محورية تعلم الإيمان في المدرسة المحمدية
سلطان بن عبد الرحمن العميري
الوصية الصغرى وأمثالها مهم لعدد من الأمور: من أهمها أن فيها تدارساً وتعلماً للإيمان وتدارس الإيمان وتعلمه سنة من السنن الشريفة، فعن جندب بن عبد الله قال: "كنا مع النبيﷺ، ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا".
- التصنيفات: الدعوة إلى الله - أعمال القلوب -
دارسة هذه الرسالة- الوصية الصغرى وأمثالها مهم لعدد من الأمور: من أهمها أن فيها تدارساً وتعلماً للإيمان وتدارس الإيمان وتعلمه سنة من السنن الشريفة، فعن جندب بن عبد الله قال: "كنا مع النبي ، ونحن فتيان حزاورة (يعني في بداية اشتداد الفتوة ومقاربة البلوغ قال: فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا":
فذكره أنهم كانوا في مدرسة رسول الله يتعلمون الإيمان كما يتعلمون القرآن، وأن تعلمهم للقرآن زادهم إيمانا ويقينا.
ومن أهم فوائد هذا الأثر أن تعلم الإيمان مما يزيد في الانتفاع بالقرآن والوحي، فكان يعلم الإيمان قبل تعليمهم القرآن حتى تتهيأ نفوسهم لتلقي القرآن، وتكون مستعدا للانتفاع به، ومقبلة على الأخذ بما فيه من أحكام وأخلاق.
وهذا الذي ذكره جندب بن عبدالله في كلامه جاء عن عدد من الصحابة، مما يدل عل أنه منهج تربوي مستقر عندهم.
يقول ابن مسعود له: "كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم نجاوزها حتى نتعلم معانيها والعمل بها".
ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان".
وعنه في لفظ آخر: "لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه.
فهذه شهادات ثلاثة من التلاميذ الذين كانوا في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يؤكد على أن من أساسيات المنهج العلمي في تلك المدرسة الشريفة تعلم الإيمان قبل تعلم القرآن.
وتلك الشهادات تضمنت معنيين مهمين: الأول أن الإيمان يتعلم، والثاني: أن تعلم الإيمان يقدم على غيره.
أما بالنسبة الأول، وهو أن الإيمان يتعلم، وإدراك هذا الأمر راجع إلى إدراك معنى التعلم، ومعنى التعلم يشمل معان متعددة، فليس معناه مقصورا على أن الإنسان يحصل على معلومة جديدة أو يراجع معلومة قديمة فقط، وإنما تدخل فيه معان أخرى أهمها التأثر بالتعلم أو الاستفادة من العلم فهذا نوع من التعلم الذي ينبغي علينا أن نحرص عليه كما حرص عليه الصحابة رضي الله عنهم.
ومقتضى ذلك: أنك قد تسمع محاضرة أو تقرأ كتاباً لا لتحصل معلومة، وإنما لتتأثر بها، ويزداد بها إيمانك وتزداد بها علاقتك مع الله ، ولتهذب نفسك وتهذب أخلاقك.
فمن المعاني التربوية المهمة أن يبحث المسلم عن العلم الذي يزيد الإيمان في قلبه ويهذب نفسه ويصفي روحه، ويجب عليه أن يحرص على تعلمه وطلبه وبذلكل ما يستطيع للبلوغ إليه، وهذا الصنيع نوع من التعلم المحمود.
والتأثر بالعلم ليس محصورا في العلم الجديد على الإنسان، فالمسلم قد يتأثر
بمعلومة قديمة عنده، لأن التأثر أوسع من مجرد الإدراك.
فليس من شرط التعلم الإيماني أن تكون المعلومة جديدة، بل قد: يسمع أو يقرأ معلومة قديمة عنده فيتأثر بها بناءً على الحال المحيط به، أو الوقت الذي يعيشه كرمضان مثلاً، فكثير من المسلمين يتأثرون برمضان وما فيه من الأجواء الإيمانية التربوية، مع أن بعضهم يحفظ القرآن ويعرف فضائل رمضان.
كل ذلك يؤكد معنى من معان التعلم لا بد من الانتباه له هو التعلم الإيماني الامتثالي.
ومن النتائج المهمة في هذا السياق أن التعلم في المنظور الشرعي أنواع متعددة، من أهمها:
النوع الأول: التعلم الإدراكي، ومعناه أن نتدارس العلم لنحصل معلومة جديدة أو نثبت ما تحقق تحصيله من قبل.
النوع الثاني: التعلم الامتثالي، ومعناه أن نتدارس العلم لنتأثر به ولنربي أنفسنا عليه، وهذا سنة سلفية كما في حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
كيف نتدارس الإيمان؟
إذا ثبت أن من معاني التعلم المهمة تعلم الإيمان وتدارسه، فكيف يتحقق ذلك؟
تدارس الإيمان يمكن أن يتحقق بعدد من الآليات، أهمها:
الآلية الأولى: جمع المواضيع المتعلقة بصلاح القلب والمعينة على زيادة الإيمان والإقبال على الله وجمع ما يتعلق بها من النصوص الشرعية والآثار المروية أئمة السلف، وتبويبها وتقسيمها مما يعين على حسن الإفادة منها.
فكما أن العلماء جمعوا النصوص والآثار التي جاءت في بيان الأحكام الشرعية، وصنفوها وقاموا بتبويبها، فإن جمع النصوص والآثار التي جاءت في بيان الإيمان وتعليق القلوب بالله تعالى لا يقل أهمية عنها.
الآلية الثانية: معرفة القيود والضوابط والحدود والمعالم والتنبيهات المؤثرة فيه، فإن ثمة عددا من المعاني الإيمانية لها ضوابط وقيود تعين المسلم على أن تكون تربيته على بصيرة، وأن تكون علاقته مع الله عز وجل مبنية على بصيرة وعلم، وحتى لا يقع فيما يفسد عليه عبادته وإيمان كالوقوع في البدعة ونحوها، من أمثلة ذلك القيود المتعلقة بالاستغفار والأذكار والقيود المتعلقة بالتوبة، والتنبيهات المتعلقة بالتقوى وغير ذلك من المعاني، كما سيأتي ذكر قدر منه في هذا الشرح.
الآلية الثالثة: إحضار تلك المواد في الدروس والمجالس العلمية، مثل شرح هذه الرسالة، فأنت ترى أن هذا الشرح ليس فيه ذكر لأصول الأقوال والأدلة والرد على المخالفين ونحو ذلك، إنما هو إحضار لمعاني تربوية وإيمانية.
ويدخل في هذا الأمر تفعيل المدارسة الجماعية لتلك المعاني، وتكثيف النظر والتفكر في معانيها.
فكما أن العلماء يعقدون الدروس والمجالس لمدارسة العلم الإدراكي ومعرفة أحكامه وقيوده وقواعدها، فإنه ينبغي أن تعقد الدروس والمجالس لمدارسة العلم الامتثالي والتأمل فيه والتفكير في معانيه وحث النفوس على الالتزام به،
وكان للحسن البصري مجلس خاص في منزله، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان غيرها، تبرم به، وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر.
الآلية الرابعة: بيان فضائل هذا النوع من العلم ومدحه والثناء عليه، ومدح من عرف به من أئمة السلف وغيره فإن في هذا إظهارا لشرفه وعلو مكانته. وقد ذكر معروف عند الإمام أحمد، فقيل: قصير العلم، فقال: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف".
الآلية الخامسة: حمل النفس على امتثال تلك المعاني، وتربيتها على التمسك بها، فالتعلم الامتثالي لا يكفي فيه مجرد المعرفة والإدراك، وإنما لا بد فيه من قدر كبير من التربية وإرغام النفس على الخضوع والاستسلام.
يقول عبدالله بن وهب: "نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا، أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة"
قال الذهبي: "هكذا - والله - كان العلماء وهذا هو ثمرة العلم النافع". أما بالنسبة للأمر الثاني: فهو أن تعلم الإيمان يجب أن يكون قبل تعلم الأحكام، ومعنى هذا أنه ينبغي تكون البرامج التعليمية مكونة من مسارات تتعلق بمدارسة الإيمان وتعزيزه في نفوس المتعلمين، وتعريف القلوب بالله تعالى وتعليقها بها وتعظيم أمر الله وشرعه في نفوس المتعلمين، وتقوية تسليمهم لشرع الله وقبولهم لأخذ كل ما فيه.
وليس المراد بالقبلية هنا القبلية الحدية، بمعنى أنه لا بد من الانتهاء أولا من تعلم الإيمان ثم يكون الانتقال إلى تعلم الأحكام، وإنما المراد بها القبلية النسبية، أي أن يبدأ بقدر من تعلم الإيمان قبل تعلم الأحكام، ثم يدخل الطالب في تعلم الاحكام مع استمرار تعلم الإيمان، فيكون جامعا بين الأمرين.
والمشكل أن كثيرا من البرامج التعليمية لا تتضمن هذه الموازنة، ويغلب فيها التركيز على التعلم الإدراكي أكثر من التركيز على العلم الامتثالي، وهذا خلل كبير في منهجية التعلم، وهو مخالف لمنهجية المدرسة المحمدية.