لعلكم تتفكرون

التفكر حياةً للقلب والنفس، ودعوةً إلى حسن الفِعال، وحسن المآل، ونجاةً من الشرور والفتن، وحفظًا للدين والنفس عن مواطن الهلاك والغيِّ؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "ومفتاح الإيمان التفكير فيما دعا الله عباده إلى التفكير فيه

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة - نصائح ومواعظ -

التفكر حياةً للقلب والنفس، ودعوةً إلى حسن الفِعال، وحسن المآل، ونجاةً من الشرور والفتن، وحفظًا للدين والنفس عن مواطن الهلاك والغيِّ؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "ومفتاح الإيمان التفكير فيما دعا الله عباده إلى التفكير فيه"[1]، 

وللتفكر أنواع؛ فمن أنواعه: التفكر في آيات القرآن، وكيف أن الله جعله الكتاب المحفوظ دون سائر الكتب، وكيف أنزله على رسوله، والغوص في معانيه، واستخراج أسراره وأحكامه، وكيف جعله الله هدايةً للنفوس، وشفاءً من أمراضها، وسبيلًا لنجاتها وسعادتها، وجامعًا لمصالح الناس في المعاش والمعاد؛ كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال أيضًا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، فمن الواجب على المؤمن أن يتدبر هذا القرآن العظيم، وأن يتفهَّم آياته ومعانيه، وأن يعيش معه بروحه وفكره ووجدانه؛ يقول العلامة ابن سعدي في تفسير قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]؛ "أي: فهلَّا يتدبر هؤلاء الْمُعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلَّهم على كل خير، ولحذَّرهم من كل شر، ولَمَلأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطريق الموصِّلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تُحذَر، ولعرَّفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل"[2].

 

عباد الله: ومن أنواع التفكر: التفكر في الآيات الكونية؛ كخلق السماوات وارتفاعها، والأرض وجبالها ووديانها، واختلاف الليل والنهار، والنجوم وأبراجها، والكواكب ومدارها، والبحار والأنهار وأمواجها، والزهور وألوانها، والنباتات وأنواعها، والفواكه واختلافها، والملائكة والجن والإنسان وتكوينه، والحشرات والزواحف والطيور بعوالمها، وسائر الآيات الكونية، التي هي من عظيم صنعة الله في الكون والنفس، والدليل على وجود الله ووحدانيته وكماله؛ ولهذا جاء في القرآن قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]،

ومن أنواع التفكر: أن يتفكر الإنسان في الدار الآخرة؛ لأن الناس جميعًا صائرون إليها، فإما إلى جنة ونعيم أبدًا، وإما إلى نار وحميم أبدًا[3]؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191].

فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلم أن من فوائد التفكر: إقرار العبد بوحدانية الله تعالى، وزيادة قرب العبد من الله سبحانه، والكشف عن بديع صنع الخالق العظيم ودقَّتِهِ وروعته، والخوف والخشية من الله عز وجل في النفس الإنسانية، وزيادة تواضع المرء لمولاه جل في علاه، وزيادة محاسبة النفس على أخطائها.

 

ومن فوائد التفكر أيضًا: أنه يكسِب الروح صفاءً ونقاءً، ويُحيي القلب، ويزيد من إيمانه ويقينه بقدرة الله تعالى وعظمته، ويُورِث الحكمة والرأي السديد، ويُبعِد النفس عن عصيان الله تعالى ومخالفة أمره، ويملأ النفس راحةً وسعادةً، ويفتح الأبواب لطلب العلم والمعرفة، فيكتسب المرء علومًا جديدةً تنفعه في شتى المجالات، ويزيد اليقين بمجيء يوم القيامة، والوقوف بين يدي الخالق العظيم، ويبعث على العمل الدؤوب الصالح؛ ليكون زادًا يوم الحساب، ومن فوائد التفكر: أنه يوصل إلى محبة الرحمن، وإرضاء الديَّان، وانشراح الصدر وصلاحه، وفوزه ونجاحه، ويُورِث المحبة والخوف والرجاء، والخشية والاستحياء، وبه تحيا القلوب، وتُستَر العيوب، ويزول المكروب، وفيه نجاح الأمور، وصلاح الدور، والأنس والسرور.

 

فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم الله في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً، صلى الله عليه بها عشرًا»، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.


[1] ابن القيم، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ص 100.

[2] السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 788.

[3] ينظر: ابن القيم، مفتاح دار السعادة، 1/ 200 – 225.

______________________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل