المنهيات الشرعية الواردة بلفظ إيَّاكم
أحمد عبد المجيد مكي
وقد وردت أحاديث نبوية تنهى عن إتيان أو فعل جملة من الأخلاق والسلوكيات الذميمة، والمسلم مطالب بأن يتعرف على هذه المنهيات ويبذل جهده ووسعه في التباعد عنها جملة وتفصيلًا.
- التصنيفات: الحديث وعلومه -
من الأساليبِ النَّحويةِ المشهورةِ أسلوب التحذير، والغرض منه تنبيه المخاطب إلى أمر مذموم ليجتنبه، وله أشكال ، منها التحذيرُ بلفظ {إيَّاك وإيَّاكم وإيَّاكما}
وإيَّا : ضمير مختصّ بأسلوب التحذير، بشرط أن يلحقه الكاف متصرفة على حسب أحوال المخاطب، ويعرب مفعولاً به لفعل محذوف وجوبًا تقديره: أُحذِّر "إيّاك/ إيّاكما/ إيّاكم الشر".
وقد وردت أحاديث نبوية تنهى عن إتيان أو فعل جملة من الأخلاق والسلوكيات الذميمة، والمسلم مطالب بأن يتعرف على هذه المنهيات ويبذل جهده ووسعه في التباعد عنها جملة وتفصيلًا.
وقد رأيت جَمْع جملة منها، مقتصرا على ما ورد في السنة النبوية الصحيحة بصيغة (إيّاكم)، وذلك في السطور التالية.
الحديث الأول : عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم - ثلاثاً - ، وإياكم وهَيْشَات الأسواق» . [رواه مسلم وأبو داود والترمذي] .
(وإياكم وهَيْشَات الأسواق)، الهَيْشة: الاختلاط وكثرة اللغط، أي: لا تكونوا مختلطين اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز الذكور عن الإناث ولا البالغون عن الصبيان.
ومعنى الحديث:
أيها المسلمون: ليدنوا مني في الصلاة أو مطلقا، ذوو الألباب والعقول الوافية الرّاجحة، لأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف- إن عرض له عارض- فيكونون أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو ما لا يتفطن له غيرهم، ولأنهم يضبطون صفة الصلاة ويحفظوها ويتعلموها ويعلموها الناس، (ثم الذين يلونهم): أي يقربون منهم في هذه الصفة كالمراهقين. (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميِّزين.
وهذا الترتيب لا يختص بالصلاة، بل من السنة تقديم أهل الفضل في كل أمر أو مَجْمع، ويكون الناس على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسِّن.
الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والوِصال» مرتين قيل: إنك تواصل، قال: « «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» ، ...». م [تفق عليه] .
ومعنى الحديث: اجتنبوا صوم يومين أو أكثر صوما متواصلا دون فطر بينهما، لأنه يورث الضعف وإنهاك الأبدان والعجز عن المواظبة على كثير من العبادات والطاعات، فإنكم لستم في ذلك مثلي أي على صفتي أو منزلتي من ربي. فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة: أنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف التي تقويه وتغذيه وتغنيه عن الطعام والشراب. كما قال القائل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الطعام وتلهيها عن الزاد
الحديث الثالث : عن عبد الله بن مسعود ، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» . [رواه مسلم] .
قال الحافظ ابن رجب: اللسان الصادق من أعظم المواهب والمنح الربانية، وهو أساس الإيمان وأعظم الحسنات، كما أن الكذب أساس النفاق ، ومتى طهر اللسان من الكذب، طهر من غيره من الكلام السيئ المحرم، واستقام حال العبد كله، ومتى لم يستقم اللسان فسد حال العبد كله.
الحديث الرابع : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ««إياكم والجلوس على الطرقات»، فقالوا: ما لنا بُدٌّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: «فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها»، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر»» . [متفق عليه] .
والمعنى: اجتنبوا الجلوس على الطرقات المسلوكة التي يرتادها الناس، لأن الجالس بها قل ما يسلم من سماع ما يكره أو رؤية ما لا يحل، فإذا أبيتم إلا الجلوس، فاحذروا إيذاء المارة ، وليكن وجودكم على طريقهم إحساناً منكم لهم.
الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ««إياكم والظن، فإن الظن أكْذَبُ الحديث»» . [متفق عليه] .
الظن المقصود هنا: تهمة تقع في القلب بلا دليل.
ومعنى الحديث: باعدوا أنفسكم عن ظن السوء بالغير بلا سبب يوجبه. ووصفه بأنه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه، وأن الاغترار به أكثر من الكذب لخفائه غالبا، ووضوح الكذب المحض.
وقد ذكر العلماء أن المحرم في الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه، أما ما يعرض في القلب ويهجس في النفس ولا يستقر، فلا يؤاخذ الإنسان به.
الحديث السادس : عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ««إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قال: «الحَمْوُ المَوْتُ»» . [متفق عليه] .
والمعنى:
احذروا من الدخول على النساء غير المحارم - ومنع الدخول يستلزم منع الخلوة من باب أولى- وهذا من باب سد الذرائع إلى الحرام.
(أفرأيت الحمو) : المراد بالحمو أقارب الزوج من غير المحارم كالأخ والعم والخال وأبنائهم، والمعنى: أخبرني عن دخول أقراب الزوج على المرأة.
(الحمو الموت): أي دخوله على زوجة أخيه أو قريبه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة، فهو محرم شديد التحريم، وهذا نحو قولهم: الأسدَ الموتَ، أي أنه يفضي لقاؤه إلى الموت، والمراد موت الدين، وإنما بالغ بهذا التشبيه لأن الناس يتساهلون بخلطة الرجل بزوجة قريبه والخلوة بها، فيدخل ويخرج بدون نكير، فيكون الشر منه أكثر والفتنة به أمكن.
الحديث السابع : عن أبي قتادة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ««إيَّاكم وكثرة الحلِفِ في البيع، فإنه يُنَفِّقُ، ثم يَمحَقُ»» . [رواه مسلم] .
(يُنَفِّقُ) أي يروج البيع لأنه يدعو إلى الرغبة فيها، (ثم يَمحَقُ) أي يُذْهِب بركة البيع، وذهاب البركة يكون إما بتلف يلحقه في ماله، أو بإنفاقه في غير ما يعود نفعه إليه في العاجل أو ثوابه في الآجل.
وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع، فإن الحلف من غير حاجة مكروه.
الحديث الثامن : عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ««إيَّاكم والشُّحَّ، فإنَّما هَلَكَ من كان قَبلكُم بالشُّحِّ، أمَرَهم بالبُخْلِ فَبَخِلُوا، وأمرهم بالقَطيعة فَقَطعوا، وأمَرهم بالفُجُور فَفَجَرُوا»» . [رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح] .
الشح: أشد البخل، وقيل: هو بخل مع حرص.
وفي معجم اللغة العربية المعاصرة: الشح: ما يُظهره الإنسانُ من حرصٍ وبُخْلٍ شديدَيْن على ما يملك والاقتصاد فيما يُنفق.
ونلاحظ أن الشح تفرعت عنه ثلاث آفات مهلكات، البخل بالحقوق ومنعها، ثم قطيعة الرحم، وخصها بالذكر لشدة الاهتمام بها، والثالثة: الفجور، ويحصل عنه شر الترك وشر الفعل جميعًا، وبه هلاك الدين والدنيا.
الحديث التاسع : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- ««سَيَكُونُ في آخر أُمَّتي أُناس يحدِّثونَكُم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم» . [رواه مسلم في مقدمة صحيحه بإسناد حسن] .
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم : يعني: أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين، ولا تعرفه، وفي قوله: (أنتم ولا آباؤكم) إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين -مع تقادم العهد وتطاول الزمان- فهو الحق، وأن ما أُحْدِث بعد ذلك مما يُسْتَنكر فلا خير فيه.
نسأل الله أن يجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، وأن يباعد بيننا وبين الحرام كما باعد بين المشرق والمغرب، إنه جواد كريم.