا الضمان، نقف منع حقيقة المراقبة، فما حقيقة المراقبة؟

 

قال الحارث المحاسبي: المراقبة علمُ القلب بقُرب الرب، وسئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره.

 

المراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه، ومراقبة الله عند ورود المعصية بتركها، ومراقبة الله في الهم والخواطر والسر والإعلان؛ قال تعالى: {وَرَبُّكَ ‌يَعْلَمُ ‌مَا ‌تُكِنُّ ‌صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ‌ «أَنْ ‌تَعْبُدَ ‌اللهَ ‌كَأَنَّكَ ‌تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» [1].

 

يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: وقال الجنيد: إنما يتحقق بالمراقبة من يخاف على فوت حظه من ربه عز وجل، وعن مالك بن دينار قال: جنات عدن من جنات الفردوس، وفيها حورٌ خُلقن من ورد الجنة، قيل له: ومن يسكنها؟ قال: يقول الله عز وجل: وإنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انثنت أصلابهم من خشيتي، وعزتي وجلالي إني لأهم بعذاب أهل الأرض، فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي، صرفت عنهم العذاب، وسئل المحاسبي عن المراقبة، فقال: أولها علم القلب بقرب الله تعالى.

 

وقال المرتعش: المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة، وقال حاتم الأصم: إذا عملت فانظر نظر الله إليك، وإذا شكرت فاذكر علم الله فيك، وقال أبو الفوارس الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمَر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعوَّد نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة:

إحاطة المولى سبحانه بجميع الكائنات:

إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم الخبير: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء، في الليلة الظلماء، لا إله إلا هو!

هو الذي يرى دبيب الذَّر في  **  الظلمات فوق صمِّ الصَّخر 

وسامع للجهر والإخفـــــات  **  بسمعه الواسع للأصــــوات 

وعلمه بما بدا وما خفـــــي  **  أحاط علمًا بالجليِّ والخفي 

 

واعلم أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنه مطلع على جميع الخلائق، يعلم أحوالَهم ويشاهد أعمالهم، فلا يفوته شيء ولا يعزب عن عمله منها مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر؛ يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]، ويقول: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]، ويقول تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، ومفاد هذا الإخبار بجانب ما يقرره من شمول علم الله وكماله واطلاعه، ومراقبته وعظيم قدرته ورعايته وهيمنته، هو تعليم عباده بأن يستشعروا ذلك حقيقةً، يستشعروا دومًا بأن الله مطلع على حركاتهم وسكناتهم، على أقوالهم وأفعالهم وما يختلج في صدورهم، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13، 14]،ويتأكد استشعار ذلك كثيرًا عندما يشرع المسلم في عبادة من العبادات؛ بحيث يقوم فيها بين يدي الله مقام من استشعر أن الله تعالى يراه، وكأنه هو يرى الله، وهذا هو أرفع مراتب الدين التي بينها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لأمته عندما بين الإسلام والإيمان والإحسان بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [2].

 

واعلموا أيها الأحباب أن للمراقبة فوائدَ وثمرات تعود على العبد بالسعادة والرضا، وهاك بيانها:

أ- أن المراقبة سبب من أسباب دخول الجنة:

قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].

 

قال ابن القيم مفسرًا الآية: الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه... وفي الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته، ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان.

 

وسئل ذو النون: بمَ ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس، وذكر منها: ومراقبة الله في السر والعلانية، وقال عَزَّ من قائل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].

 

قال أبو السعود: وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحُسْنِه الذاتي، وهو ما فسَّره صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»؛ {فَلَهُ أَجْرُهُ} الذي وعده به على عمله، وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل فيه دخولًا أوليًّا.

 

ب- أن بها يكسب العبد رضا الله سبحانه وتعالى عنه:

قال تعالى: {رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خشي رَبَّهُ} [البينة:8].

قال أهل العلم: ذلك لمن راقب ربه عز وجل، وحاسب نفسه وتزوَّد لمعاده.

 

ج- أنها من أعظم البواعث على المسارعة إلى الطاعات:

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].

قال القصري: إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وسعه، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه.

 

د- أن بها يحصل العبد على معية الله وتأييده:

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128].

قال ابن كثير: أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة.

 

هـ- أنها تعينه على ترك المعاصي والمنكرات:

قال ابن الجوزي: فقلوب الجهال تستشعر البُعْد، ولذلك تقع منهم المعاصي؛ إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر، لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علِموا قربه، فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط.

 

وقال ابن القيم: فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي، فإن من عبد الله كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذِكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مواقعتها.

 

وقال أيضًا: فمن راقب الله في سره حفِظه الله في حركاته في سره وعلانيته.

 

و- أنها من أفضل الطاعات وأعلاها:

قال ابن عطاء: أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات.

 

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]: ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء... في عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة.

 

ويقول حافظ الحكمي:

وثالثٌ مرتبة الإحسان، وتلك أغلاها لدى الرحمن، وهي رسوخ القلب في العرفان؛ حتى يكون الغيب كالعَيان.

 

ز- أنها من خصال الإيمان وثمراته:

قال القصري: فأما كونه من الإيمان فبيِّن؛ لأنه في نفسه تصديق بالنظر إلى الله في الحال، أو تصديق بأن الله ينظر إليه، إلا أنه ثمرة الإيمان، وأعلاه وخالصه.

 


[1] وأخرجه الطيالسي (21) ، والبخاري في خلق أفعال العباد (190) ، ومسلم (8) (2).

[2] أخرجه البخاري ح 4499 و مسلم ح 4499 من حديث أبي هريرة.

____________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة