شبابنا... عندما تصبح البلطجة هي الحل!

يعود ذلك إلى الخَلل في تربية الأبناء منذُ الصِّغر، وترْكهم أمامَ شاشات التلفاز ومشاهد العُنف والبلطجة المتكرِّرة، فهم يتلقَّوْن قيمَهم السلوكيَّة والأخلاقيَّة مِن هنا وهناك...

  • التصنيفات: مجتمع وإصلاح -

كلمة "البَلْطجة" أصبحتْ مِن المرادفات المتكرِّرة بكثرة في لهجة شبابنا وتصرُّفاتهم، وأصبح الشاب (البلطجي) أو الشاب (الفتوة) مِن الرموز الأكثر (روشنةً) بين الشباب!

 

والبلطجة تعني: فرضَ الرأي بالقوَّة والسيطرة على الآخرين، وإرهابهم والتنكيل بهم، وكلمة بلطجة أصلُها ليس عربيًّا؛ حيث إنَّها كلمة تركية بمعني: (بلطة جي) أي حامِل البلطة، وقد كانتْ (بلطة جي) فرقة في الجيش العثماني، إبَّان حُكم العثمانيِّين لمصر، وقامتْ بتمرُّد عامٍّ، ونشروا الفساد في أرجاءِ البلاد، وتَمَّ تحريف الكلمة بعد ذلك؛ لتدلَّ على الشخصية التي تَستخدم العنفَ في تعاملاتها اليوميَّة.

 

وللأسف فقد يعتقد بعضُ الشباب أنَّ البلطجة هي الأسلوب الأمثل للحصول على ما يُريد، سواء كان حقه أم لا، وتطوَّر الأمر لمرحلة القتْل واستخدام السلاح، وليس فقط التهديد به في بعضِ الأحيان، خاصَّة مع بعض حالات الفلتان الأمني التي تُعاني منها بعضُ الدول عقِبَ ثورات الإطاحة بالحكَّام، فلم يعُد هناك رادع لاستخدام البلطجة!

 

فساد حكومي = بلطجة

حاولنا رصد آراء الشباب نحوَ اتِّجاه الكثيرين منهم نحوَ البلطجة خلالَ معاملاتهم اليوميَّة، وأسباب ذلك، وهنا يبدأ إبراهيمُ مِن مصر حديثه قائلاً: "أعتقد أنَّ انتشار البلطجة لا يحدُث إلا في مجتمع يُعاني من فساد القضاء، وعدم حصول أصحاب الحقوق على حقوقهم، سواء بأن يتم "تلبيس" أي قضية لمجرِم لم يفعل شيئًا، ويخرج الجاني الحقيقي بريئًا، فيضطرُّ المجنيُّ عليه أن يأخذَ حقَّه بنفسه، فيلجأ إلى البلطجة، أو إلى استئجار بعض البلطجية".

 

ويتَّفق معه هاني - مِن الكويت - قائلاً: "أعتَقِد أنَّ انتشار البلطجة في الشوارع وتفشيها بشكلٍ كبير مثلَما نجد في بعضِ الدول؛ ككولومبيا، أو المكسيك، هو صفارة إنذار لانتشار الإرهاب - بمعناه الحقيقي - من تعدٍّ على أرواح وأموال وحقوق الأبرياء، والبلطجة والإرهاب لا تفرِّق بين عربي وغربي".

 

وللفتيات نصيب!

ولأسماء - من مصر - رأي آخَر، حيث تقول: "للأسف البلطجة لا ترتبط بالرِّجال فقط، ففي الجامعات والشوارع والمدارس نجِد بعضَ الفتيات اللاتي يستخدمنَ العنف خلالَ تعاملهنَّ مع المعلِّمات والطالبات، وأذكر عندما كنت بالصفِّ الثانوي أنَّ إحدى الطالبات تشاجرتْ لفظيًّا مع إحدى هؤلاء البلطجيات، فما كان منها إلا أن كسرتْ زجاجةَ مياه غازية، وأخذتْ قطعة مِن الزجاج المتناثر وأصابتها في وجهها بها! أعتقد أنَّ هذا نابعٌ من تأثير وسائل الإعلام؛ حيثُ يعتقد الكثيرون أنَّ البلطجة هي مصدر القوَّة".

 

وتضيف صفاء - من سوريا -: "أعتقد أنَّ ممارسة بعضِ الفتيات لأعمالِ العُنف والبلطجة ناتجٌ عن بعض الاضطرابات النفسيَّة؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - خلق المرأة ناعمةً وحنونة، وقد يكون محاولة منها لإثبات ذاتها بشكلٍ غير صحيح، وعمومًا فقدْ يكفي البلطجي أنْ يرتكب أفعالاً عنيفة مرَّةً واحدة؛ لكي يهابه الناس ويخافوه، ويتجنبوا الاحتكاك به؛ بل يخضعوا لكلِّ ما يطلبه.

 

كما أنَّني أظنُّ أن توجه بعض الفتيات لممارسة أعمال العنف والبلطجة قدْ يكون بسبب حدوث بعض أعمال العنف داخلَ الأسرة، كأنْ يكون والدها يتطاول على أمِّها أمامَها، فتعتقد أنَّ القوة ستحفظها من تَكْرار عنف أبيها مع أمِّها - معها داخل إطار المجتمع، وكذلك نفس الحال بالنسبة للشباب".

 

البلطجة هي الحل!

بسخرية شديدة توضِّح إيمان أسباب انتشار ظاهرة البلطجة فتقول: "سابقًا كانت البلطجة هي الحلَّ خلالَ أي انتخابات، ودون أن يعلم أحدٌ سببَ وجودها، ومَن المسؤول عنها، سيوف وشوم، وأسلحة بيضاء وحمراء، وبألوان أخرى كثيرة، كلها ظهرتْ خلال الانتخابات، وكلها أثَّرت - دون شك - في سلوكيات شبابنا، وأظنُّ أنَّ البلطجة ظاهرة مصريَّة "معروفة" منذُ زمن، إلا أنَّها تألقت في الفترة الأخيرة بـ"نيولوك" جديد، إلا أنَّه لم يكن في الأدوات المستخدَمة، ولكن في شكل البلطجية، وبورصة أسعارهم التي أصبحتْ تهدِّد سوق البورصة المصري، وطبعًا سيأخذ شبابنا وقتًا طويلاً للتخلُّص من مرض البلطجة، بل يحتاج إلى فترة نقاهة".

 

استئجار البلطجية

وعن أسعارِ استئجار البلطجية تُضيف إيمان - من مصر -: "مِن العجيب أنَّ هناك قائمة لأسعار البلطجية، والتي تختلف بحسب طبيعة الزبون الذي يطلبُه، وبحسب شعبيه البلطجي في المنطقة، وكذلك تختلف إذا كان الزبونُ مِن أهل المنطقة المطلوب البلطجة فيها، فابن المنطقة له سعرٌ خاص، واجب الجِيرة والعشرة والفتونة!

 

بل إنَّ البلطجة مِثل أي مهنة أخرى، لها سماسرُها وكبارها، فمن يريد استئجار بلطجية يقوم بإعطاء المبلغ كاملاً إلى السمسار الذي يحدِّد بدوره عددَ الأفراد وطبيعة قوتهم، ويرسم لهم الدورَ الذي يقومون به، وهو ما يُنفذه البلطجيةُ بدقة، ويعاقب أي بلطجي يخرُج عنها، ولا يشترط أن يكون الشابُّ البلطجي عاطلاً، ولكنه يعمل ويمارس البلطجة في أوقات "فراغه"! بل وهناك بلطجية طلاَّب جامعة، وموظفون حكوميون ومثقفون، وهم ليسوا جميعًا جهلاءَ وعاطلين عن العمل كما يتردَّد".

 

أمَّا إبراهيم - من ليبيا - فكان له رأيٌ آخر حيث يقول: "مِن الطبيعي لأي بلد عندَما يُعاني شبابه مِن البطالة، وضحالة التعليم للقاعِدة العريضة منهم - أن ينتشرَ فيه العنف، فإنَّهم غالبًا ما يتَّجهون لبعض أنواع الانحراف مثل البلطجة والعنف، والسرقة وقطع الطرق، وأصبح معظم خرِّيجي التعليم الفني مِن هؤلاء البلطجية؛ لأنهم لا يجدون عملاً مناسبًا لهم، وبالتالي فالأوضاع الاقتصاديَّة سبَّبت ذلك ممَّا أدَّى إلى وجودِ الكثير مِن شبابنا في السُّجون؛ بسبب انتشار حوادث البلطجة".

 

لتحيا البلطجة، وليمت العدل والقانون!

وعن أنواع البلطجة يقول سالم - من مصر -: "للبلطجة التي يمارسها الشبابُ عدَّة أنواع، فمِنها البلطجة العنيفة التي يُمارِسها المجرمون وأصحاب السَّوابِق، وبلطجة أصحاب النفوذ التي يُمارسونها على المستضعفين مِن الناس، ومنها بلطجة بعضِ أنظِمة الحُكم ضدَّ معارضيها، وفي رأيي هذا هو السبب الرئيسي لاتِّجاه الشباب إلى البلطجة؛ لأنَّهم يرون تعامُل الحكومات معهم بهذا الأُسلوب، فيطبِّقونه في جميعِ تصرُّفاتهم".

 

أما محمود - من البحرين - فيوضِّح أسبابَ نشأة بعض الشباب منذُ الصِّغر على البلطجة والعنف: "الكثير مِن الآباء والأمهات لا يهتمُّون بفحص أنواع الألعاب الإلكترونيَّة التي يلعبها الأولاد، فهناك العديدُ مِن الألعاب التي تعتمد على البلطجة والعنف؛ فهناك مثلاً لعبة عبارة عن بلطجي كل ما عليه هو قَتْل كل أفراد أسرة لأسر الأب؛ ليكون رهينةً في مقابل مبلغ مالي مِن الشرطة، وأخرى لرجلٍ يقف في مكان عام ولا يَسمح لأحدٍ بالمرور ويقتُل كلَّ من يمر بالمنطقة، وأعتقد أنَّ هذه الألعاب تؤثِّر على الأطفال بشكل كبير، فتوجد بداخلهم عندما يَكْبَرون بعدُ نزعات البلطجة والعنف".

 

اضطرابات نفسية للبلطجي

وفي دراسةٍ للباحث محمد خليل بعنوان: "البلطجة والإفساد في الأرض"، يوضِّح الأبعادَ النفسية للبلطجي، حيث تقول الدراسة: "الدراساتُ النفسيَّة التي تقوم على الفحص النفسي لشخصية هؤلاء المنحرِفين أو البلطجيَّة تثبت أن المظهر العام يبدو هادئًا مع تحكُّم ظاهري في الانفعال، غير أنَّ الفحص النفسي الدقيق يظهر وجود التوتُّر والقَلَق والكراهية، وسُرعة الغضبِ والاستثارة لدَى هؤلاء الأفراد، وهم لا يُعتبرون مِن المرضى النفسيِّين التقليديِّين، ولا يعتبرون مِثل الأسوياء أيضًا، بل هي حالاتٌ بينيَّة يمكن أن يؤكِّد تاريخها المرضي الميل إلى الانحراف والكذب، وارتكاب المخالفات في الجرائم؛ كالسَّرِقة والمشاجرات والإدمان، والأعمال المنافية للعُرْف والقانون، وتكون الجذور والبداية عادةً منذُ الطفولة، وهؤلاء لا يُبدون أيَّ نوْع مِن تأنيب الضمير، ولا يَنزعجون لما يقومون به؛ بل يظهرون دائمًا وكأنَّ لديهم تبريرًا لما يفعلونه مِن سلوكيات غير أخلاقيَّة في نظَر الآخرين، وليس المنحرفون نوعًا واحدًا؛ فمنهم مَن يستغلُّ صِفاته الشخصية في تحقيقِ بعضِ الإنجازات دون اعتبار للوسائل، ومنهم مَن يتَّجه إلى إيذاء الآخَرين، أو تدمير نفْسه أيضًا، ومنهم مَن يتزعَّم مجموعةً مِن المنحرفين، أو مَن يفضِّل أن يظلَّ تابعًا ينفِّذ ما يخطِّط له الآخرون".

 

سلوك التربويِّين وأثره

توجَّهْنا إلى الدكتورة سناء أحمد، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، والتي تقول: "كثيرًا ما نجد استخدامَ العنف مِن قِبل الأخ الكبير أو المدرِّس أمرًا مباحًا على الأطفال في إطار المعايير الاجتماعيَّة الموجودة لدَينا، وهذا بالتأكيد يُنشِئ أطفالاً يتطبَّعون بالعُنف والبلطجة؛ لأنَّهم نشؤوا في مجتمع يَعتبر العنف سلوكًا ممكنًا غير منبوذ؛ فمثلاً: نجِد الطلاب المُعنَّفين من قِبل الأهل والمجتمع المحيط بهم إلى المدرسة، ليفرِّغوا الكبت يقومون بسلوكيات عدوانيَّة عنيفة، يقابلهم طلاب آخرون يشابهونهم بسلوكيات مماثلة، كما أنَّ سلوكيات التربويِّين قد تؤثِّر كثيرًا على تنشئةِ جيل يُعاني البلطجة؛ حيث نجد مثلاً المدرس يلجأ أحيانًا إلى استخدامِ العنف دون داعٍ؛ متصورًا أنَّ الطلاب لا يُمكن التعامل معهم إلا بهذه الوسيلة!

 

وعن سُبل مُواجهة هذه الظاهرة تضيف: "على الأهل منذُ الصغر متابعة الأبناء ورصْد تصرُّفاتهم التي تميل إلى البلطجةِ، كأنْ يكون الطفل شرسًا أو عدوانيًّا، أو عنيفًا أو متمرِّدًا لا يخضع لأحد، يلتهم طعامَ أصدقائه عنوةً، ولا يمانع من أخْذ أدواتهم المدرسية، والسطو على أماكن زملائه في الصفوف الدِّراسية إذا أعجبه الموقِع، ولا يستطيع أحدُهم الاعتراض؛ تلاشيًا لما قد يقع عليه مِن عنف معنوي أو جسماني، أو قد يكون "فتوة الفصل"، كما يُطلق عليه الكثيرون، ذلك الطفل الذي يفرض سيطرتَه على بقية أطفال الفصل يجب أن تنتبهَ إليه المدرسة والأسرة؛ حتى لا يكون نموذجًا مصغرًا مِن الشباب البلطجي".

 

عصابات المراهقين

ويُضيف الدكتور أمجد الهاشمي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، عنِ انتشار البلطجة بين المراهقين خاصة: "هؤلاء البلطجية يُعانون بعضَ الأمراض النفسيَّة المتباينة، فهم يعشقون الإثارةَ وحروبَ الشوارع، والعصابات والمغامرة، دون مراعاة أبعادِ ونتائج هذه السلوكيات".

 

وبالطبع فللإعلامِ والسياسة العالميَّة أثرٌ كبير في تشكيلِ شخصيات هؤلاء البلطجيَّة؛ حيث صِرْنا نسمع ونرَى في نشراتِ الأخبار والبرامج السياسيَّة ما يُسمَّى بالبلطجة الأمريكيَّة في معظمِ بلاد العالَم؛ فالكثير مِن السياسيِّين وقادَة الدول استعملوا هذا المصطلحَ، ووصفوا به عددًا مِن الممارسات القمعيَّة التي قد تمارسها بعضُ الدول، ويتابعها بالطبع هؤلاءِ الشباب الفاقِد للهُوية؛ فيجد مِن أميركا القدوةَ له فيمارس مثلها البلطجة، لكن على طريقته الخاصَّة.

 

والشباب المراهِق في كثيرٍ مِن الأحيان يلجأ إلى البلطجة؛ ليرسمَ صورةً وهميَّة كبيرة عن نفْسه أمامَ الآخرين، فمثلاً في أوَّل أسبوع الدراسة: يلجأ شبابُ الثانوية إلى ارتكاب الكثير مِن أعمال البلطجة في المدرسة لترهيبِ الطلاَّب، ووضع نفسه في مكانة خاصَّة بيْن الزملاء، وحتى الأساتذة؛ حتى يخضع الجميع لما يُريد، وطبعًا يعود ذلك إلى الخَلل في تربية الأبناء منذُ الصِّغر، وترْكهم أمامَ شاشات التلفاز ومشاهد العُنف والبلطجة المتكرِّرة، فهم يتلقَّوْن قيمَهم السلوكيَّة والأخلاقيَّة مِن هنا هناك، والأسوأ حِرْص بعض الآباء والأمَّهات على تنشئةِ أبنائها على العُنف، إيمانًا بأنَّ ذلك يجعلهم أقدرَ على مواجهةِ مشكلات الحياة، ولا نغفل بالطبع المشاهِدَ اليوميَّة للخلافات بين الآباء والأمهات، التي يتبادلون خلالَها العنف اللفظي أو الجسدي، ويلتقطه الأبناءُ عن طريق الملاحظة، كذلك للتفكُّك الاجتماعي دورٌ كبير في انتشار ظاهِرة البلطجة؛ حيث تحدُث الانحرافات السلوكية الناتجة عن حالاتِ اضطراب الشخصيَّة؛ كالقلق والاكتئاب والفصام والوساوس.

__________________________________________________
الكاتب: تسنيم الريدي