ما كان لله يبقى
من كان قصده رب العالمين وطلب رضاه لم يلتفت إلى كلام المثبطين، ولم يخش لوم اللائمين، ولا نقد الفارغين؛ لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيرًا مما كان لله فيه رضا...
- التصنيفات: أعمال القلوب -
عباد الله، "ما كان لله يبقى"، حفظ لنا التاريخ هذه الكلمة لإمام دار الهجرة أبي عبدالله مالك بن أنس رحمه الله، قالها حين أراد المثبطون ثنيه عن كتابة موطَّئه فقالوا له: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه النَّاس وعملوا أمثاله، فقال: ايتوني به، فنظر فيه ثمَّ نَبَذَه، وقال: "لَتَعلَمُنَّ ما أُريدُ به وجه الله تعالى"، وقال لآخر: "ما كان لله يبقى".
فشهد علماء الإسلام جيلًا بعد جيل بجلالة قدر هذا الكتاب؛ فقُرِئَ وشُرِحَ وطُبِعَ مرارًا وتكرارًا، واعتُني به غاية العناية، قال ابن خلدون في مُقدِّمته: "وتلقَّت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها"، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "وإنَّ للموطَّأ لوقعًا في النفوس ومهابة في القلوب لا يُوازيها شيء"؛ صدق مالك رحمه الله: "ما كان لله يبقى".
لقد رسمت هذه الكلمات الطريق للسائرين إلى الله جل جلاله المبتغين رضاه، إنه الإخلاص لله جل جلاله، وتوجيه القصد له دون قصد الثناء أو الاعتلاء على الناس والله عليمٌ بذات الصدور.
فمن عظُمَ إخلاصُهُ بارك الله في علمه وعمله ومؤلفاته وكلماته وماله، وهي من الحسنات الجاريات بعد الممات، أولم يقل رسولنا صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ؛ (رواه مسلم).
عباد الله، من كان قصده رب العالمين وطلب رضاه لم يلتفت إلى كلام المثبطين، ولم يخش لوم اللائمين، ولا نقد الفارغين؛ لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيرًا مما كان لله فيه رضا، وكان خوف الناس فوق ملامة الله له، وهذا ما عمله الإمام مالك رحمه الله، لم يلتفت إلى كثرة الموطَّآت في المدينة، ولم يُعِرْ للنقد بالًا، ولم يقعده التثبيط عن تصنيف موطَّئه؛ بل أراد أن يغرس في أمة الإسلام غرسه، ويقدم الخير لآخرته؛ قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
عباد الله، لقد ربَّى إمام المخلصين وسيِّد الأولين والآخرين صحابته على الإخلاص، فنهلوا من منهله، واستناروا بعلمه وهديه، فحفظت لنا كتب الآثار والمصنَّفات الكثير من أقوال الصدِّيق وأمثاله، وكذا عمر وعثمان وعلي، وسائر الصحب الكرام، حتى صارت أقوالهم موضع قدوة واحتجاج، وانظر إن شئت لحَبْر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس متكلمًا في تفسير القرآن وبيان معانيه أمام حشد من المتقين ولم يدونه في كتاب له؛ بل لم يكن التأليف عندهم مألوفًا فيقضي الله تعالى أن تدوَّن أقوال هذا الحَبْر في كتب التفسير، ثم تُفرَد في كتاب مستقل بعد قرون يحمل اسم (تفسير ابن عباس رضي الله عنه).
بل انظر لمواقف حفظها التاريخ لأصحابها؛ فهذا عثمان في جيش العسرة يأتي بمال كثير، فيفوز بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم»، فيا أصحاب الأموال، ليكن فيه قدوة لكم.
ويحفظ التاريخ مبادرته رضي الله عنه بشراء بئر رومة التي قال فيها المصطفى عليه الصلاة والسلام: «من يشتري بئر رومة وله الجنة»، فاشتراها عثمان، وهو في الجنة إن شاء الله، بشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قد سطَّر التاريخ مقولات هؤلاء المخلصين وأعمالهم؛ فطلحة رضي الله تعالى عنه أحد المبشَّرين وقى النبي صلى الله عليه وسلم، واتقى النَّبْل عنه بيده، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَوجَبَ طلحة»، وعمل خفي يخفيه بلال بن رباح رضي الله عنه، فتأتي البشارة بسماع خشخشة نَعْلَيه في الجنة؛ ألا وهو ركعتا الوضوء.
وتحفظ دواوين السُّنَّة فضل الصدِّيق إلى قيام الساعة بعبارة تكتب بمِداد الذهب «ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يُكافِئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال قطُّ ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ألا وإن صاحبكم خليل الله».
ويحفظ التاريخ موقف إمام السُّنَّة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في يوم المحنة ((وما عند الله خير وأبقى للذين اتقوا أفلا تعقلون)).
وهذا البخاري تلميذ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يُصنِّف الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه، فيحتفي به العلماء عبر الأزمان، ولا تسل عن الراحة والطمأنينة عند كافة المسلمين حين يختم الحديث برواة البخاري في صحيحه؛ ولذا لما علم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري أثر الإخلاص وصلاح النية في بقاء الكتاب وقبوله صدَّر كتابه بحديث ((إنما الأعمال بالنيَّات)) فيكون هذا تنبيهًا لكل من قرأ كتابه أنه يقصد به وجه الله.
ولعل هذا الملحظ انتبه إليه العالم المحقق أبو زكريا النووي صاحب كتاب رياض الصالحين، فصدَّر كتابه بهذا الحديث كصنيع البخاري، وانطبع إخلاصه في التأليف على الكتاب حتى رأينا من شأن هذا الكتاب عجبًا يندر له نظير، ليبقى هذا الكتاب شامِخًا بين العلماء والعوامِّ على حد سواء، فلا يكاد يخلو مسجد من المساجد إلا وفيه رياض الصالحين؛ بل إن تعجب فاعجب لقبول الناس لمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الذي لم تنتشر كتبُه إلا بعد وفاته، لنعلم جميعًا أن ما كان لله يبقى.
ما لا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم.
وقل مثل ذلك في تلميذه ابن القيم رحمه الله، وعلى نهجهم سار العلماء والمصلحون على مر الأزمان، فهذا مجدد الدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله الذي كتب الله لكتابه (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) القبول، وهو كتاب بناه على كلام الله ورسوله؛ فكان له الأثر البالغ إلى يومنا هذا، وصدق مالك رحمه الله حين قال: "ما كان لله يبقى".
عباد الله، وإن شئت أن تقلب النظر في عصرك لترى أُناسًا كتب الله لهم ولآرائهم القبول فسبحان مانح القبول للناس ولا نُزكِّي على الله أحدًا.
ويجب التنبيه على أمر مهم؛ وهو أننا لا نجزم أن كل كتاب نفع الله به ظاهرًا أن صاحبه كان مخلصًا، ولا أن أي كتاب اندثر أن في إخلاص مُصنِّفه شيئًا؛ لأن أعمال القلوب علمها عند علَّام الغيوب، والمهم أن تستفيد من هذه الأخبار لنفسك، وتعرضها على عملك، ونترك الناس لربِّ الناس، ونسأل أنفسنا ما دامنا في زمن المهلة: في أي أعمالنا ما كان لله يبقى؟
عباد الله، لأن أبقى الله علم أولئك الأخيار فقد أبقى الله أثر مشورات ذوي الحِجا والعقول، فهذه مشورة أم سلمة على رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية شامخة عزيزة دالة على رجاحة عقل أُمِّنا رضي الله عنها، وهذه مشورة سلمان في غزوة الأحزاب حُفِرَت في أعماق التاريخ، ولا تسل عن بركة مشورة الفاروق عمر بن الخطاب على الصدِّيق رضي الله عنهما في جَمْع القرآن وانشراح صدر أبي بكر لها، وصدق مالك: "ما كان لله يبقى".
وانظر إلى الأفكار التي بارك الله فيها؛ كـفكرة مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات، وما كتب الله فيها من الخيرات والبركات، والدروس والمحاضرات، وانتشار دعوة الجاليات، كل ذلك في ميزان صاحب الفكرة التي أشار بها عام 1407 هـ "ما كان لله يبقى".
وكذا ألقى الله أثر العلماء في تلاميذهم، فعلمهم يسري في حلقات العلم عن طريق مؤلفاتهم وطلابهم، وانظر في هذه الكوكبة العظيمة وأجر بقائها لتعلم أن أجرها يسري في حسابها وحساب من علَّمَته، ولا نُزكِّي على الله أحدًا، والقبول أمره لله سبحانه، فالإمام مسلم تلميذ الإمام البخاري، فمسلم حسنة من حسنات البخاري، والإمام البخاري تلميذ الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعًا، فالبخاري في ميزان الإمام أحمد، والإمام أحمد تلميذ الإمام الشافعي، فأحمد في ميزان الشافعي، والإمام الشافعي تلميذ الإمام مالك، فالشافعي في ميزان مالك، والإمام مالك تلميذ نافع، فالإمام مالك في ميزان نافع، ونافع تلميذ الأعرج، فنافع في ميزان الأعرج، والأعرج تلميذ حافظ السنة أبي هريرة عبدالرحمن بن صخر الدوسي، فالأعرج في ميزان أبي هريرة، وأبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجميع في ميزان المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فسبحان من زرع حب العلم في نفوسهم! وأناسٌ كان لأثر هؤلاء الأعلام أثر عليهم من والد ووالدة وصاحبٍ وشيخٍ لا يُعلم حالهم؛ ولكن الله يعلمهم والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
عباد الله، أسوق على مسامعكم هذه الأخبار؛ طلبًا لشحذ همتي وهمتكم للعمل والإخلاص لله، فالفرصة ما زالت ممنوحة، وما كان لله يبقى من الأقوال والأعمال والأفكار تسري ولا يعلم أثرها إلا الله، فالبركة مقرونة بالإخلاص، ونزع البركة مقرون بخلوِّ العمل من الإخلاص، فأخلص في عبادتك، وفي قولك، وفي عملك، وفي نصحك وتوجيهك، وفي معاشرة زوجك، وأخلص في تربية أولادك، وفي القيام مما أولاك الله من مسؤوليات يبقي الله أثر عملك وأجره في دنياك وآخرتك، وابذر الحَبَّ والله يتولَّى سقيه وإخراج نباته.
يا أخي، أسوق هذه الأخبار وأنا أعلم أن في الناس مثبطين، وعن عمل الخير مبعدين، إن نصحت ووجهت عاتبوك، وإن اجتهدت في عملك قالوا: لم التَّعَب والإجهاد، والراتب في آخر الشهر مضمون، وإن خاف مُربِّي الأجيال على طلابه واجتهد في تربيتهم عاتبوه، وقالوا: من يقدر عملك إنما تأكل من صحتك وعمرك، وما علم هؤلاء المساكين أن من اجتهد فإنما يُقدِّم لنفسه، قيل للإمام ابن باز: لم تُتعِب نفسك؟ قال: راحتها أريد.
فإلى كلِّ فرد من أفراد المجتمع نقول: يقول الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
فيا لسعادة من لم تنتهِ حسناته بموته! بل هو آثار وحسنات تُكتَب، اللهم اجعلني وإخواني منهم، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
_______________________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني