الإسلام دين العمل والإصلاح
جاء الإسلام ليدعو إلى تجريد التوحيد، ويدك صروح الشرك دكاً، ويأتي بنيانه من القواعد ويقيم الإصلاح على أمتن القواعد وأقوى الأسس، ويقطع ذرائع الفساد والإفساد، ويستأصل جراثيم الشر جميعاً
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
جاء الإسلام ليدعو إلى تجريد التوحيد، ويدك صروح الشرك دكاً، ويأتي بنيانه من القواعد ويقيم الإصلاح على أمتن القواعد وأقوى الأسس، ويقطع ذرائع الفساد والإفساد، ويستأصل جراثيم الشر جميعاً، ويبين للناس أن سعادة الدارين منوطة بالعمل، وينتزع الأطماع الباطلة من أصولها، ويقضي على الأماني الفارغة في مهادها.
قال تعالى: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].
وقال تعالى: { {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19].
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-41].
وقال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان: 22].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37].
وقال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّ} هِ ﴾ [الإنفطار: 19].
وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} البقرة: 123].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
وقال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18].
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 33-41].
وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة: 7-8]. وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 123-124].
والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تستوعب في مثل هذه العجالة.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الناس يجزون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل[1]. إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم. وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني عبدالمطلب، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً يا فاطمة بنت رسول الله، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً»[2].
كل هذه النصوص الصريحة القاطعة الحكيمة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ترشدك وتملأ نفسك يقيناً، وقلبك اطمئناناً إلى أن جزاء الآخرة منوط بالعمل فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
وفي هذه النصوص الحكيمة قطع للأطماع الفارغة، والأماني الباطلة، ودعوة صريحة عازمة إلى العمل الصالح الذي ينال به العامل الآخرة الصالحة.
بهذه النصوص قضى الإسلام على العقيدة التي كانت فاشية في المشركين، وجهلة أهل الكتاب، وبين له بما أنـزل من الآيات البينات، وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم بصريح العبارات أن الجزاء في الآخرة بالعمل لا بالشفاعات.
وبذلك قضى الله ورسوله على غرور المغترين، وفتنة المفتونين الذين يزعمون أن آلهتهم أو أحبارهم شفعاؤهم عند الله.
قضى الله ورسوله على أطماع الذين كانوا يزعمون أن نظام الآخرة كنظام الدنيا، وأن الإنسان بغير عمل يستطيع أن يكون في درجات العاملين ومنازل الصالحين، ما دام يمت ببعض الصلات إلى بعض الذين لهم ما يشاءون عند ربهم.
وعسى أن يتدبر القارئ الكريم قول الله الحكيم: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8].
وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9].
وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِوَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، لقد تقطعت الأسباب.
وتصرمت العلائق إلا الإيمان وصالح العمل: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن: 13]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن: 23].
ومن[3] هنا تبين لك أنه لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، والناس مجزيون بأعمالهم فلا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا تغني عنهم المزاعم التي كانوا يزعمون: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} [الكهف: 52].
هنالك لا يملك والد أن يرد العذاب عن ولده ولا ولد يدفع عن والده، ولا يستطيع أحد أن يجادل عن أخيه، ولا حميم أن يدفع عن حميم، ولا شيخ عن مريده.
هنالك يعلم الناس أنهم كانوا مخدوعين بالأباطيل مغرورين بالأكاذيب يوم كان بعض شيوخهم يقول لهم: لولا أن الشفاعة سبقت للنبي صلى الله عليه وسلم لسددت بيدي أبواب الجحيم: هيهات هيهات يا صاح.
يقول الله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
ويقول الله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
بطلت الشفاعة الشركية وانهارت آمال المشركين:
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
هذا نص كريم من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وليس تدبره بالأمر العسير. ولقد يسر الله كتابه للذكر.
إذا تدبرت هذا النص تبين لك أن هنالك شفاعة ولكنها بعد الإذن، ولا يمكن أن ينتفع بها المشركون: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
إنما ينتفع بالشفاعة المؤمنون الذين عملوا الصالحات، ولم يقترفوا الآثام في الدنيا اعتماداً على أن لهم شفيعاً يشفع لهم فيرد عنهم عذاب الله.
وقد وضحت لنا السنة النبوية هذه الشفاعة فاستمع إلى الإمام مسلم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند المتصل يقول:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال: بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا حمماً - أو فحماً- أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل».
هذا كلام الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى يبين أن أهل النار الذين هم أهلها من المنافقين والكفار والمشركين لا يموتون فيها ولا يحيون أي لا يموتون موتاً مريحاً، ولا يحيون حياة يستمتعون فيها بلذة الحياة مع الراحة من العذاب.
أما المؤمنون العصاة الذين أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم إماتة.
ومعنى ذلك أنهم إذا استوفوا ما يستحقون من عذاب بما اقترفوا من سيئات، أفقدهم الله الحس حتى لا يتألموا فوق ما يستحقون فقد أخبر رب العزة بأنه من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون - فإنهم يصيرون حمماً أو فحماً ثم يأذن الله في الشفاعة لهم.
هل أخبر الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - أنه يؤذن في الشفاعة لهم قبل أن تمسهم النار؟ أو قبل أن يذوقوا حرها ويقاسوا حريقها؟
هل أخبر الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - أنه يؤذن في الشفاعة لهم وهم سالمون موفورون قبل أن تلفح النار وجوههم؟
لا. لا، وإنما أخبر بأن النار تصيبهم بذنوبهم حتى يصيروا حمماً أو فحماً، وهذا حسبهم.
ولو أن امرأ قضى حياته كلها سادر في غيه وضلاله مستمتعاً بكل ما استطاع أن يتمتع به من اللذات المحرمة والشهوات المحظورة ثم قضى في الجحيم لمحة أو نفساً لأنساه عذاب هذه اللمحة جميع ملذاته ومناعمه، فكيف إذا صار حمماً.
يؤذن بالشفاعة بعد أن يحقق الله وعيده، وبعد أن يستوفوا ما يستحقون من جزاء بما كسبت أيديهم. ولا يؤذن فيها قبل أن يذوقوا العذاب بما كانوا يفسدون. وهذه الشفاعة التي تقع بإذن الله تعالى غير تلك الشفاعة الشركية التي كان يعتمد عليها المشركون، فيفرطون في جنب الله، ويتخذون من دونه أولياء يظنون أنهم شفعاؤهم عند الله، وأنهم يغنون عنهم من الله شيئاً.
هذه الشفاعة للموحدين الذين جردوا توحيد الله تعالى وأخلصوا له الدين، فلم يشركوا به شيئاً، ولم يدعوا معه إلهاً آخر، ولم يتخذوا من دونه أولياء. ولكنهم أسرفوا على أنفسهم، واقترفوا ذنوباً وخطايا لم يتوبوا منها، وماتوا مصرين عليها، فتمسهم النار بذنوبهم لتطهرهم من خطاياهم، حتى إذا صهرتهم النار، واستوفوا جزاءهم وذاقوا جزاء ما قدمت أيديهم وحقق الله وعيده، أذن الله في الشفاعة لهم فأخرجوا من النار، وبثوا على أنهار الجنة لتنبت لهم أجسام جديدة لم تتلوث بمقارفة الخطايا ولم تتدنس باجتراح الآثام لتدخل الجنة الطيبة التي لا يدخلها إلا طيب.
ولو أنهم طهروا أنفسهم بالتوبة من قبل أن يأتي أحدهم الموت لماتوا طيبين طاهرين ولم يحتاجوا إلى تطهير الجحيم.
فماذا عسى أن يقول المفتونون والمغرورون؟
أليس في هذا الحديث الشريف ما يقوض صروح الآمال الباطلة التي يتعلق بها المخدوعون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
[1] هذا من قول الحسن البصري.
[2] أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
[3] كتاب الشفاعة للشيخ أبو الوفاء درويش، ص:47-83.
___________________________________________________________
الكاتب: الشيخ أبو الوفاء محمد درويش