التحذير من أذية المسلمين
إن أذية المؤمنين والمؤمنات من كبائر الذنوب التي حذَّرنا منها علام الغيوب، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق - النهي عن البدع والمنكرات -
حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن كف الأذى عن الناس صدقة، وبيان خطورة أذية الناس، وبيان عقوبة من يؤذيهم في الدنيا والآخرة، ثم نطوف معكم على صور من الأذية المحرمة التي يقع فيها بعض الناس، ثم ننادي ونقول لمن نالهم الأذى: لا تقابلوا السيئة بالسيئة، ولكن اعفوا واصفحوا، أعيروني القلوب والأسماع أيها الأحباب.
الوعيد الشديد لمن يؤذي المؤمنين:
أيها الإخوة الكرام، إن أذية المؤمنين والمؤمنات من كبائر الذنوب التي حذَّرنا منها علام الغيوب، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
في هذه الآية تحريم أذى المسلم إلا بوجه شرعي، كالمعاقبة على ذنب، ويدخل في الآية كل ما حرُم للإيذاء؛ كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته، وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره، إذا اشتمل على إيذاء.
عن الفضيل قال: لا يحل لك أن تؤذي كلبًا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف؟ (أي: فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات).
وعلموا أن كف الأذى صدقة مقبولة عند الله تعالى:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ»، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا» قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ»[1]؛ (متفق عليه) .
يقول يحيى بن معاذ: ليكن حظُّ المؤمن منكَ ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرُّه، وإن لم تُفرِحهُ فلا تغُمُّه، وإن لم تمدحه فلا تذُمُّه.
كف الأذى سبب من أسباب دخول الجنة:
واعلموا عباد الله أن كف الأذى عن المسلمين وعن طرقاتهم، موجب من موجبات دخول الجنة؛ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مرَّ رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: والله لأُنَحِّيَنَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخِلَ الجنَّة»[2].
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، دُلَّني على عملٍ يُدخِلُني الجنة، قال: «اعزِلِ الأذَى عن طريق المسلمين»[3].
كف الأذى علامة من علامات الإسلام الصادق:
عن أبي ذر - رضي الله عنه - لَمَّا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين خيرٌ؟، قال: «مَن سلم المسلمون من لسانه ويده»[4]، قال الإمام ابنُ حجر رحمه الله: فيقتضي حَصْر المسلم فيمن سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام الواجب؛ إذْ سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ، وأذى المسلم حرامٌ باللسان واليد[5].
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: أفضلُ المسلمين: من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم[6].
واعلموا أن من أذى مؤمنًا فان الله تعالى توعده بالمحاربة:
ومن منَّا عباد الله يتحمل أن يحاربه الله تعالى؟ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ اللهَ قال: مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقد آذَنتُه بِالحَرْب» ) [7].
فمن المخذول الذي يتصدَّى لحرب الله، وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج: 38]؟
أذية المؤمنين سبب من أسباب الإفلاس يوم القيامة:
واحذروا عباد الله من الوقوع في الأذية، فإنها سبب من أسباب الإفلاس يوم القيامة؛ عن أبي هريرة أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أتَدْرون ما المفلس» ؟))، قالوا: المفلس فينا من لا دِرْهم له ولا متاع، فقال: «إنَّ المفلس مِن أُمَّتِي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكلَ مال هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحَت عليه، ثُمَّ طرح في النَّار» )[8].
صور من الأذية المحرمة:
من صور الأذى التجسس وتتبُّع عورات المسلمين؛ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ، فنادى بصوت رفيع، فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبِعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضَحه ولو في جوف رحله» [9].
ومن صور الأذى أذية الجيران والجارات:
إن إيذاء المسلمين سببٌ لدخول النار، وكف الأذى عنهم من أسباب دخول الجنة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ[10].
عَنِ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فلا يُؤذِ جَارَهُ، وَمَن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فلْيُكرِم ضَيْفَهُ، وَمَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَسْكُتْ»[11].
ومن صور الأذى وضع القاذورات والأحجار وتضيق الطرقات على المسلمين والمسلمات،
ومن صور الأذى: التخلِّي في طرق الناس وأفنيتهم، وقضاء الحاجة في أماكن تنزُّههم، وجلوسهم، وتنجيسها، وتقذيرها بالأنجاس والمهملات، ومن ذلك أيضًا تسريب مياه الصَّرف الصحي فيها، فيتأذَّى الناس بالرائحة، إضافةً إلى تنجيسهم، وتأذِّي الناس بذلك أعظمُ من تأذِّيهم بقضاء الحاجة في الطَّريق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا اللعَّانَيْن»، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلَّى في طريق الناس، وظِلِّهم» [12].
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتُهُمْ» [13].
صور من عفو النبي صلى الله عليه وسلم عمن أذاه:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى).
ضرب أنبياء الله صلوات الله عليهم أروع الأمثلة في الصبر وتحمُّل الأذى من أجل الدعوة إلى الله، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاق في سبيل نشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه، ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل؛ قَالَ عَبْدُاللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»[14].
موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة:
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، دخل البيت، فصلى بين الساريتين، ثم وضع يديه على عضادتي[15] الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرًا، ونظن خيرًا: أخ كريم، وابن أخ، وقد قدرت، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [يوسف:92][16].
[1] رواه البخاري 5 / 105 في العتق، باب: أي الرقاب أفضل، ومسلم رقم (84) في الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.
[2] البخاري 2 /279، وأخرجه مسلم رقم (1914).
[3] مسند أحمد ط الرسالة (33/ 35)، وأخرجه مسلم (461)، وابن خزيمة (530).
[4] البخاري 1/50، 51 في الإيمان: باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم رقم (40).
[5] فتح الباري لابن رجب (1/ 37).
[6] شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (1/ 370)
[7] أخرجه البخاري 13/142، والفتح، كتاب الرقاق: باب التواضع.
[8] رواه مسلم رقم (2581) في البر، باب تحريم الظلم، والترمذي رقم (2420) في صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص.
[9] - أخرجه الترمذي (2032)، وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (1655): حسن صحيح.
[10] أحمد 2/ 440، والبزار كما في ((كشف الأستار)) 2/ 382 (1902)، وقال الهيثمي 8/ 169: رجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2560).
[11] رواه البخاري 10 / 373 في الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وباب إكرام الضيف، وفي النكاح، باب الوصاة بالنساء، وفي الرقاق، باب حفظ اللسان، ومسلم رقم (47) في الإيمان، باب الحث على إكرام الجار، وأبو داود رقم (5154).
[12] أخرجه أحمد 2/ 372 (8840)، و((مسلم)) ] 1 /156].
[13] أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير 3/182 رقم 3050»، قال الهيثمي: وإسناده حسن. مجمع الزوائد 1 /204.
[14] صحيح البخاري (4/ 175)
[15] عضادتا الباب هما خشبتاه من جانبيه؛ انظر: ((شرح مسلم)) للنووي (3 /70).
[16] رواه الأزرقي في ((أخبار مكة)) (2/ 121)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (73/53)، وابن زنجويه في ((الأموال)) (1/ 293) من حديث عطاء والحسن وطاوس رحمهم الله.
___________________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة