أماني الكفار يوم القيامة
محمود الدوسري
ومِنْ أعظمِ العذاب النَّفْسِي والجَسَدِي الذي يحل بالكافرين يوم القيامة، أنهم يَتمنَّون أنْ يُدفَنوا، فتُسَوَّى بهم الأرض؛ كما يُفعل بالموتى، ولا يكتمون اللهَ حَدِيثًا، وما ذاك إلاَّ لِشِدَّةِ الأمرِ عليهم...
- التصنيفات: الموت وما بعده - - آفاق الشريعة -
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: الأمَانِيُّ: هي أحاديثُ النَّفْسِ المُجرَّدَةِ عن العمل، المُقْتَرِنِ بها دعوى مُجَرَّدَة. يُقال: فلانٌ كانَتْ أُمْنِيَّتُهُ أَنْ يَنْجَحَ. ونعلم جميعًا أنَّ الغاياتِ لاَ تُدْرَكُ بِالأَمانِيِّ المُجرَّدَةِ عن العمل. وقد أخبرَ اللهُ تعالى عن أهل الكتاب أنهم تَمَنَّوا فقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
وحَدِيثُنا – هنا - عن أَمَانِيِّ الكُفَّارِ يوم القيامة، ومن ذلك: أَمَانِيُّهم في الافتداءِ بِالأَبناءِ، والإِخْوانِ، والأزواجِ، والأقارِبِ، ومَنْ في الأرض جميعًا: جَعَلَ اللهُ صِلَةَ الرَّحِمِ من أوثق عُرَى الإيمان، ورتَّبَ عليها الأجْرَ العظيمَ، وهي صِلَةٌ تَسُودُها المَوَدَّةُ والرَّحْمَةُ، ولكن في يوم القيامة تَنْقَطِعُ الصِّلاتُ بين الأقرباء، فيُصْبِحُ كُلُّ إنسانٍ مشغولاً بنفْسِه؛ بل ويَفِرُّ من أقربِ الناسِ إليه؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37]؛ وقال سبحانه: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]؛ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]؛ وقال أيضًا: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]. فيصيب الناسَ من الهول ما يُنْسِيهم أنسابَهم، فغيرُ الأنسابِ من بابِ أَولى، ولا يَسأل أحدٌ أحدًا عن حاله؛ لاشْتِغالِه بنفسِه، فلا يدري: هل ينجو نَجَاةً لا شَقاوَةَ بعدها؟ أو يَشْقَى شَقَاوَةً لا سعادةَ بعدها؟
وفي هذا اليومِ العظيمِ يَتَمَنَّى الكافِرُ أن لو استطاع أنْ يفتَدِي بأقربِ قريبٍ له، وأن ينجو من عذاب الله، ولكن هيهات، تمنَّى حين لا تنفعه الأماني، ورجا حين لا ينفعه الرَّجاء، فيزداد أَلَمًا نَفْسِيًّا في يوم لا يُقبل منه ذلك الفِداءُ، ولو افتدى به. قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد: 18]؛ وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]؛ وقال أيضًا: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج: 11-15]. فهذا رَدْعٌ لِلمُجْرِمِ عن تلك المَودَّة، وتنبيهٌ على أنه لا ينفعه الافْتِداءُ، ولا يُنْجِيه من العذاب.
قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءٌ، وَلَوْ جَاءَ بِأَهْلِ الْأَرْض، وَبِأَعَزِّ مَا يَجِدهُ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَوْ مِنْ وَلَدِه الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا حُشَاشَةَ كَبِدِه يَوَدُّ يَوْم الْقِيَامَة - إِذَا رَأَى الْأَهْوَال - أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِهِ، وَلَا يُقْبَل مِنْهُ).
وبدأ – جلَّ ثناؤه – بِذِكْرِ البنين، ثم الصَّاحِبَة، ثم الأخ؛ إعلامًا منه عِبادَه أنَّ الكافِرَ من عظيم ما ينزل به يومئذٍ من البلاء يَفتدي نفسَه – لو وَجَدَ إلى ذلك سبيلاً – بأحبِّ الناسِ إليه في الدُّنيا، وأقربِهم إليه نسبًا.
ومِنْ أَمَانِيِّ الكُفَّارِ يوم القيامة: أَمَانِيُّهم في العَودَةِ للدنيا، والعملِ الصَّالحِ فيها: قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53]. والمعنى: أنَّ الكُفَّارَ يقولون يوم القيامة {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وكذَّبْناهُمْ، أي: أنهم أَقَرُّوا - يوم القيامة - بأنَّ ما جاءت به الرُّسُلُ كان حَقًّا {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} مِنَ العذابِ اليوم، {أَوْ نُرَدُّ} إلى الدُّنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}. فلمَّا رأوا أنفسَهم في العذاب قالوا: لا طريقَ لنا إلى الخَلاصِ مما نحن فيه من العذابِ الشَّديدِ إلاَّ أحَدَ هذين الأمرين: وهو أنْ يشفعَ لنا شفيعٌ؛ فيزولَ هذا العذاب، أو يَرُدَّنا اللهُ سبحانه إلى الدنيا حتى نُوَحِّدَ اللهَ تعالى بدلاً عن الكفر، ونُطِيعَه بدلاً عن المعصية.
وقال تعالى: {وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]. فيتمَنَّى الكفارُ أنْ يعودوا إلى الدنيا، ويُمْهَلوا؛ ليعملوا صالحًا، ويتَّبِعوا الرُّسلَ في دعوتهم إلى التوحيد، وهذا كلُّه لأجل التَّخَلُّصِ من العذاب، وإلاَّ فَهُمْ كَذَبَةٌ في هذا الوعد {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
ومِنْ أَمَانِيِّهم يوم القيامة: أَمَانِيُّهم في الهَلَاكِ: فإنَّ الموتَ الذي يفر منه الكافر في الدنيا، ولا يتمناه أبدًا، ويود أن لو يُعَمَّرُ ألفَ سنةٍ، فإنه يتمنى الهلاكَ والموتَ يوم القيامة؛ لِهولِ ما يُشاهد، قال تعالى – حاكيًا عنه: {يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 27]. قَالَ قَتَادَةُ رحمه الله: (تَمَنَّى الْمَوْتَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا عِنْدَهُ شَيْءٌ أَكْرَهُ مِنَ الْمَوْتِ). وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يُطْلَبُ لَهُ الْمَوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي إِنْ لَقِيتَهُ ** تَمَنَّيْتَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ
وصدق المتنبي – حين قال:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المَوْتَ شَافِيَاً ** وحَسْبُ المَنَايَا أنْ يَكُنَّ أمَانِيَا
ومِنْ أعظمِ أَمَانِيِّ الكُفَّارِ يوم القيامة: أَمَانِيُّهم في أنْ لَوْ كانوا تُرابًا: يَحشر اللهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ يوم القيامة؛ من الإنس، والجن، والدواب، والبهائم، والطير، وكلِّ شيء. ثم من تمام عدل الله في ذلك اليوم، أن يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» » (رواه مسلم).
ثم بعد هذه المحاكمة العادلة يُقال لها: كوني تُرابًا، فيتمنَّى الكافِرُ لو كان تُرابًا، لا حِساب، ولا عِقاب عليه. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: «يُحْشَرُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ الْبَهَائِمُ، وَالدَّوَابُّ، وَالطَّيْرُ، وَكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فَذَلِك حِينَ يَقُولُ الكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]» (صحيح – رواه الحاكم والبيهقي).
ومِنْ أَمَانِيِّهم يوم القيامة: أَمَانِيُّهم في أنْ لو تُسَوَّى بِهِمُ الأرض: ومِنْ أعظمِ العذاب النَّفْسِي والجَسَدِي الذي يحل بالكافرين يوم القيامة، أنهم يَتمنَّون أنْ يُدفَنوا، فتُسَوَّى بهم الأرض؛ كما يُفعل بالموتى، ولا يكتمون اللهَ حَدِيثًا، وما ذاك إلاَّ لِشِدَّةِ الأمرِ عليهم، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]. والمعنى - كما قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: (أَيْ: لَوِ انْشَقَّتْ وَبَلَعَتْهُمْ، مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ وَالتَّوْبِيخِ). نسألُ اللهَ تعالى السَّلامةَ والعافيةَ في الدُّنيا والآخِرة.