{ يأخذون عرض هذا الأدنى }

قد يظنُّ البعض أنَّ وَصْفَ هذا السلوك موجود في بني إسرائيل على وجه الخصوص أو كحالة خاصة اتَّصَف بها هؤلاء القوم على مدى الزمن، إلا أنه لعلم الله بحدوث ذلك في البشرية، بدرجة أو بأخرى، فحذر منه لنا في هذا القصص...

  • التصنيفات: نصائح ومواعظ -

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].

 

أيها المسلم، تأمَّل قول الله في هذه الآية، ووصف الله سلوك نوعية مُعيَّنة من البشر {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} .

 

قد يظنُّ البعض أنَّ وَصْفَ هذا السلوك موجود في بني إسرائيل على وجه الخصوص أو كحالة خاصة اتَّصَف بها هؤلاء القوم على مدى الزمن، إلا أنه لعلم الله بحدوث ذلك في البشرية، بدرجة أو بأخرى، فحذر منه لنا في هذا القصص {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].

 

فأينما ذهبْتَ تجد هذا الصِّنْف من الناس الذين {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} تجدهم في كل تجمُّع: مؤسسة، إدارة، حي، قرية، مدينة، وفي كل المستويات، وفي كل بقاع الأرض والأزمان.

 

إنها الفتنة التي تعيشها البشرية، يعيشها الإنسان مع أخيه الإنسان؛ فتُصاب البشرية بهذا العطب في النفس البشرية، ويُعاني من أثرها الكثير من باقي البشر.

 

هذا الصِّنْف من الناس يصلون إلى مناصبهم ومكانتهم بأساليب ملتوية ومُحرَّمة وظُلْمًا وعدوانًا على غيرهم بغير حقٍّ، ثم يبدأون رحلة الفساد في الأرض؛ قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].

 

هذا الصِّنْف من البشر يبحثون ويتشمَّمُون حتى أدنى الأشياء التي قد تعافها الأنفسُ ليلتقطوها وينهبوها، فيأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من دنيء المكاسب كالرشوة وغيرها؛ وذلك لشدَّة حرصهم ونَهَمهم، ويقولون مع ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيًا على الله الأباطيل.

 

فهم يتهافتون على حطام الدنيا ومتاعها ويتقبَّلون المال الحرام بشراهة نفس، ويأكلون السُّحْتَ أكْلًا لمَّا ويقولون وهم والغون في المعاصي ومصرُّون على الذنوب: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا ولا يؤاخذنا بما أكلنا من أموال.

 

ومن العجب أن هؤلاء عندما يتقلَّدون المناصب يقولون: إنَّ الله هو الذي اصطفانا لهذه المناصب وهذه المكانة؛ لعلمه بأننا نستحقُّها دون غيرنا ونحن أفضل منهم، وإلا ما مَكَّنَنا وولَّانا هذه المكانة ونحن نستحقُّ ذلك تفضيلًا من ربِّنا لنا.

 

وهذا ما قاله صاحب الجنتين تجنيًا على الله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36].

 

وهؤلاء يزعمون أنهم أصحاب الإصلاح في كل مجال وغيرهم فاشلون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].

 

إنهم أهل إصرار على فسادهم، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة، فقال تعالى:  {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}؛ أي: أنهم يأخذون عرض الحياة الدنيا، ومن أجل هذه الخِصال البائسة تفسد الحياة، وتفسد النفوس؛ وينطلق السعار المجنون، ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان، وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال.

 

إن هذه الظاهرة قد شاعَتْ في بقاع الأرض خاصة مع امتلاك هؤلاء وسائل النشر العالمية، والتأثير على كافة البشرية، فأصبح هؤلاء يقودون الفساد في العالم، انظر ما يجوب الأرض الآن من فتن: الأمراض والحروب والجوع والفقر ونهب ثروات العباد.

 

وفي هذا إشارة إلى أن الطمع في متاع الحياة الدنيا هو الذي جعل بني إسرائيل يقولون على الله غير الحق، ويتشبَّعون من المال الحرام بدون تعفُّف، ويبيعون دينهم بدُنْياهم، فاتَّبَعهم الغاوون.

 

إنه المخطَّط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها، ليسهل تطويعها لملك الصهاينة في نهاية المطاف!

 

أيها المسلم، أين المَفَرُّ؟

لقد جاء الجواب على لسان موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يُذكِّرُنا به الله في القرآن الكريم والذي جاء للبشرية كافة يرسم لنا الطريق، ويُوضِّح لنا العاقبة، دقِّق!

 

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

 

انظر قولَ ربِّك: {مِنْ عِبَادِهِ} ، فهل نحن نعيش العبودية لله، أم لغيره من البشر؟! وهل نحن نتمسَّك بمنهج الله في كتابة الكريم؟! {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

 

أيها المسلم، سِرْ في طريقك موحِّدًا بالله لا مُشْركًا معه العبيد من هؤلاء المفسدين في الأرض {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].

 

{وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169]، نعم، إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكِفَّة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا، نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها، ولا تستقيم نفسٌ ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها، وإلَّا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة المُلِحَّة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفُّها عن البغي؟ وما الذي يُهدِّئ فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى؟ والشر يتبجَّح والباطل يطغى؟

 

لا شيء يثبت على الأحداث وتقلُّبات الأحوال في هذا الخضمِّ الهائج وفي هذه المعركة الكبرى؛ إلا اليقين في الآخرة، وأنها خير للذين يتَّقون، ويترفعون، ويثبتون على الحقِّ والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن، ويمضون في الطريق لا يتلفَّتُون، مُطْمئنِّين واثقين، ملء قلوبهم اليقين.

 

أيها المسلم، عِشْ هذه الرُّوح {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30].

_____________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى