فتنة التكبر ومآلاتها
أيها المسلم، هذا الصنف يتصف به الكثير من الناس، وقد تقع أنت في هذه الفتنة، وتتمثل فيك، ولا تدري؛ لأن هؤلاء الصنف قد طمس الله على قلوبهم، فلا يدركون أفعالهم ولا يشعرون بظلمهم للآخرين، وهم من حولك كثير.
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق - نصائح ومواعظ -
إذا نظرت من حولك، فإنك ترى هذا النموذج من الناس الذين يتكبرون على غيرهم، بل إن منهم من يتكبر على الله الَّذِي خَلَقَه فَسَوَّاه فَعَدَلَه، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَه، وإن الإنسان لَيصادف هذا النوع من الناس، وهم أصناف مختلفة، طبقًا لِما أنعم الله عليهم من نِعَمِهِ التي لا تُحصَى ولا تُعَدُّ، فيتكبرون بها على غيرهم، وقد يصل بهم الحال إلى التكبر على من أعطاهم تلك النعمة، فمنهم من يتكبر بما أعطاه الله من مال، ومنهم من يتكبر بما أعطاه الله من جاه، ومنهم من يتكبر بما أعطاه الله من مكانة أو وظيفة، ومنهم من يتكبر بما أعطاه الله من صحة، ومنهم من يتكبر بما أعطاه الله من ذكاء، أو يتكبر بما أعطاه الله من وسامة، وهكذا.
وإنك لتلحظ أن كل عطاء من الله لكل صنف من هؤلاء درجات متفاوتة، فهي قدرة الله في الخلق والعطاء؛ انظر إلى قول الخالق: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165].
ولكن للأسف؛ فإن الإنسان كما قال الله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
ولقد صوَّر الله هذه الفتنةَ في الإنسان أعظم تصوير؛ اقرأ قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
إن هذا الصنف من الناس لَيرتسم لك من خلال الكلمات القرآنية، كأنما تراه بسماتِهِ وحركاته، في الواقع الملموس على الأرض يتضمن تصويرًا دقيقًا لطبيعة هذا الصنف من الناس، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع، ونماذج النفوس.
وإن الإنسان لَيصادف هذا الصِّنف من الخلق، بوصفه هذا وسماته وملامحه، فتراه كأنما يتجنب الرشد، ويتبع الغيَّ دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير؛ فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه، وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله، لا يراها، ولا يتدبرها، ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها، وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصًا بارزًا، حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم، نعم، أعرف هذا الصنف من الخلق، إنه فلان، وإنه للمعنيِّ الموصوف بهذه الكلمات.
فهذا إبليس يتكبر ويقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76].
وتجد فرعون يتكبر وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
وتجد قارون يتكبر ويقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
وهناك أقوام من الخلق يتكبرون على غيرهم من الأقوام: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]، {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].
هكذا ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وما يتكبر عبدٌ من عبيد الله في أرضه بالحق أبدًا، فهو ظالم لنفسه ولغيره.
أيها المسلم، هذا الصنف يتصف به الكثير من الناس، وقد تقع أنت في هذه الفتنة، وتتمثل فيك، ولا تدري؛ لأن هؤلاء الصنف قد طمس الله على قلوبهم، فلا يدركون أفعالهم ولا يشعرون بظلمهم للآخرين، وهم من حولك كثير.
إنها فتنة للطرفين، فهذا المتكبر، وهذا الذي وقع عليه الكبر: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك: {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]، إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها؛ آياته في كتاب الكون المنظور، وآياته في كتبه المنزلة على رسله.
فمن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر، فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث، ومن ثَمَّتجيء بقية الشرور.
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها، كأنما بآلية في تركيبها لا تتخلف.
يتكبرون على عباد الله وعلى الحق، وعلى من جاء به، فمن كان بهذه الصفة، حَرَمَهُ الله خيرًا كثيرًا وخذله، ولم يفقه من آيات الله ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح؛ لفساد قلوبهم، وحسدهم لغيرهم على ما آتاه الله من فضله، وتكبرهم على الناس.
وهناك من يتكبر على الناس بعبادته؛ ظنًّا منه أنه أعبد من غيره، أو أفقه منهم لدين الله، ويزكي نفسه بهذا التكبر والغرور، كما وقع فيه إبليس، فيعلن أنه خير العباد، وأنه من الفرقة الناجية من النار؛ والله يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وإني لأعجب لقول شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
إن شعيبًا عليه السلام مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة الكفر أبدًا، مع ذلك هو يفوض الأمر إلى الله تأدبًا معه، فلا يجزم بمشيئته هو، بل يترك الأمر لله، فقد يكون في علمه سبحانه ما يخفى على البشر، مما تقتضيه حكمته وإرادته.
وقوله: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] إظهارٌ للعجز من جانب شعيب، وأنه في مواجهته لأولئك المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده، ولا يأوي إلا إلى ركنه المكين، وحصنه الحصين.
ونظير قول شعيب عليه السلام قولُ إبراهيم عليه السلام: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]، لما ردَّ الأمر إلى المشيئة وهي مُغيَّبة، مجَّد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات.
وعلى المسلم ألَّا يقع في أي صورة من صور التكبر؛ فهي وسيلة إبليس يوسوس بها إليك، فتقع في كل شر ولا تدري ماذا تفعل، ولا كيفية الخروج من هذه الفتنة.
أيها المسلم:
درِّب نفسك وغيرك على مخالفة الشيطان، وانهج نهج رُسُلِ الله في التسليم لله، في كل شؤون حياتك؛ وتمثَّل قول شعيب عليه السلام في هذه الآية: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
أيها المسلم:
لا تغترَّ بتكبر من حولك، ووصولهم لمبتغاهم في الدنيا، فنهايتهم مؤلمة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
أيها المسلم:
لا تجعل ولاءك إلا لله، ولا تتبع كل متكبر جبار: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123].
أيها المسلم:
يقول لك ربك: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 126، 127].