لا تكن أعجز من الديك
من جميل ما أوصى به لقمان ابنه أن يؤخذ بنصيبه من العبادة في الأسحار، واحذره أن يكون أعجز من ذلك الديك الذي يصيح في الأسحار، ويوقظ الأبرار لمناجاة العزيز الغفار، يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار، وأنت نائم على فراشك.
- التصنيفات: الحث على الطاعات - فقه النوافل -
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، سبحانه سبحانه، بهرت عظمته قلوب العارفين، وأظهرت بدائعه لنواظر المتأملين، نصب الجبال فأرساها، وأرسل الرياح فأجراها، ورفع السماء فأعلاها، وبسط الأرض فدحاها، الملائكة من خشيته مشفقون، والرسل من هيبته خائفون، والجبابرة لعظمته خاضعون، {لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26].
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، القيوم الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ، لا مغيث غير الله، ولا مُجير غير الله، ولا معين غير الله، ولا ناصر غير الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى، سيد الأولين والآخرين على الله ولا فخر، وأخرج البيهقي عن الحسن رضي الله تعالى عنه أن لقمان عليه السلام قال لابنه: يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار[1]، وأنت نائم على فراشك[2].
أخي المسلم، من جميل ما أوصى به لقمان ابنه أن يؤخذ بنصيبه من العبادة في الأسحار، واحذره أن يكون أعجز من ذلك الديك الذي يصيح في الأسحار، ويوقظ الأبرار لمناجاة العزيز الغفار، يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار، وأنت نائم على فراشك.
فيا لها من وصية إن وقعت في القلوب ووعتْها العقول، إنه يربيه على التذلل لله تعالى في ساعة النزول الإلهي التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يتنزَّل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»[3].
يقول ابن بطال - رحمه الله - هذا وقت شريف مرغَّب فيه، خصَّه الله تعالى بالتنزل فيه، وتفضَّل على عباده بإجابة من دعا فيه، وإعطاء من سأله، إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق في النوم واستلذاذ به، ومفارقة الدعة واللذة صعب على العباد، ولا سيما أهل الرفاهية في زمن البرد، ولأهل التعب والنصب في زمن قِصَر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه في غفران ذنوبه، وفِكاك رقبته من النار، وسأله التوبة في هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه بلذتها ومفارقة دعتها وسكنها، فذلك دليلٌ على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فضمنت له الإجابة التي هي مقرونة بالإخلاص وصدق النية في الدعاء؛ إذ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاهٍ.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: «والصلاة بالليل والناس نيام»، فلذلك نبّه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعُلَقها؛ ليستشعر العبد الجدَّ والإخلاص لربه، فتقع الإجابة منه تعالى رفقًا من الله بخلقه ورحمةً لهم، فله الحمد دائمًا والشكر كثيرًا على ما ألهَم إليه عباده من مصالحهم، ودعاهم إليه من منافعهم، لا إله إلا هو الكريم الوهاب)[4].
فدل ذلك على فضل الدعاء والسؤال والاستغفار آخر الليل، وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين يدخلون الجنة خالدين فيها، فذكر من صفاتهم الاستغفار وقت الأسحار؛ قال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
فعُلم من ذلك أنه وقت شريف، وفي الحديث دليلٌ على أن الدعاء في ذلك الوقت مجاب إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع؛ لأن الله تعالى وعد بالاستجابة لمن دعاه، وإعطاء من سأله، والمغفرة لمن طلب مغفرته؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ» [5].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (إن جوف الليل إذا أطلق فالمراد به وسطه، وإن قيل جوف الليل الآخر، فالمراد به وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي فيه النزول الإلهي)[6].
قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
والله ينزل كلّ آخر ليلـــــــــة ** لسمائه الدنيا بلا كتمــــــــــان
فيقول هل من سائل فأجيبـه ** فأنا القريب أجيب من ناداني
حاشا الإله بأن تكيّف ذاتـــــه ** فالكيف والتمثيل منتفيــــان
وفي هذه الليالي المباركة يجتمع للمؤمن في الليل ساعة الإجابة، والنـزول الإلهي، والسجود، وشرف الزمان وهو رمضان، وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يواظبون على قيام الليل، ولا سيما في شهر رمضان تأسيًا بنبيهم صلى الله عليه وسلم.
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَهِيَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ»[7].
وإذا كان الإنسان يقوم آخر الليل لأكلة السحور، فليتقدم قبل ذلك بوقت كافٍ للذكر والدعاء وتلاوة القرآن والصلاة، وأن يكون حاضر القلب، محتسبًا لله تعالى في قيامه، وأن يحرص على الإخلاص والخشوع في صلاته، فعسى أن يكون له نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»[8].
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»[9].
عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ، فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ، ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ فَإِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ»[10].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهلة للصلاة، ثم يقول لهم: الصلاة، ويتلون هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132][11].
عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن نافع بن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا، فأقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يقول يا نافع أسحرنا، فأقول نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح، وعن محمد بن زيد أن أباه أخبره أن عبدالله بن عمر كان له مهراس فيه ماء، فيصلي ما قدِّر له، ثم يصير إلى الفراش، فيُغفي إغفاءَة الطير، ثم يثب فيتوضأ ثم يصلي، يفعل ذلك الليلة أربع مرار أو خمس مرار [12].
عثمان بن عفان رضي الله عنه:
قال عبدالرحمن بن عثمان التيمي رحمه الله قلت: لأغلبنَّ الليلة على المقام، فسبقت إليه، فبينا أنا قائم أصلي، إذا وضع رجل يده على ظهري، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان رحمه الله وهو خليفة، فتنحيت عنه، فقام فما برح قائمًا حتى فرغ من القرآن في ركعة لم يزد عليها، فلما انصرفت قلت: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة، قال أجل، وهي وتري؛ أي ركعة الوتر[13].
[1] الأسحار: جمع سحر وهو وقت ما قبل الفجر
[2] شعب الإيمان للبيهقي - (ج 12 / ص 184)
[3] البخاري (3/ 29)، ومسلم (758).
[4] شرح ابن بطال - (ج 19 / ص 118)
[5] أخرجه الترمذي (3499) ، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (108) ، وهو حديث حسن. بشواهده.و حسنه الألباني في صحيح الترمذي ح 968
[6] جامع العلوم والحكم، شرح الحديث التاسع والعشرين من الأربعين النووية
[7] أخرجه مسلم (757).
[8] أخرجه الترمذي (7/ 187)، وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجه رقم (3251).
[9] أخرجه البخاري ومسلم.
[10] أخرجه البخاري رقم 597 ومسلم رقم 129.
[11] حياة الصحابة ص 643.
[12] صفة الصفوة جـ1 ص185 وسير أعلام النبلاء جـ4 ص340.
[13] أخرجه المبارك في الزهد 1276 وعبد الرازق في مصنفه 3/ 24 وابن سعد في طبقاته 3/ 75 والبيهقي في سننه الكبرى.
_______________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة