المنهاج في بيان سنن الحاج

عبد الله بن حمود الفريح

  • التصنيفات: ملفات الحج وعيد الأضحي -

لمنهاج في بيان سنن الحاج
الشيخ عبد الله بن حمود الفريح
الألوكة

الحمدُ لله الذي جعل لعباده بُقعةً يجتمعون فيها كلَّ عام، هاتفِين إليها: لبيَّك اللهمَّ لبيك، صورة حيَّة لاجتماع أُمَّة الإسلام، فأسأله -كما جمع الأجسادَ- أن يجمعَ القلوبَ إليه توحيدًا وتمجيدًا.

والصلاة والسلام على النبي الكريم، الذي سار إلى تلك البُقعة معه جموعُ الصحابة رضي الله عنهم فنقلوا عنه كلَّ قول وفعل، شعارهم في ذلك قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «خُذوا عنِّي مناسكَكم»، فأخذوا وأحسنوا الأخْذ، ونقلوا لنا فأتقنوا النقل، فرضي الله عنهم، وعمَّن تبعهم وألحقنا بركْبهم، إنَّه جواد كريم.

وأنت أخي الحاج والمعتمر، ما أجملَ قدومَك إلى تلك البُقعة، هاتفًا: لبيك اللهم لبيك؛ أي: أقبلتُ مجيبًا إليك يا ربي إجابةً بعد إجابة، فما أعظمَها من كلمات! كيف لا، وهي كلمات التوحيد، هَتَف بها القلْب توحيدًا لله تعالى، واللِّسان ذكرًا له سبحانه وتعالى والنفس مقبلة خوفًا وطمعًا؟!

فيا لَها مِن حال! وما أجملَ أن يكون قدومك لتلك البِقاع قدومَ الفقير إلى عفو ربه، مشمِّرًا عن ساعد الجدِّ، متبعًا سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام حذوَ القُذَّة بالقذَّة ما استطعت لذلك سبيلاً؛ ولذا أخي الحاج والمعتمر في هذه الأسطر القادمة سطرتُ لك ما هو مِن سُنَّة النبي في إحرامه وعمرته وحجِّه؛ لأنَّ الناس يتساوون في الغالب في أخْذهم للأركان والواجبات، فتبقى السُّنن ونوافل العبادات معيارًا يتفاوتُ فيه الناس بين سابقٍ ومقتصدٍ فيها، فاجتهد أُخيَّ في اتباع سنة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم علَّك تنال الفضل والخير من الجواد الكريم جلَّ وعلا.

أولاً: سنن الإحرام:
1- الاغتسال: لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أنَّه رأى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم تجرَّد لإهلاله واغتسل"؛ رواه الترمذي وحسنه.
وحديث جابر عند مسلِم: أنَّ أسماء بنت عميس -امرأة أبي بكر- نفست في ذي الحُلَيفة فأمرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالاغتسال مع أنها كانت نُفساءَ، وغسلها ذلك لا يُبيح لها الصلاة، وهذا يدلُّ على أنَّ الاغتسال عندَ الإحرام مسنون.

2- التطيُّب: لحديث عائشة قالت: "كنت أطيِّب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لإحرامه قبلَ أن يحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف"؛ متفق عليه.
والأفضل أن يجعل الطِّيب على رأسه، وعلى اللِّحية أيضًا بالنسبة للرجُل؛ لحديث عائشة قالت: "كأني أنظر إلى وبيص الطِّيب في مَفْرِق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم -وفي رواية: ولحيته- وهو مُحْرِم"؛ متفق عليه.
وجاء عندَ النسائي ما يُبيِّن أنَّ هذا الطِّيب كان فيه مِسْك؛ قالت عائشة رضي الله عنها: "طيَّبتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يُحرِم، ويومَ النحر قبل أن يطوف بالبيت بطِيب فيه مِسْك"؛ رواه النسائي.

3- التجرُّد من المخيط: فيُسن لِمَن أراد الإحرام أن يتجرَّد من المخيط قبلَ الدخول في الإحرام؛ أي: قبل أن ينوي الدخول في النُّسُك، سواء كان حجًّا أم عمرة، أما إذا دخل في النُّسُك، فإنَّه يجب عليه أن يتجرَّد من المخيط.
مثاله: رجل عليه ثيابه، ثم قال: لبيك اللهم لبيك، فنَوى الدخول في نُسكه، ثم تجرَّد من ثيابه، فهذا فِعلُه خلاف السُّنة؛ لأنَّ السنة أن تتجرَّد من المخيط أولاً، ثم تدخل في النُّسُك، ولو أحرم وعليه ثيابُه نقول: صحَّ إحرامك، ولكن يجب عليك أن تخلعَ ثيابك مباشرةً دون تأخير.
ويدلُّ على ذلك: حديث يعلَى بن أمية في الرجل الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: "يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحْرَم بعمرة وهو متمضخ بطِيب؟" فسكت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ساعةً فجاءَه الوحي، فقال: «{C}{C}أين الذي سأل عن العمرة؟{C}{C}» فأُتي برجل، فقال: «{C}{C}اغسل الطِّيب الذي بك ثلاثَ مرَّات، وانزعْ عنك الجُبَّة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجِّك{C}{C}»؛ متفق عليه.

4- لبس الإزار والرداء الأبيضين: لحديث ابن عمر عند أحمد: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «{C}وليحرم أحدكم في إزار ورداء»، ويُسنُّ أن يكون الإزار والرداء أبيضَين، ويجوز غيرها من الألوان، ولكن لُبْس الأبيض مستحب؛ لحديث ابن عباس: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الْبَسوا مِن ثيابكم البياض، فإنَّها مِن خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم»؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والمرأة ليس لها لباسٌ خاص بالإحرام.

5- أن يكون إحرامه عقب صلاة: يُستحب لِمَن أراد الإحرام والدخول في نُسكه أن يكون ذلك بعدَ صلاة، وهذه الصلاة إمَّا أن تكون فرضًا كصلاة الظهر، كما فعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أو صلاة العصر، أو غيرها من الصلوات المفروضات، وإمَّا أن تكونَ بعدَ نفْل، كسُنَّة الضحى أو الوتر أو ركعتي الوضوء لِمَن اعتاد على المحافظة عليها.
ويدلُّ على ذلك: حديث عمر عند البخاري: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أتاني آتٍ من ربِّي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقلْ: عمرة في حجَّة»، الوادي المذكور هنا هو ذو الحليفة، فهي تُسمَّى وادي العقيق. قال ابن باز: يُحتمل أنَّ المراد صلاة الفريضة.

وعن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أراد الخروج إلى مكَّةَ يأتي مسجد ذي الحُلَيفة، فيصلي ثم يركب، وإذا استوتْ به راحلته قائمة أحْرَم، ثم قال: "هكذا رأيت رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعل"؛ رواه البخاري.
قال بعض أهل العلم: يُحتمل أنَّ هذه الصلاة هي صلاة الظُّهر.

6- التلفُّظ بتعيين النسك: فإن كان متمتِّعًا قال: لبيك عمرة، لبيك اللهمَّ لبيك، وإن كان مُفْرِدًا قال: لبيك حَجَّةً، لبيك اللهمَّ لبيك، وإن كان قارنًا قال: لبيك عمرةً وحجَّةً، لبيك اللهمَّ لبيك، والنية في تعيين النُّسُك تكفي، ولكن التلفظ به سُنَّة.
ويدلُ على ذلك: حديث أنس عند البخاري قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لبَّيْك بحجَّة وعمرة»، وكان قارنًا.

7- يسن لمن كان خائفًا من إتمام حجه وعمرته الاشتراط: لحديث عائشة: أنَّ ضُبَاعة بنت الزُّبير قالت: "يا رسول الله، إني أريد الحجَّ، وأجدني وَجِعَة" فقال: «{C}{C}حُجِّي واشترطي، وقولي: اللهم محلِّي حيث حبستني{C}{C}»؛ متفق عليه، وعند النسائي: «{C}فإنَّ لك على ربِّك ما استثنيتي»، فلم يأمرْها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالاشتراط إلاَّ عندما أخبرتْه أنها وجعة، فدلَّ على أنه مَن خاف ألاَّ يتمَّ نُسكه لعارِضٍ اشترط، ومَن لم يخف فلا يشترط، كما فعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حيث اعتمر أربع عُمَر وحجَّةً واحدة، ومع ذلك لم يشترط.

فائدة: قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لضُباعة بنت الزبير: «قولي: اللهمَّ محلِّي حيث حبستني» يفيد أنَّ المشترط يتلفَّظ بالاشتراط، ولا يُكتفَى بالنية.

8- يسن للمحرم أن يلبي: لحديث عمر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلةَ آتٍ من ربي عزَّ وجلَّ فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجَّة»؛ رواه البخاري.

9- يسن في التلبية أن يجهر بها الرجل وتُسِرّ بها المرأة: لحديث السائب بن خلاَّد: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمُرَ أصحابي أن يرفعوا أصواتَهم بالإهلال»؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحَّحه ورواه النسائي، ولقول أنس: "سمعتُهم يصرُخون بها صراخًا"؛ رواه البخاري، وقول جابر أيضًا وأبي سعيد الخدري: "كنا نصرخ بذلك صراخًا"؛ رواه مسلم، ووردتْ أخبار عن الصحابة أنَّهم يلبُّون، حتى تُبحَّ حلوقهم.
وجاء في فضْل التلبية كما في حديث سهل بن سعد عند الترمذي: "أنَّه لا يَسمع صوتَ الملبِّي من حجر ولا مدر، ولا شجر، إلاَّ شهد له يوم القيامة، ورفْعُ الصوت بالتلبية سُنَّة باتفاق الأئمة"؛ انظر الإفصاح لابن هبيرة (1/ 268)، وأما المرأة فيُكرَه أن تجهر بها، فالسُّنة أن تُسرَّ بها، بأن تخفض مِن صوتها -وهو قول جمهور العلماء- بقدر ما تُسمع رفيقتَها؛ خشية الفِتنة.

10- يسن الإكثار من التلبية: لِمَا جاء في صحيح مسلم من حديث جابر، وفيه: "ولم يزلْ -أي: النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم- يلبِّي حتى رمَى جمرة العقبة"، وهكذا كان السلف من الصحابة والتابعين يُكثِرون من التلبية، فقد جاء عن سعيد بن جبير: أنَّه يوقظ الحاج النائم؛ ليلبيَ، ويقول: سمعت ابن عباس يقول: "هي زِينة الحجّ"؛ رواه سعيد بن منصور.

فائدة: يَنبغي للمحرِم أن يجتنب الرَّفَث والفسوق والجدال.
• الرفث: هو الجِماع ومقدِّماته؛ لقول الله تعالى: {{C}فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

• الفسوق: قال شيْخ الإسلام في منسكه (19): "والفسوق: اسم للمعاصي كلِّها، فيحفظ المحرِم نفسَه من الغِيبة والكذب، والسخرية بالآخرين، وغيرها من الآفات".

• والجدال: هو المماراةُ فيما لا فائدةَ فيه، كالخصومة مع الرُّفْقة فيما لا فائدةَ فيه، ويدخل فيه المخاصمة بغير عِلم، وكل مماراة بالباطل، وليس كلُّ الجدال مذمومًا، بل قد يكون الجدال واجبًا أو مستحبًّا؛ قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

ثانيًا: سنن العمرة:
أ- يُسنُّ الاغتسال عند دخول مكة: وهذا باتِّفاق أهل العلم؛ لحديث ابن عمر: "كان لا يَقدَم مكَّة إلاَّ بات بذي طُوى، حتى يصبحَ ويغتسل، ثم يدخل مكَّة نهارًا، ويَذكُر عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه فعَلَه"؛ متفق عليه.
ب- سنن الطواف: وهذا الطواف يشمل المعتمرَ أو الحاج، والمعتمر سواء اعتمر عمرةً مفردة؛ يعني: في أيِّ شهر من شهور السَّنة، كمن يعتمر في رمضان مثلاً، أو اعتمر عمرةَ تمتُّع وهي التي يأتي بها مع حجَّتِه بأن يعتمر في أشهر الحجِّ، ويتبعها بحجَّة في نفس العام، وكذلك هذا الطواف، وما سيأتي مِن سُنن يشمل مَن حجَّ قارنًا أو مفْرِدًا، ويُسمَّى طواف القدوم بالنسبة لهما، وهو سُنَّة في حقهما، لا واجب؛ لحديث عروة بن مُضَرِّس.

1- يسن أن يطوف مضطبعًا:
الاضطباع: هو أن يجعلَ وسَط ردائه تحتَ عاتقِه، وطرفَيْه على عاتقِه الأيسر.
فالاضطباع في كلِّ طواف يَقْدَم فيه الحاج أو المعتمر إلى مكَّة، فمَن حجَّ سواء كان متمتِّعًا أو قارنًا أو مُفرِدًا في الأشواط السبعة كلها، وكذلك المعتمر، وكل طواف سوى هذا لا يُسنُّ فيه الاضطباع؛ لحديث يعلى بن أمية: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم طاف مضطبعًا، وعليه بُرْد"؛ رواه أحمد أبو داود؛ والترمذي وصححه.
قال ابن هبيرة في الإفصاح (1/282): "واتَّفقوا على استحباب الرَّمَل والاضطباع فيما سُنَّ له...".

وهذا يُفيدنا أنَّه من الخطأ أن يضطبع المحرِم عند الإحرام، فليس هذا موضعَه، بل إذا شَرَع في الطواف سُنَّ له ذلك، وأيضًا من الخطأ أن يستمرَّ المحرِم في اضطباعه بعد الطواف، بل ينبغى له أن يسترَ عاتقيه إذا أراد أن يصلي ركعتَين خلف المقام، وكذلك لا يضطبع في السَّعْي؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن صحابته.

2- يسن أن يستلم الحجر الأسود:
لحديث جابر رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا قَدِم مكة أتى الحجر فاستلمه"؛ رواه مسلم.
قال ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/ 287): "وأجمعوا على أنَّ استلام الحجر الأسود مسنون".
كيفية استلام الحَجر الأسود: استلام الحجر الأسود على أربعِ مراتب، وكلُّ مرتبة أفضلُ من التي تليها، وهي:
المرتبة الأولى: أن يستلَمه ويقبِّله.
المرتبة الثانية: أن يستلم الحَجر بيده، ويُقبِّل يدَه، وذلك إذا شقَّ عليه تقبيل الحجر.
المرتبة الثالثة: أن يستلمَ الحجر بشيء في يدِه، كالعَصا مثلاً، ويقبِّل هذا الشيء، وذلك إذا شقَّ عليه الذي قبلها.
المرتبة الرابعة: أن يُشير إلى الحَجر بيده، ولا يقبِّل يدَه، وكلُّ هذه المراتب الأربع وردتْ في الصحيحَيْن أو أحدهما.
وتقبيل الحجر مسنونٌ بشرط ألاَّ يزاحم غيره، فيرتكب إثمًا فترْك الإيذاء واجبٌ، واستلام الحجر سُنة، فلا يُترَك الواجب لفِعل سُنَّة، فإذا كان يشقُّ عليه تقبيله ينتقل للمرتبة الثانية، ولا يُستحبُّ للنساء استلامُ ولا تقبيلُ الحجر إلاَّ عند خلوِّ المطاف، حتى لا تختلط بالأجانب وتلامسهم.

3- يسن الرمَل في الطواف:
الرَّمَل: هو الإسراع في المشي مع تقارُب الخطوات.
قال ابن هبيرة في "الإفصاح" (1/282): "واتَّفقوا على استحباب الرَّمَل والاضطباع فيما سُنَّ له".
• الرمل يكون في الأشواط الثلاثة الأولى فقط؛ لحديث جابر في صِفة حجِّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال: "حتى إذا أتينا البيت مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استلم الركن، فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا".

• الرمل يكون في طواف القُدوم والعمرة فقط، فيُسن الرمل في الطواف للمعتمر في عمرته، وللقارِن والمفرِد في طواف القدوم؛ لحديث ابن عمر المتَّفق عليه، وأمَّا طواف الإفاضة، فلا يُشْرع الرمل فيه، فعن ابن عباس قال: "إنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه"؛ رواه أبو داود، ولم يُنقل عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه رمل إلاَّ إذا قدِم مكة، وكذلك الاضطباع لا يُسنُّ إلاَّ في طواف القدوم والعمرة.

• الرمل يكون من الحَجر الأسود إلى الحجر مرَّة أخرى؛ لحديث ابن عمر: "رَمَل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الحجر إلى الحجر ثلاثًا، ومشى أربعًا"؛ رواه مسلم، ولا يُسنُّ الرمل للنِّساء، وهذا بإجماع أهْل العلم، نقل الإجماعَ ابنُ المنذر في كتابه "الإجماع".

4- يسن أن يستلم الركن اليماني:
ولكن دون تقبيل، بل يستلمه بيده اليُمنى؛ لحديث ابن عمر قال: "لم أرَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يستلِم من البيت إلاَّ الركنَين اليمانيِّين"؛ متفق عليه، فإذا شقَّ عليه استلامُ الركن اليماني، فإنَّه لا يُشرع له أن يُشيرَ إليه، كما يفعل بعضُ الناس لعدم الدليل على الإشارة للرُّكن اليماني، وأمَّا الركنان الآخرانِ لجهة الشام، فلا يُشْرع لهما تقبيلٌ ولا استلام.

5- يسن أن يقول بين الركنين اليمانيين الدعاء الوارد:
يُسنُّ أن يقول ما جاء في حديث عبدالله بن السائب، قال: سمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول بين الركن والحجر: «ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنة، وفي الآخرة حَسَنة، وقِنَا عذاب النار»؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن خزيمة والحاكم.
وأمَّا في بقية الطواف، فلا يُشرع له دعاء معيَّن، فيقول ما شاء مِن ذكْر أو دعاء، ولا صحَّة لِمَن يخصِّص في كلِّ شوط ذِكْرًا معيَّنًا.

6- يسن صلاة الركعتين خلف المقام، وفي هذه السنة عدة سنن:
أولاً: يُسنُّ صلاة الركعتين خلف المقام؛ لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر الطويل في صفة حجِّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ رواه مسلم.

ثانياً: يُسنُّ إذا مرَّ بمقام إبراهيم أن يقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]؛ لحديث جابر الطويل في صحيح مسلِم، وفيه: "حتى إذا أتيْنا البيت معه استلم الركن، فرَمَل ثلاثًا، ثم مشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت".

ثالثًا: يُسنُّ أن يجعلها خلفَ المقام؛ لحديث جابر السابق، وفيه: "فجعل المقامَ بينه وبين البيت".

رابعًا: يُسنُّ أن يقرأ في الركعة الأولى: {{C}{C}قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{C}{C}}، وفي الركعة الثانية {{C}{C}قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{C}{C}}؛ لحديث جابر، عند مسلم.
ويجوز صلاة الركعتَين في أي مكان في الحَرَم، إلاَّ أنَّ الأفضل خلف مقام إبراهيم.

7- يُسنُّ استلام الحجر الأسود بعد الركعتين خلف المقام؛ لحديث جابر عند مسلم، وفيه: "ثم رجع إلى الرُّكن، فاستلمه".

ج. سنن السعي:
1- يُسن أن يرقَى الصفا؛ لحديث جابر عند مسلم، وفيه: "فرقِي الصفا".
2- يُسن قراءة قوله تعالى: {{C}إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] حين يرقَى الصفا؛ لحديث جابر الطويل، وفيه: "ثم خرج صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الباب إلى الصفا، فلمَّا دنَا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به......"؛ رواه مسلم، والصعود على الصفا سُنَّة لفِعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وليس بواجب.

3- ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول ما ورد، وهذا من السنة أيضًا: إذا صَعِد على الصفا يستقبل البيتَ، وإن استطاع رؤيتَه، فهو أفضل لفِعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ويرفع يديه، ثم يكبِّر، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنْجَز وعدَه، ونصَر عبدَه، وهزَم الأحزاب وحدَه، ثم يدعو، ثم يقول هذا الذِّكْر مرَّة أخرى، ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر مرَّة ثالثة، ثم ينزل، فيقول هذا الذِّكْر ثلاثًا، ويدعو مرَّتين فيما بين ذلك هكذا السُّنة؛ لحديث جابر الطويل عند مسلم، وفيه: "ورفع اليدين"، جاءتْ في حديث أبي هريرة عند مسلم.

وأثناء السعي يدعو بما أحبَّ، ويقرأ القرآن، ويذكر الله تعالى، وعلى المروة يفعل كما فعل على الصفا مِن دعاء وذِكْر؛ لحديث جابر الطويل، وفيه: "أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فَعَل على المروة كما فعل على الصفا"؛ رواه مسلم.

4- يسن أن يسعى سعيًا شديدًا مابين العلمين: إذا نَزَل من الصفا، فإنَّه يمشي إلى العَلَم الأول أي: العلامة وهو شاخص أخضر، ما زال موجودًا إلى الآن، موضَّح بإنارة خضراء، فإذا وصله سعَى سعيًا شديدًا إلى العَلَم الآخر، وهو أيضًا شاخص أخضر، ثم يمشي إلى المروة؛ لحديث جابر الطويل، وفيه: "ثم نزل -أي: رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى المروة، حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدِتَا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل في الصفا"؛ رواه مسلم.
ونقل ابن المنذر الإجماع على أنَّ المرأة لا ترمل في الطواف، ولا تَسعى بين العَلَمين.

5- تسن الطهارة للسعي: ولا تجب، سواءً كان مَن أراد السعي مُحدِثًا حَدَثًا أصغر أو أكبر، كالحائض فيجوز لها أن تسعى؛ لحديث عائشة مرفوعًا: "افعلي ما يفعل الحاجُّ غير ألاَّ تطوفي بالبيت حتى تطهري"؛ متفق عليه، ويدخل في ذلك السَّعْي، فيجوز لها فعلُه وهي حائض.

د- يُسنُّ للمعتمر إن لم يكن متمتعًا الحَلْق لا التقصير، فالمعتمر لا يخلو مِن حالين:
1- إما أن يكون أتى بعمرة مُفْرَدة، فهذا الحلْق له أفضل من التقصير؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «اللهم اغفرْ للمحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين، قال: اللهم اغفر للمحلِّقين ثلاثًا، قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين، قال: والمقصِّرين»؛ متفق عليه.

2- وأمَّا أن يأتيَ بعُمرة مع حجِّه فيكون متمتِّعًا، فالأفضل التقصير؛ ليبقَى له شعرٌ يحلقه في حجِّه، ولأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أمر أصحابه أن يتحلَّلوا بعمرة ويقصِّروا في حجَّة الوداع؛ كما في صحيح مسلم من حديث جابر.

ثالثًا:سنن الحج:
سنن اليوم الثامن:
1- من السُّنة أن يحرم المُحِلُّ للحج في اليوم الثامن وهو يوم التروية:
والمقصود بالمحِلِّ هو مَن كان حلالاً، كالمتمتع إذا أنهى عمرته وأحلَّ من إحرامه، أو أهْل مكَّة إذا أرادوا الحج، فإنهم يُحرِمون للحج في اليوم الثامن، وهو يوم التروية، وهذا قول جمهور العلماء، ويفعل كما فعل عند إحرامه للعمرة من اغتسال وتطيُّب وغيرهما من السُّنن، ويُحرِم من مكانه الذي هو فيه، فمن كان في مكَّة فمِن مكة، ومن كان في منى فمن منى؛ لحديث جابر الطويل قال: "أهللنا بالحجِّ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلمَّا قدمنا مكة أمَرَنا أن نحل ونجعلها عمرة.... وفيه: "حتى إذا كان يومُ التروية وجعلنا مكَّة في ظهرنا أهللنا بالحج"؛ رواه مسلم.

2- السنة أن يكون إحرامه قبل الزوال:
لفِعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر الطويل، وفيه: "فلمَّا كان يوم التروية توجَّهوا إلى منًى، فأهلُّوا بالحج، وركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فصلَّى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر....."؛ رواه مسلم.

3- من السنة أن يصلى الظهر والعصر والعشاء قصرًا بمنًى:
لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في حجَّته؛ كما في حديث جابر المتقدِّم، ويُسنُّ أن يفعل عند إحرامه هذا ما يُسنُّ فعْله عند إحرامه من الميقات، كالاغتسال ونحوه، وتقدَّم بيان ذلك، فراجع سُنن الإحرام.

4- يسن أن يَبيت ليلة التاسع في منى:
لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر بن عبدالله الطويل في صحيح مسلم.
فائدة: خروجُه إلى منى يوم التروية وصلاته في منًى وبيتوتته، كلُّها سُنَّة؛ لحديث عروة بن مضرس عند أبي داود، بحيث لو صلَّى في مكة، وبات فيها، فلا حَرَجَ عليه، ولكن فاتتْه السُّنة، وكذلك لو أحرم بعد الزوال، فيوم التروية كله سُنَّه.

سنن اليوم التاسع:
1- السنة أن يخرج من منًى بعد طلوع الشمس:
ويدلُّ على ذلك: حديث جابر عند مسلم، وفيه: "ثم مَكَث قليلاً حتى طلعتِ الشمس".

2- الإكثار من التلبية والتكبير حين التنقُّل من مِنًى إلى عرفة، وكذا بين المشاعر الأخرى، حتى يرمي جمرة العقبة:
ويدلُ على ذلك: حديث محمَّد بن أبي بكر الثقفي: أنَّه سأل أنس بن مالك -وهما غاديان من مِنًى إلى عرفة-: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال: "كان يُهلُّ منَّا المهِلُّ فلا يُنكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا يُنكر عليه"؛ متفق عليه، قال شيخ الإسلام في منسكه (ص: 46): "ولا يزال يُلبِّي في ذَهابه من مَشْعر إلى مشعر، مثل ذَهابه إلى عرفات، وذَهابه منها إلى مزدلفة، حتى يرميَ جمرة العَقَبة".

3- من السنة أن ينزل الحاج بنمرة إلى أن تزول الشمس، ثم ينطلق إلى عرفة:
فالنزول بنمرة سُنَّة؛ لحديث جابر السابق، حيث نزل بها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى وقت الزوال، ثم سار إلى عرفة، ولكن واقع المسلمين اليوم تَضيق بهم نمرة؛ لأنها لا تتسع للحجَّاج، وإلاَّ فالأفضل -كما فعل النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم- لا يأتون عرفة إلاَّ بعد الزوال، ويمكثون في نمرة حتى تزول الشمس، ثم يذهبون إلى عرفة.

4- من السنة قصر وجمع الظهر والعصر يوم التاسع بعرفة:
لفِعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر عند مسلم، وذلك ليتفرَّغ الحاجُّ للوقوف في ذلك اليوم العظيم، فيدعو الله عز وجل والمقصود بالوقوف بعرفة هو المكوث فيها، سواء كان قائمًا أو قاعدًا، ولا يُقصد به الوقوف على القدَمين، فيفعل الإنسان ما هو أصلح لقلبِه وأخشع، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ركب لكي يراه الناس، ويشرف عليهم، والقاعدة: "أنَّ الأمر المتعلِّق بذات العبادة كالخشوع أوْلى بالمراعاة من المكان أو الزمان".

5- يخطب الإمام قبل الظهر والعصر خطبة، ويُسن أن تكون قصيرة:
لحديث سالم بن عبد الله بن عمر: أنَّه قال للحَجَّاج الثقفي: "إن كنت تريد السُّنة فقصِّرِ الخُطبة، وعجِّل الصلاة، قال عبد الله بن عمر: صدق"؛ رواه البخاري.
وأيضًا فعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر عند مسلم، حيث خطب خُطبة واحدة، وقصيرة.

6- يسن أن يكثر الإنسان من الدعاء يوم عرفة، ويتفرغ له ويجتهد فيه، حتى تغرب الشمس:
فيستحبُّ للإنسان أن يجتهدَ في الدعاء إلى غروب الشمس؛ لأنَّه موطن تُرجى فيه الإجابة، وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يجتهد في الدعاء فيه، وثبت في مسند الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يدعو رافعًا يديه وهو راكب على بعيره، ولَمَّا سقط الزمام أخذه بإحدى يديه، وهو رافعٌ الأخرى يدعو بها.
ينبغي للإنسان أن يجتهدَ في الدعاء فيه؛ فقد جاء في فضْل ذلك اليوم: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ما من يوم أكثر مِن أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار مِن يوم عرفة، وإنَّه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»؛ رواه مسلم، فينبغي للمسلم أن يُلحَّ على الله في ذلك اليوم؛ لينالَ هذا الفضل العظيم، وهو العِتق من النيران، فهو أكثر يوم تُعطَى فيه هذه الجائزة، ويُسنُّ أن يأتي بآداب الدعاء من استقبال قِبلة ووضوء، ونحوها من الآداب.

7- من السنة أن يكثر الحاج قول الذكر الوارد:
وهو ما ورَدَ في حديث عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جَدِّه: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»؛ رواه أحمد، ولهذا الحديث شواهد يتقوَّى بها، فيكثر من التهليل فيه؛ لهذا الحديث، فيكون الإنسان يتنقَّل فيه بين تكبير وتهليل، وتلبية ودعاء، ويجتهد فيه.
والإنسان يدعو في ذلك اليوم بما شاء، فليس هناك دعاءٌ معيَّن ليوم عرفة، ولم يرِدْ في صعود الجبل الذي يسمِّيه الناس اليوم جبل الرحمة فضْل عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ومن صعده معتقدًا أنَّ صعوده عبادة، فهذا أتى ببدعة، وكل بدعة ضلالة؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يصعده، قال شيخ الإسلام في منسكه (ص: 44): "وأمَّا صعود الجبل الذي هناك فليس من السُّنة".

8- يسن أن يكون خروجه من عرفة بعد غروب الشمس مباشرة:
فلا يتأخَّر عن ذلك؛ لحديث جابر بن عبدالله، وفيه: "فلم يزل واقفًا حتى غربتِ الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص ودفع"؛ رواه مسلم، ولا شكَّ أن مَن حاول الخروج من عرفة في هذا الوقت لكن حبسه الزحام وسَيْر الطريق أنه يأخذ أجْرَ السُّنة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، ووجه الدلالة: أنَّه خرج للهجرة، لكنَّه عجز عن الوصول بسبب الموْت، فكان أجره كاملاً، فكذلك مَن أراد الخروج من عرفة، لكنَّه عجز عن ذلك بسبب الزحام، وحَبْس الطريق، فإنَّه يأخذ أجْر السُّنة.

9- يسن أن يكون دَفْعُه بسَكِينة:
لحديث جابر عند مسلم، ورواه البخاري أيضًا من حديث ابن عباس: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أيها الناس، عليكم بالسَّكِينة، فإن البرَّ ليس بالإيضاع»؛ أي: ليس بالسَّيْر السريع.

10- ويسن له إذا وجد فجوة -أي: فُرجة- في طريقه أسرع:
لحديث أسامة بن زيد قال: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسير العَنَق -وهو الانبساط في السير-، فإذا وجد فجوة نَصَّ"؛ أي: أسرع، والحديث متفق عليه.

11- السنة أن يجمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة:
وذلك لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة، والأظهر أنَّه جمْع تأخير، ولم يرد نصٌّ في ذلك، إلاَّ أنَّه فُهم من حديث أسامة بن زيد المتفق عليه.

فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (7/304): "مسألة: لو خشي خروج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة، فإنه يجب عليه أن يصلي في الطريق، فينزل ويصلي، فإن لم يمكنه النزول للصلاة، فإنَّه يصلي ولو على السيارة؛ لأنَّ السَّيْر غير واقف، ففي هذه الحال إذا اضطر أن يصلِّي في السيارة فليصلِّ؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى على راحلته في يوم من الأيَّام، حينما كانت السماء تُمطر، والأرض تسيل؛ للضرورة، وعليه أن يأتيَ بما يمكنه من الشروط والأركان والواجبات".

12- السنة في ليلة مزدلفة أن ينام الحاج:
وهذا أفضل مِن إحيائها بقراءة وذِكْر وصلاة؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم اضطجع فيها، حتى طلع الفجر؛ كما في حديث جابر عند مسلم.

سنن اليوم العاشر:
1- يسن أن يصلي بمزدلفة صلاة الصبح في أول وقتها:
أي: أول ما يطلع الفجر بغَلَس؛ أي: بشدة الظلمة؛ لحديث جابر عند مسلم وفيه: "فصلَّى -أي: النبي صلَّى الله عليه وسلَّم- الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة".

2- يسن له أن يأتي المشعر الحرام -إن تيسر له ذلك- فيقف عنده، فيدعو الله، ويكبره ويحمده:
والمقصود بالمشْعر الحرام جبل صغير في مزدلفة، وبُني عليه مسجد الآن، فيُسن أن يأتي عنده بعد صلاة الصبح، فيدعو الله، ويُهلِّله ويكبره؛ لحديث جابر بن عبدالله عند مسلم، وفيه: "أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أتى المشعر الحرام، فاستقبل القِبله فدعاه -أي: دعا الله- وكبَّره وهلَّله ووحَّده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وقد قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].

فإن لم يتيسَّر له المشعرُ الحرام، جلس يدعو الله، ويذكره في مصلاَّه، أو في أيِّ مكان من مزدلفة؛ لعموم: "وقفتُ ها هنا، وجمْع كلها موقف"، ومَن دفع آخر الليل كالضَّعَفة ومَن كان معهم، فإنهم يقفون عند المشعر الحرام بالليل يدعون ويذكرون الله، ثم يدفعون؛ لحديث سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطَّاب قال: "كان ابن عمر يُقدِّم ضعفةَ أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بلَيْل، فيذكرون الله ما بدا لهم"؛ متفق عليه.

3- السنة أن يدفع من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس:
لحديث عمرو بن ميمون قال: "شهدتُ عمر صلَّى بجمْع الصبحَ، ثم وقف فقال: إنَّ المشركين كانوا لا يُفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كم نغير (وثبير اسم لجبل هناك تطلع عليه الشمس)، وإنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خالفَهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس"؛ رواه البخاري.

4- يسن إذا مرَّ بوادي مُحَسِّر أن يسرع في سيره:
ومُحَسِّر: وادٍ بين مزدلِفَة ومنًى، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يحسر سالكه، فالسُّنة أن يسرع فيه السير إن أمكن ذلك لفعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر عند مسلم، وهو في طريقة لا يزال ملبِّيًا، حتى يرمى جمرة العقبة كما سيأتي بإذن الله تعالى.

5- يسن للإمام أن يخطب خطبة يعلّم الناس فيها مناسكهم وليس للخطبة صلاة:
لحديث أبي بَكْرة عند البخاري، وكذلك حديث ابن عباس عند البخاري أيضًا قال: إنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خَطَب الناس يوم النحر؛ -يعني: بمنى-، وفيه: ثم رفَع رأسه إلى السماء فقال: «اللهمَّ هل بلَّغت، اللهمَّ هل بلَّغت»، وهذه الخُطبة ليس لها صلاة، وليس بمنًى صلاة عِيد، قال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/257): "وخطب صلَّى الله عليه وسلَّم الناس -يعني: بمنًى- خُطبةً بليغة، أعلمهم فيها بحُرمة يوم النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكَّة على جميع البلاد...".

6- من السنة أن تكون أنساك اليوم العاشر مرتَّبة:
معلومٌ أنَّه السُّنة في ترتيب أنساك يومِ النحر أن يبدأَ بالرمي، ثم النحر، ثم الحَلْق أو التقصير، ثم الطواف، ثم السعي، فهذه الأنساك الخمسة هكذا ترتيبها المسنون؛ لفِعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر عند مسلم، ولو خالف بين هذا الترتيب، كأن يحلقَ قبل النحر، أو يطوف قبل أن يرميَ، فلا حرج؛ لقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «افعلْ ولا حرج»؛ رواه البخاري.

7- من السنة أن يستمر الحاج بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة:
التلبية تُشرَع من حين إحرامه، فهو في اليوم الثامن والتاسع كان ملبِّيًا، فإذا بدأ برمْي جمرة العقبة في اليوم العاشر قطع التلبية، وهو قول أكثر العلماء؛ لحديث الفضل بن العباس: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يزلْ يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة"؛ متفق عليه.
وفي لفظ: "حتى بَلَغ جمرة العقبة"، وأيضًا إذا بدأ برمْي جمرة العقبة، فإنَّه يُشْرع له التكبير مع كلِّ حصاة لا التلبية.

8- من السنة أن يكون رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس فلا يؤخِّره عن ذلك:
لحديث جابر: "رمَى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الجمرةَ يومَ النحر ضُحًى، وأمَّا بعدُ، فإذا زالتِ الشمس"؛ رواه البخاري تعليقًا، ووصلَه مسلم.

9- من السنة أن يرمي جمرة العقبة من الموضع الذي رمى منه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:
فمِن السُّنة أن يستقبلَ الجمرة، ويجعل منًى عن يمينه، ومكَّةَ عن يساره؛ لحديث ابن مسعود قال: "رمى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيتَ عن يساره، ومنًى عن يمينه"؛ متفق عليه، ولو رمى الجمرة من مكانٍ أيسرَ له، ووقعت الحصاة في المرمى، لكفى ذلك.

10 – من السُّنة أن يكبِّر مع كل حصاة يرميها؛ لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر عند مسلم.

11- من السنة أن يَزيد الحاج في الهَدْي إن استطاع:
القارِن والمتمتِّع يجب عليهما الهَدْي، وأمَّا المفْرِد فيُستحبُّ له ذلك، وهذا باتفاق العلماء، وكذلك القارن والمتمتع مع الهدي الواجب يُستحب لهما أن يتطوعَا؛ لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث جابر عند مسلم: "فقد أهدى مائةَ بَدنةٍ، فنَحَر ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليًّا يكمل ما بقي"، وكذلك في العمرة يُستحب له أن يذبح هديًا، والسُّنة أن يأكل من الهدي ويطعم؛ لفعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ولقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، فيأكل منها، ويطعم مساكينَ الحَرَم.

12- من السُّنة أن ينحر هديه بنفسه:
ويدل على ذلك: حديث جابر عند مسلم، وفيه: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم نحر ثلاثًا وستِّين بيده".

13- من السُّنة أن يأكل من هديه ويتصدق ويهدي:
ويدلُّ على ذلك: حديث علي رضي الله عنه عند البخاري: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَه أن يقوم على بُدْنه، وأن يقسم بدنه كلَّها؛ لحومها وجلودها..."، وهذا يشمل الصَّدقة والإهداء، وأمَّا الأكْل منها، فقد جاء عند مسلم من حديث جابر، وفيه: "ثم أمر مِن كلِّ بَدَنة ببضعة، فجُعلت في قِدر فطُبخت، فأكلاَ من لحمها، وشربَا من مرقها".

14- أن يأكل من كل هدي له قطعة وذلك إذا أهدى أكثر من واحدة:
ويدلُّ على ذلك: حديث جابر السابق، وفيه: "ثم أمَرَ مِن كل بَدَنة ببضعة".

15- يُسن للحاج الحَلْق لا التقصير، وسواء كان متمتعًا أو قارنًا أو مفردًا:
فالسُّنَّة الحلْق؛ لحديث ابن عمر، وفيه: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دعا للمحلِّقين ثلاثًا، وللمقصِّرين واحدة، والحديث متفق عليه.

16 – من السنة أن يبدأ بحلق الجهة اليمنى قبل اليسرى:
لحديث أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "أتى منًى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزلَه بمنًى ونحر، ثم قال للحلاَّق: خُذْ وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يُعطيه الناس"؛ رواه مسلم.

17- يُسنُّ أن يجعل طواف الإفاضة في يوم النحر:
لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال ابن عمر: "أفاض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم النحر"؛ متفق عليه، ولحديث جابر عند مسلم أيضًا، ولأنَّه أسرعُ في إبراء الذِّمَّة، وفيه مسارعةٌ للخيرات، ويجوز له أن يؤخِّره عن يوم النحر.

18- يُستحب له أن يشرب من ماء زمزم بعد طواف الإفاضة:
وذلك لفِعْل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حيث شَرِب بعد طواف الإفاضة، كما في حديث جابر في صِفة حج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وفيه: "ثم أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بني عبد المطلب وهم يسقون، فناولوه فشرِب"؛ رواه مسلم، ولم يثبت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دعاءٌ عند شُرْب ماء زمزم على وجه الخصوص.

19- يُسن أن يتطيَّب الحاج قبل طوافه، وذلك إذا تحلَّل الأول بأن رمَى جمرة العقبة وحلق:
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنتُ أطيِّب رسول الله لإحرامه قبل أن يُحرِم، ولحلِّه قبل أن يطوف"؛ رواه مسلم، وهذه سُنَّة مندثرة، لكن لا يفعلها الحاج إلاَّ إذا كان متحلِّلاً التحلُّل الأول، بأن يكون رمَى وحَلَق، ثم يتطيَّب قبل أن يطوف.

سنن أيام التشريق:
1- يُسن الإكثار من ذِكْر الله تعالى فيها؛ لحديث نُبَيْشة الهذلي: «أيَّامُ التشريق أيامُ أكْل وشُرْب وذكر الله تعالى»؛ رواه مسلم.

2- يسن قصر الصلوات فيها بمنى؛ لفعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديثٍ جاء عند مسلم.

3- السنة أن يكون رمي الجمار أيَّامَ التشريق بعد الزوال مباشرة، فلا يؤخره:
لحديث جابر عند مسلم قال: "رمَى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الجمرةَ يومَ النحر ضُحًى، وأما بعدُ -أي: بعد أيام التشريق- فإذا زالتِ الشمس".

4- السنة أن يكبر مع كل حصاة.

5- السنة أن يُطيل الدعاء بعد الجمرة الصغرى والوسطى.

6- السنة أن يأخذ ذاتَ اليسار بعد الوسطى إذا أراد أن يدعو:
يبدأ بالجمرة الصغرى فيرميها بسبع حصيات، يُكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدَّمها ويجعلها خلفَه، ثم بعد ذلك يدعو ويرفع يديه، ويطيل الدعاء، كما ثَبَت ذلك من حديث عطاء، قال: "كان ابنُ عمرَ يقوم عندَ الجمرتَين مقدارَ ما يقرأ الرجل سورةَ البقرة"؛ أخرجه ابن أبي شيبة، وتطويل الدعاء هو سُنَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما في حديث ابن عمر.

ثم بعد ذلك يذهب إلى الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذاتَ اليسار، ويدعو ويُطيل الدعاء أيضًا، ثم يذهب إلى الجمْرة الكُبرى (جمرة العقبة) فيستقبلها، ويجعل البيت عن يساره، ومِنًى عن يمينه إن تيسَّر له، ويرميها بسبع حصيات، يُكبِّر مع كل حصاة، ثم ينصرف ولا يدعو بعدَها، هذا هي صفة رمْي الجمرات الثلاث.

ودليل هذه الصفة: حديث ابن عمر: "أنَّه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبِّر مع كلِّ حصاة، ثم يتقدَّم فيُسْهِل فيقوم مستقبلَ القِبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوُسْطى، ثم يأخذ ذاتَ الشمال فيُسْهِل فيقوم مستقبلَ القِبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يَرمي جمرةَ العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، ويقول: هكذا رأيت رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعله"؛ رواه البخاري.

فائدة: قال ابن القيم في "الهدي" (2/ 287): "فقد تضمَّنتْ حجَّتُه ستَّ وقفات للدعاء: الموقف الأول: على الصفا، والثاني: على المروة، والثالث: بعرفة، والرابع: بمزدلفة، والخامس: عند الجمرة الأولى، والسادس: عند الجمرة الثانية".

7- يسن أن يجلس بمنى حتى اليوم الثالث عشر:
فالسُّنة التأخير لا التعجيل؛ لأنَّ الحاج يجوز له التعجيلُ بأن يخرج من منًى قبل غروب الشمس يومَ الثاني عشر، إلاَّ أن السُّنة أن يتأخَّر الحاج، فيجلس يومَ الثالث عشر بمنًى، ثم يرمي الجمار.
ويدلُّ على ذلك: حديث عائشة عند مسلم، وفيه: "أفاض رسولُ الله حين صلَّى الظهر، ثم رجع إلى منًى، فمكث بها لياليَ أيامِ التشريق يرمي الجمرة إذا زالتِ الشمس".

8- يسن أن يقول ذكْر الرجوع من الحج أو العمرة:
وهو ما جاء في حديث عبدِ الله بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا قَفَلَ من غَزوٍ أو حجٍّ أو عُمرة يُكبِّر على كلِّ شرَفٍ من الأرض ثلاثَ تكبيرات، ثم يقول: «لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ ولهُ الحمد، وهوَ على كلِّ شيء قدير، آيبونَ، تائبونَ، عابدونَ، ساجدونَ، لربِّنا حامدون، صدَقَ اللَّهُ وَعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزَم الأحزابَ وحدَه»؛ رواه البخاري، وبوَّب عليه "باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو".

الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح