ليكن لك أثر حسن

حرِيٌّ بالمسلم أن يعمل لآخرته، وأن يترك آثارًا حسنة لِما بعد موته؛ فالآخرة خير وأبقى، ولأن آثار الإنسان تبقى بعده ويُجازَى عليها...

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -

حرِيٌّ بالمسلم أن يعمل لآخرته، وأن يترك آثارًا حسنة لِما بعد موته؛ فالآخرة خير وأبقى، ولأن آثار الإنسان تبقى بعده ويُجازَى عليها؛ قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].

 

{وَآثَارَهُمْ}: هي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حياتهم، وبعد وفاتهم، من الأعمال والأقوال والأحوال.

 

فكيف تترك لك يا عبدالله أثرًا حسنًا بعد موتك؟

 

اعلم - أثابك الله - أن من تلك الآثار التي تبقى للمرء بعد موته السُّنَنَ الحسنة التي يبادرها المسلم، ويتحقق بها النفع للمسلمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً، فعُمِل بها بعده، كُتب له مثل أجر مَن عمِل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنةً سيئةً، فعُمِل بها بعده، كُتب عليه مثل وزر من عمِل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء»؛ (صحيح ابن ماجه).

 

ومن الآثار الحسنة بعد الممات - عباد الله - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته»؛ (ابن ماجه، حديث حسن).

 

ومن الأثر الحسن: غرس الغرس؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة».

 

فهنيئًا لمن سبقوا بتلك الفضائل؛ من شيَّدوا المساجد، وبنَوا المدارس والمعاهد، ومن صنَّفوا العلوم النافعة، ومن حفروا الآبار وشقوا القنوات والأنهار، ومن فتحوا البلدان والأمصار، فدخلت الشعوب في الإسلام، ومنهم من فتحوا بلدانًا كانت عواصمَ للنصرانية والكفر، فأصبحت عواصم للإسلام وللأمة، كما يسَّر الله للسلطان العثماني محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عاصمة المسيحية الشرقية؛ لتصبح عاصمة الخلافة الإسلامية؛ تحقيقًا لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لتفتحنَّ القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»؛ (البخاري في التاريخ، والطبراني، وصححه الذهبي)، وتمر ذكرى فتحها هذا الأسبوعَ.

 

ولم تقتصر تلك الآثار الحسنة - عباد الله - على قادة الجيوش المسلمة، بل كان للتجار المسلمين آثار جليلة عظيمة في دخول شعوب عديدة في الإسلام؛ لِما رأوا من أمانتهم وطيب أخلاقهم، كإندونيسيا التي تضم أكبر الشعوب المسلمة، فلكم - عباد الله - أن تتأملوا كم نال أولئك التجار المسلمين من الأجور والثواب، طوال قرون تترى إلى يومنا هذا!

 

ولم تقتصر الآثار الحسنة على ذوي المال والقيادة والقوة، بل ترك أناس من عامة المسلمين آثارًا جليلة بتمسكهم بدينهم وطيب أخلاقهم، حين أسلم على أيديهم ساسة وقادة، وعلماء وأدباء من الشرق والغرب، بل ملحدون ناصبوا الإسلام العَداء، فانقلبوا - بفضل الله ثم بمعاشرة أولئك - إلى دعاة ينافحون عن الإسلام ويدعون إليه، كذلك الغربي الذي أنتج فيلم (فتنة) للإساءة للإسلام، ثم أصبح من دعاة الإسلام المؤثِّرين في الغرب، فكم نال ذاك المسلم الذي هداه للإسلام بأخلاقه وسَمْتِهِ من الأجر والمثوبة.

 

معاشر المؤمنين:

ومن الآثار الحسنة: الأوقاف التي سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وتسابق الصحابة الكرام إليها؛ منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: ((يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبرَ لم أُصِبْ مالًا قطُّ أنفسَ عندي منه، فما تأمر به؟ قال: «إن شئتَ حبستَ أصلها، وتصدقت بها»، قال: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وَلِيَها أن يأكل منها بالمعروف، ويَطْعَمَ غير مَتَمَوِّل)).

 

ومنها أوقاف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما زال ريع أوقافه إلى اليوم في المدينة المنورة، وبئر رومة التي أوقفها للمسلمين، أما أول مَن أوقف، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوقف بساتين مخيريق اليهودي الذي أسلم، وكان عالمًا من علماء اليهود، صدَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، حتى إذا كان يوم غزوة أُحُد، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وكان قد أوصى إن قُتِل، فأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها بما أراه الله، فقاتل مع المسلمين حتى قُتِل.

 

فآلت أمواله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت سبعة حوائط – أي بساتين – فجعلها صدقة، قال السهيلي: "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق، وكانت سبعة حوائط، أوقافًا بالمدينة لله"، وما زالت تلك البساتين تنتج ثمارها إلى اليوم، إيذانًا باستدامة الخير والثواب لصاحبها.

 

وصدق الشاعر حين قال:

دقات قلب المرء قائلةٌ لـــــــــه  **  إن الحياة دقائق وثواني 

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها  **  فالذكر للإنسان عمر ثاني