العقل المظلوم
لكون أحكام العقل ظنيةً في معظمها، فيدَّعي البعض أن العقل لا يُركَن عليه في إنتاج المعرفة، وإصدار الأحكام؛ فهل هذا الادعاء صحيح؟
- التصنيفات: - ثقافة ومعرفة - نصائح ومواعظ -
لكون أحكام العقل ظنيةً في معظمها، فيدَّعي البعض أن العقل لا يُركَن عليه في إنتاج المعرفة، وإصدار الأحكام؛ فهل هذا الادعاء صحيح؟ والجواب على ذلك:
إن هذا الكلام غير صحيح ومضلل لأكثر من سبب.
فنعم إن معظم أحكام العقل ظنية، وهذا ما يجعل من فرصة الانحراف أو الخطأ في أحكام العقل قائمة، وليست معدومة، أو على الأقل ما يجعل الاختلاف بين الناس قائمًا بسبب ذلك، لكن هذا لا يعني أن العقل لا يُركَن عليه في إنتاج المعرفة، وإصدار الأحكام، فهذا الكلام غير صحيح ومضلل؛ لستة أسباب:
السبب الأول: إن العقل هذه هي طبيعته - ماهيته - فلا يمكن للإنسان الخروج عليها، وهي طبيعة يشترك بها جميع البشر دون استثناء؛ فليس هناك بديل آخر عن طبيعة العقل هذه، حتى نكون في موضع نختار فيه بين استعمال عقولنا في إصدار الأحكام، أو استعمال غيرها.
وبمعنى آخر، فأنت تعيش في الحياة بالعقل الذي تملكه، وبأدوات الإحساس لديك بقدراتها المحدودة التي تملكها، وليس بالعقل المطلق الذي تتمنى وجوده، ولا بأدوات الإحساس الفائقة التي تتمنى وجودها؛ فالعقل واقع ثابت لا يمكن للإنسان تغييره.
وطبيعة العقل هذه التي يشكك بها البعض هي نفسها التي مكَّنت البشر من الوصول لهذه الاختراعات المذهلة في زماننا هذا، وهي نفسها التي نسير بها جميع أمورنا الحياتية؛ فـ99 % من قرارات كل إنسان ناتجة عن أحكام ظنية، وليست قطعية؛ ومع ذلك فالحياة تسير بسلاسة، فالظن يرتفع وينخفض، وقد يرتفع الظن عاليًا حتى يكاد يلامس اليقين، وإلا فما الفرق بين العاقل والمجنون، وبين العالم والجاهل، وبين المؤمن والكافر؟!
السبب الثاني: إن العقل آلة مسخرة لخدمة النفس كما قلنا - راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف - وإن الانفعالات من نصيب النفس فقط، وهي تكره الالتزام بطبعها، لكن العقل لا يظن ولا يشك ولا يوقن، ولا يشعر ولا يتذمر.
وهذا يعني أنه قبل أن يتذمر الإنسان ويتهم عقله بأنه لا يُركن عليه في إنتاج المعرفة وإصدار الأحكام، وأنه هو الذي ربما قد ضلَّله في مسألة ما - عليه أن يتهم نفسه التي تتسلط على العقل، فتفسد عليه معالجة القضايا معالجة سليمة، من أجل الخروج بأحكام ظنية عالية القيمة من حيث الصواب، فآفة العقل هوى النفس؛ فالهوى يحرف العقل عن الحكم الصحيح.
السبب الثالث: إن من يقولون ذلك يقعون في مغالطتين؛ الأولى: هم لا يـتخيلون أحكام العقل إلا واقعة بين جهتين متضادتين، إما صواب وإما باطل؛ وهذا غير صحيح، والمغالطة الثانية: أنهم قد لا ينتبهون للفرق بين الخطأ والباطل، فالخطأ فيه بعض الصواب، أما الباطل، فلا صواب فيه.
بل إن المطلوب من العقل، حتى وهو بهذه الطبيعة - ماهيته التي بيناها - هو محاولة إدراك الصواب، وليس بالضرورة إصابة الصواب، وإدراك الصواب ليس معناه الوصول بالفكرة لدرجة اليقين أو لدرجة الجازم، إنما يكفي فيها الوصول إلى درجة الثاقب على الأقل (73 - 77 %)، فيما لو تعلق ذلك بالحكم على وجود الواقع، أما لو تعلق الأمر بالحكم على ماهيته بعد إثبات وجوده طبعًا، وعلى ما هو على شاكلة الماهية، فهذه يكفي فيها الوصول إلى درجة الناقب على الأقل (65 – 69 %).
فمثلًا: نظرية نيوتن صائبة، لكن النظرية النسبية لأينشتاين أصوب منها؛ فهي قد فسرت أمورًا كثيرة لم تقدر عليها نظرية نيوتن، وعلم عروض قضاعة بالمجمل أصوب من علم عروض الخليل، وليس عروض الخليل باطلًا، والأحكام الفقهية التي يجتهد فيها العالم الشرعي، التي هي أحكام ظنية في أصلها، فلذلك هي عرضة للخطأ، ولكن الخطأ الحاصل مع الاجتهاد المنضبط هو الخطأ القريب من الصواب، وليس الخطأ المنافي للصواب، وإلا فلن يشمله حديث نبينا صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
السبب الرابع: إن العقل يلزمه وجودُ ركائزَ غيرِ الركيزة الأم الممثَّلة باللغة، وغير الركائز الأولية التي يكتسبها بمجرد وجوده على الأرض، وذلك ليستطيع الحكم على وجود بعض الوقائع أو على ماهيتها، حكمـًا صحيحًا أو قريبًا من الصواب، خاصة إذا كانت الوقائع من صنف المحسوس بأثرها، أو من صنف الوقائع المعنوية أو المعدومة، وهي أكثر الوقائع جدلًا.
ولذلك، فلا بد من سعي الإنسان لتحصيل أكبر قدر ممكن من الركائز الموثوقة ليستخدمها في الربط؛ إما ركائز تخصصية من معلم، وإما باستخلاصها بنفسه بالبحث الجاد والتفكر (ركائز علائقية أو ركائز واقعية)، وهكذا، فإن من لا يملك ركائز موثوقة كافية عن موضوع ما، فلا يحق له أن يتهم العقل بأنه لا يُركَن عليه في إصدار الأحكام؛ [راجع: مختصر خريطة العقل].
السبب الخامس: إن المحاولة الجادة لإدراك الصواب، ليست فقط تتحقق بالتزام فحوى الأسباب الثلاثة السابقة، بل يلزمها أيضًا صدق النية في الوصول للصواب، مع بذل جهد جاد للوصول إليه، فليس التفكير كله على مستوى واحد؛ فهناك تفكير سطحي، وتفكير عميق، وتفكير مستنير، فإذا غلب على الشخص التفكير السطحي، أو لم يعقد النية للوصول للصواب، ولم يبذل جهدًا جادًّا في سبيل تحقيق ذلك، فلا يحق له أن يتهم العقل بالعجز؛ لأنه هو نفسه سبب التقصير، وسبب هذه التهمة.
السبب السادس: وهو سبب جِدُّ مهم: وهو أن القضايا الخلافية الناتجة عن أن حكم العقل عليها حكم ظني، ليست جميعها بنفس ذات الأهمية والخطورة على الإنسان، بل قلة منها هي التي تشكل خطورة على مسار حياته دنيا وآخرة، وعلى المجتمع الذي هو عضو فيه؛ ولذلك فلا ضرر إطلاقًا لتلك القليلة الأهمية بالنسبة للإنسان عليه، فيما لو كان الظن معها ضعيفًا، أو خاطئًا، أو حتى باطلًا.
فإدراك وجود خالق لهذا الكون، مع نفي التصورات الخاطئة والباطلة عنه هو أخطر أمر يواجه الإنسان؛ وذلك لخطر هذا الأمر على استقرار نفس الإنسان في هذه الدنيا، وعلى مآله في الآخرة أيضًا.
والخلاصة: أنه قبل أن يتَّهِمَ الإنسان عقله بأنه لا يُركَن عليه في إصدار الأحكام، والعقل بهذه الطبيعة التي خُلِـق عليها - عليه أن يستخدم عقله استخدامًا صحيحًا وجادًّا، فإذا لم يفعل ذلك، فالوزر يرجع عليه وليس على عقله؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10، 11].
لمزيد من التعمق في هذا الأمر: راجع (مختصر خريطة العقل للمؤلف، وهو بحث من 40 صفحة فقط).
______________________________________________
الكاتب: أبو الطيب ياسر بن أحمد القريني البلوي القضاعي