الإحرام سلام واحترام

"عباد الله، الحج منحة ربانية، ونفحة قدسية، ورحلة إيمانية، تشتاق لها النفوس، وتهفو لها القلوب، وتهوى لها الأفئدة"

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -

أيها المسلمون، وراء كل شجرة ثمرة، وخلف كل آية حكمة، ومع كل خطوة دعوة، والمؤمن يسير إلى الله بصدق الإيمان وكمال الإحسان وعين الرحمن، وما أُرسلت الرُّسُل ولا أُنزلت الكتب، ولا فُرضت الفرائض، ولا خُلق الكون إلا للذكر والعبادة، قال تعالى:  {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}  [الذاريات: 56].

 

 

خذوا عني مناسككم:

أيها المسلمون، إن الحج يربطنا بالقدوة الحسنة والأسوة الطيبة، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «خذوا عني مناسككم» فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرَّى أن يكون حَجُّه وفق الهدي النبوي الكريم، فينوي الحج بإخلاص، ويلبس الإحرام بعناية، ويختار الحصى بدقة، ويتحرَّى الهدي كذلك بفرحة، ويرمي الجمرات بهمة، يرجو ألَّا يَحيد عن هدي نبيِّه، ولا يرجع عن أوامر دينه، ينبغي له كذلك أن يتأسَّى به في حياته كلها، وصدق الله:  {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}  [الأنعام: 162، 163].

 

 

رحلة إيمانية:

عباد الله، الحج منحة ربانية، ونفحة قدسية، ورحلة إيمانية، تشتاق لها النفوس، وتهفو لها القلوب، وتهوى لها الأفئدة  {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}  [إبراهيم: 37].

 

الحج رحلة إيمانية: تريح الأبدان، وتزيد الإيمان، وترضي الرحمن، وتُحقِّق الأمن والأمان  {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}  [البقرة: 125].

 

 

هناك السلام في أبهى صوره، والأمان في أجَلِّ معانيه، فلا يصاد الصيد، ولا يقطع الشجر، ولا يُروَّع الطير، ولا يرد فيه بإلحاد، ولا يروج فيه بظلم:  {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}  [الحج: 25].

 

 

الحج سمو في الأخلاق:

أيها المسلمون، الحج ركن من أركان الدين، وموسم من مواسم المسلمين، وملتقى كل عام للمتقين، تهذيبًا للنفوس، وتطهيرًا للقلوب، ومَحْوًا للذنوب، وغسلًا للأدران، وثقلًا في الميزان، وهو ملتقى اجتماعي، وتعارُف إسلامي، ومنبع إيماني.

 

الحج بركة في الأرزاق، وسمو في الأخلاق، وعلو في الأذواق، تجتمع النفوس المؤمنة على المودَّة والمحبة، وتلتقي الوجوه المتوضئة على الرأفة والرحمة، وتذوب النفوس الطاهرة في الإخلاص والعطاء.

 

 

الحب المندوب:

عباد الله، إنَّ تحمُّل عناء الرحلة، ووعورة الطريق، وبُعْد المسافة، ومشقة السفر، كل ذلك يذوب ويتحوَّل إلى لذَّة، وينقلب إلى فرحة، وينتهي إلى مسرَّة، إنها إيمانيات الحج، وروحانيات البيت، إنه الحب المرغوب، والجمال المحبوب، والأجر المطلوب، في ظل الحرم المكي، وفي رحاب البيت العتيق، وفي حرم الأماكن المطهرة التي شرفها الله تعالى فجعلها مثابةً للناس وأمْنًا، فيها يكون التجلي الرُّوحي، والإشراق النفسي، والتيقُّظ الوجداني، وبهذا الإشراق المتألِّق، والنور المتلألئ، والإشعاع المتقد، تلتقي الأرواح قبل الأشباح، والوجدان قبل الأبدان، والأفئدة قبل الأرصدة.

 

كان بعض الصالحين حينما يشتاق للحج والعمرة يقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، طال شوقي إليك، فعَجِّل قدومي عليك، يارب طال شوقي إليك فعَجِّل قدومي عليك، ويسر لنا حجة وعمرة قريبة نحن وأهلنا وأحبتنا وكل مشتاق، لبيك اللهم لبيك، طال شوقي إليك، فعَجِّل قدومي عليك.

 

 

التوفيق من الله:

أخوة الإسلام، الحج رحلة إيمانية بالروحانيات التي تسيطر على مشاعر الحجيج، والإيمانيات التي تمتزج بأحاسيس المريدين، والطمأنينة التي تسكن قلوب الموحِّدين، يتجلَّى كل ذلك عندما يبدأ الحاجُّ بالتفكُّر في هذه الرحلة، يخلص النية لله، ويتحرَّى النفقة الحلال ملبيًا: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

 

إن الفرح من الله، والسعد من الله، والتوفيق من الله، والخير كله بيد الله: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، لا ملجأ ولا منجًى منك إلا إليك، تباركت ربنا وتعاليت.

 

 

حياة الروح:

عباد الله، يبدأ الحاج من الميقات بملابس الإحرام، مغمورًا بالأمن والسلام، صادحًا بالتلبية والإكرام، مقتديًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، محترمًا للبيت الحرام، مقدرًا له وضيوفه الكرام، محققًا أغلى وأحلى الأحلام، إنها ملحمة تفصل بين متاع الدنيا وأعراضها، وحياة الروح ونعيمها، وكأن مكان الإحرام فاصل بين المادة والروح، والدنيا والآخرة.

 

يتجه المؤمن نحو البيت العتيق، راكبًا أو راجلًا، أبيضَ أو أسودَ، امرأةً أو رجلًا، وهنا يحرم القلب فيتطهَّر من الرذائل والعيوب، ويتوب من الآثام والذنوب، ويتخلَّص من الضغائن والأحقاد، يرجو الخير لكل العباد، وينتمي لركب الزهَّاد، فلا يكون فيه سوى الله، متمثلًا قوله صلى الله عليه وسلم: المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، فكما يتجرَّد من ملابس الدنيا وزخرفها، يغسل قلبه بماء الحب والشوق، يغرس فيه بذور الصفح والسماح، راجيًا من ربِّه النجاح والفلاح، يستر نفسه بثوب أبيض، يفيض من نور الحب في الله، ويتلألأ بحق الأخوة في الله.

 

 

الحج تجرُّد:

أيها المسلمون، الإحرام بذلك هو التجرد من كل زينة، فلا فرق بين رئيس ولا مرؤوس، ولا غني أو فقير، فالجميع أمام الله سواء، لا يتفاضلون إلا بالإيمان والإحسان، ولا يتميزون إلا بالتقوى والعمل الصالح!

 

نعم فالحج يقوم على التجرُّد، التجرُّد من ثقلة الأرض، التجرد من زخرف الدنيا، التجرد من مشاغل الحياة، التجرد من مشاكل العمل والبيت والأهل، فقط التجرد لله وحده، وإلا كان طريق الفسق والفاسقين، ونعوذ من ذلك بالله رب العالمين  {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}  [التوبة: 24].

 

فالقلب محل نظر الله، والله عز وجل يغار أن يرى في قلب عبده غيره، فيجب أن يتخلق العبد بأخلاق الله! ويقتدي برسول الله صاحب الخُلُق العظيم  {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}  [القلم: 4].

 

كيف لا؟!

عباد الله، كيف لا؟! والذكريات هناك تجوب في القلوب كما تجوب السحب في الفضاء، وتشرق فيها كما تشرق الشمس في السماء.

 

كيف لا؟! وهناك تجد ملحمة الحج تصل الماضي بالحاضر، وتربط الدنيا بالآخرة، وتجد التجارة والعبادة، وتجمع المساجد كلها بالمسجد الحرام، والمسلمين جميعهم بأبيهم الخليل إبراهيم عليه السلام!

 

كيف لا؟! والحاجُّ يتجرَّد من كل شيء دنيوي، متجهًا لجمع أخروي!

 

كيف لا؟! والحاجُّ يلبس ملابس بيضاء بدون مخيط؛ كأكفان الموتى المقبلين على ربِّهم، والقادمين على آخرتهم!

 

كيف لا؟! والحاج يعظم المشاعر من اللحظة الأولى استجابة لأمر صاحب البيت العتيق  {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}  [الحج: 32].

 

كيف لا؟! والحاجُّ سيدخل في الضيافة الروحية في أطهر مكان وأغلى بيت، وأفضل بقعة على وجه الأرض، يستضيف الله فيه عباده المؤمنين الذين جاءوا إليه من مشارق الأرض ومغاربها، من كل حدب وصوب، بالبر والبحر والجوِّ، شعثًا غبرًا، حاسري الرؤوس، نازعين من قلوبهم وأجسامهم كل المظاهر المادية، يتجردون بأرواحهم وينالون شرف الضيافة على تلك المائدة الربانية، وذلك الغذاء الرُّوحي، منقطعين من أهواء الدنيا في حياتهم، وأهوال الحياة في بلادهم، والطبائع الأرضية في نفوسهم، محلقين في الفضاء، متعلقين بأسباب السماء، مقتدين بنبيِّهم متسلحين بالرجاء: اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ليتعلموا من نبيِّهم كيف يتخلصون من السمعة والرياء، فالرياء آفة العبادة، وهو الذي يُبْعِدها عن الدرجات العالية، وهو في ذاته الشرك الخفي، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صلَّى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يرائي فقد أشرك».

 

كيف لا؟! وهو يلبي النداء، ويرفع الرجاء، ويدعو ربَّ الأرض والسماء: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

 

 

إعلان القدوم:

عباد الله، هذه التلبية ما هي إلا إعلان للقدوم، واستجابة لأذان الحج  {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}  [الحج: 27]، لتقديم القربات، وتلقي الخيرات، ومَحْو السيئات، وشهود المنافع، والذكر عند ذبح الأضاحي، وإطعام البائس والفقير  {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}  [الحج: 28]، روحانيات عالية، وإيمانيات سامية، وحسنات وافية، بمجرد دخول الحاجِّ في مقام الضيافة، وانتقاله من دركات الأرض إلى منازل السماء، ومن ضيافة العباد إلى ضيافة ربِّ العباد، ومن أهوال الدنيا إلى ثواب الآخرة، ومن شقاء الحياة إلى عبق الجنة!

 

 

رحلة مباركة:

إخوة الإسلام، إنها رحلة مباركة إلى أماكن مقدسة، في أوقات طيبة، في جموع طاهرة، وعلى قدر الصدق والإخلاص في الرحلة الأولى يكون الأجر والثواب في الرحلة الأخرى.

 

بالإحرام دخل العبد في عبادة الحج، فليكثر التلبية ويجددها عند اجتماع الناس، وعند كل صعود وهبوط، وعند كل ركوب ونزول، رافعًا بها صوته بصورة معتدلة، فإنه لا ينادي أصمَّ ولا غائبًا؛ وإنما ينادي سميعًا بصيرًا، قريبًا مجيبًا، مع التلبية من تكبير عند كل مرتفع، والتسبيح عند كل منخفض، فتلك هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

فليتذكر كلُّ حاج هذه المعانيَ عند الإحرام؛ حتى يبدأ النسك على الوجه الأكمل، وعلى النحو الْمُرضي.

 

 

مساواة ومواساة:

عباد الله، إن الإحرام يُعلِّمنا المساواة والمواساة، الكل في لباس أبيض من غير تمييز لأحد على أحد، الغني بجوار الفقير، والوزير جنب الخفير، والأبيض مع الأسود، الجميع سواء أمام عظمة الخالق، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، ولا لغني على فقير، فالمنع هنا قمة العطاء، والحدث أبعد ما يكون عن الفخر والخيلاء، فلا تذهب ملابس الإحرام -على هذه البساطة- بروعة المعنى، ولا تُلقي بحلاوة الرُّوح، ولا تنقص من قدر الحاجِّ ومكانته التي تتجلى أمام الله وفي ضيافته.

 

 

وادي الفلاح:

أيها المسلمون، بهذا التقدير يدخل المسلم وادي الفلاح، وبهذا الاحترام يدخل المؤمن فرح الأرواح، وبهذا الإحرام يوفق إلى كل نجاح، وبهذا الفهم يصل المؤمن إلى كل فلاح.

 

 

اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا.

__________________________________________________________
الكاتب: خميس النقيب