الذين يعشقون الفرقة

الفُرقة ويلٌ وثُبور، وكارثة وطامَّة ومَهلَكة، وما ابتُلي قوم ولا امتُحنت جماعة بمثل الفُرقة، ولا هلَك تجمُّع بأخطرَ مِن الفُرقة، وهي علامة شرٍّ، ونُقطة سوء،وبفعلها وأثرها المُدمِّر وقعت مآسٍ فظيعة، وحدَثت أمور مُذهِلة، ونتجتْ نتيجتَها وقائعُ يَندى لها الجَبين.

  • التصنيفات: مجتمع وإصلاح -

الفُرقة ويلٌ وثُبور، وكارثة وطامَّة ومَهلَكة، وما ابتُلي قوم ولا امتُحنت جماعة بمثل الفُرقة، ولا هلَك تجمُّع بأخطرَ مِن الفُرقة، وهي علامة شرٍّ، ونُقطة سوء، وسبب في انتشار كثير من الأمراض والأوبئة الاجتماعية والسياسية والحركية والحزبية، وبفعلها وأثرها المُدمِّر وقعت مآسٍ فظيعة، وحدَثت أمور مُذهِلة، ونتجتْ نتيجتَها وقائعُ يَندى لها الجَبين.

 

بادَتْ أمم، تمزَّقتْ دول، وأُهلِكتْ مُجتمَعات، وضلَّت جماعات، وسقَطتْ حَضارات؛ أخٌ قتَل أخاه، شقي قضى على أبيه، فالفُرقة كلها شرٌّ.

 

والإسلام مِن أيامه الأولى، ربَّى أتباعه على بغض الفُرقة وذمِّها، ودعاهم إلى نبذها والحذَر مِن شرِّها، وحثَّهم على الوحدة والائتلاف، والأُخوَّة والمحبَّة، وأن يكونوا أمةً واحدةً، كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى.

 

قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

 

واعتبَر كل مسلم أخًا للمسلم؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وجعل دعائم لهذه الأُخوة لا يجوز للمسلم أن يَخترقها، ووضع لها أصولاً يجب أن تُراعى، وضبَط لها أخلاقًا أوجب الالتزام بها، ورسَم لها طرائق حتَّم على المؤمن أن يَسير عليها، وأن يترسَّم خُطاها.

 

وحذَّر الإسلام مِن أي شيء يُعكِّر صَفوها، وحرَّم كل أمر يَتنافى مع وقوعها وحُصولها وتمثلها في حياة فاعلة ومُتحرِّكة؛ فحرَّم الإسلام أن يَبيع المسلم على بيع أخيه، وأن يسوم على سَومه، وأن يخطب على خِطبته، وأن يغتابه، وأن يَنم عليه، وأن يؤذيه ولو بشَطر كلمة، وأن يَكشف له سترًا، إلى غير ذلك من الآداب والأخلاق التي فُصِّلت في مواضعها، ولا مجال للتفصيل بها هنا.

 

ففي الحديث المتَّفق عليه، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- قال: «لا تباغَضوا ولا تحاسَدوا، ولا تَدابَروا، ولا تقاطَعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يَهجر أخاه فوق ثلاث».

 

وفي الحديث المتَّفق على صحَّته، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله...» الحديث، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أُظلُّهم في ظِلي، يوم لا ظلَّ إلا ظِلي».

 

وتربَّى الجيل الرباني الأول على هذه المائدة الطيبة المباركة، برعاية رسول الله ونظره ومُتابعتِه وعنايته، حتى صنع ذلك الجيل القرآني الفريد، الذي كان نموذجًا يُحتذى إلى يوم الدين، بما كان عليه مِن تربية وإيمان، وتُقى وصلاح ودين، وأداء وعطاء، وبذل وتضحية.

 

ذلك الجيل الذي ظهرت فيه معاني الوحدة والألفة بكل معانيها، وسائر شُعَبها ومبانيها، حتى صار مَضرِب المثل في هذه الأشياء، بحيث لو اطَّلع عليها الدُّنيويُّون الماديون، لحكموا عليها أنها مِن نسْج الخيال، وأحلام الفلاسِفة.

 

والحق أنها صورة واقعية، تَحمِل في طياتها كلَّ معالم الصدق؛ لأن هذه الجماعة تربَّت على هذه المعاني الربانية، والفضائل الإحسانيَّة، حتى وُصِفوا بالكرم الواسع، والإيثار المُدهِش حقًّا، فصار الواحد منهم يحب لأخيه ما يُحبُّه لنفسه، بل ربما قدَّم أخاه على نفسه، وهنا يَكمن الفارق، ويَحصُل التمايُز، وتظهر المعادن.

 

وهذا الأمر العظيم، ظهر أيام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بما ذَكرْنا وأكثر، وامتدَّ هذا الخير إلى أيام الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- وإلى مَن بعدهم، إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين، بحكم خلود هذا الدِّين، وبقاء الأمة، واستِمرار هذا الفضل.

 

نعم، الأمور ليست على سوية واحدة، ونمَط ثابِت، ولا تمضي على وتيرة مُتوازِنة لا تتخلَّف؛ ففي التاريخ هفوات وسقطات وعثرات، بحكم الطبيعة البشرية؛ إذ لا عصمة لأحد بعد نبيِّنا ورسولنا -عليه الصلاة والسلام- ولكنَّ الحديث عن وصف العموم، دون النظر إلى حالة الاستثناء؛ إذ لكل جواد كبوة، وفي بعض الأحيان تكون الكبوة من المؤمن، فيتوب ويؤوب ويعود إلى الله تعالى.

 

وأعداء الله -تعالى- لا يَروق لهم، أن يروا الصفَّ المسلم في حالة صحَّة، خصوصًا في إطار وحدة الصفِّ والكلمة، فيَبدؤون بصناعة الخُطط، وتدبير المكايد، ونسج المؤامرات؛ من أجل تخريب الصفِّ، وأكثر صِنف يَستعينون به لتنفيذ هذه المهمَّة المنافقون المندسُّون في الصف، وأثرُهم في هذا الشأن -قديمًا وحديثًا- معروفٌ معلوم.

 

وهناك صِنف ليسوا مدسوسين ولا أعداء للدعوة، ولكنَّ شيطانهم كبير، وشره مستطير، وويله خطير، يحبون الفُرقة ويعشقونها؛ لأسباب عدة، منها:

• مرض القلب؛ إذ سيطرت عليهم هذه الشهوة الإبليسية مِن خلال وسوسة الشيطان الذي جعلهم ألعوبةً بيده.

 

• البحث عن عرَضٍ من أعراض الدنيا؛ ففي الأجواء الصحية الطبيعية، لا يستطيع الباحث عن أمرٍ مِن لُعاعات الدنيا ووَحَلِها الوصول إليه، إلا بإحداث فجوة في الصفِّ يستطيع مِن خلالها أن يتسلَّل، ليوجد له مكانًا في زاوية من زوايا الصفِّ فيُنشئ المَحاور، ويُشيع روح الفُرقة، وينشر الأراجيف والأكاذيب، ويجعل النَّجوى أصل عمله، ويتحدَّث عن أصالة المنهج، ويتستَّر بالمصلحة العامة، ويُشعِر السذج -أو الذين لهم مصلحة كمصلحته- أنه لا يَبغي مِن وراء هذا الأمر إلا الصالح العام، وعزَّ الأمة، في حين أنه ما أراد إلا نفسَه وهواها، وهذه كارثة من الكوارث، ومصيبة من المصائب، التي يكون حلُّها مِن أعقد الأمور وأعسرها؛ لأن هذا الذي يفعل هذا ليس متَّهمًا بخيانة خارجية، ولا مشكوكًا بأمره في دسيسة لعدوِّه، بل هو فلان المعروف ربما بعِلمه وفِكره، أو بتاريخه وبَذلِه، ولما لم تكن العِصمة لأحد بعد نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- فإن الفِتنة لا تؤمن على أحد.

 

مِن هنا نحتاج دائمًا إلى الحذر مِن الفتنة، والابتعاد عن أسبابها، والحذر مِن مَزالقها؛ حتى لا نقَع في التساقُط على الطريق، والهلاك في منتصفه، وهذا يتطلب تربيةً دائمةً، وطاعةً لله غير مُنقطِعة، وذكرًا لله تعالى لا غَفلة تُرافِقه، مع استِحضار الإخلاص في القلب، والتجرُّد الدائم لله تعالى.

 

• الغلوُّ الذي يُصيب بعض الذين أُتوا مِن قِبَل فُهومهم؛ فيرى أن أيَّ أمر لا يتمُّ عبوره مِن نافذة فَهمِه واستيعابه للأمر؛ فإنه يجب أن يخرِّب ويدمِّر، فيُصبح أداة تخريب مِن حيث يظن أنه يُحسن صنعًا، وهذا خطَره كبير، ومصيبته عظيمة.

 

مِن هذا القبيل، ما كان عليه الخوارج في الصُّلح الذي قَبِل به علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حقنًا للدماء، وإنهاءً للفُرقة الحاصلة، واستئنافًا للحياة الإسلامية بعيدًا عن هذا المعيق الكبير، والبدء ببناء الأمة على منهج الوحدة والأُلفة، لتَنطلق حركة الإسلام بالبِناء الداخلي، والعمل الخارجي بنشْر الإسلام في ربوع الدنيا، وتعود الأمور إلى أصلها، وتمضي القافلة على الأمل المنشود الذي يَنبغي السير لأجله، وعلى ضوئه.

 

فاعتبروا عليًّا -رضي الله عنه- خارجًا مِن الملَّة، مغيرًا ومبدلاً، وسائرًا على غير منهاج النبوة، لم يَرُقْ لهم هذا الصُّلح وهذا الوفاق، وعَشِقوا الفُرقة والخِلاف، ورأوا أن هذا الأمر الذي أراده علي - رضي الله عنه - لا بدَّ أن يُخرَّب.

 

قال الإمام عبدالقاهر البغدادي -رحمه الله- في كتابه "الفَرق بين الفِرَق" (ص: 74 – 75): "واختلفوا في أول مَن تشرَّى منهم -أي: الخوارج- فقيل: عروة بن حُدَير أخو مِرداس الخارجي، وقيل: أولهم يَزيد بن عاصم المحاربي، وقيل: رجل من ربيعة من بني يشكر، كان مع عليٍّ بصفِّين، فلما رأى اتِّفاق الفريقَين على الحكَمَين، استوى على فرسه وحمل على أصحاب مُعاويَة، وقتل منهم رجلاً، وحمل على أصحاب علي، وقتل منهم رجلاً، ثم نادى بأعلى صوته: ألا إني قد خلَعتُ عليًّا ومُعاوية، وبرئتُ مِن حُكمِهما، ثم قاتل أصحاب علي، حتى قتَله قوم من همدان".

 

فانظر إلى عاشق الفُرقة هذا، الذي ظنَّ أن الوفاق ووحدة الكلمة شرٌّ؛ لأنه قام على غير اجتهاده، فلا بدَّ أن يُخرِّب، فعكَّر الأجواء، وأراق الدم، وانتهى الأمر بقتله، فيا لها مِن مصيبة، تُهلك صاحبها، وتؤذي غيره!

__________________________________________________
الكاتب: د. عامر البوسلامة