نداء اللذة
إنها لذَّةُ الإيمان يستشعرها القلب بعد أن تقوده الفطرة السليمة إلى الحقيقة، فتسقط أمامها كل لذَّات الحياة، وتذوب في حضرتها جميعُ شهوات الدنيا،
- التصنيفات: التقوى وحب الله - أعمال القلوب -
لكم يمضي الإنسان في الحياة هائمًا شاردًا عن التفكُّر في ملكوت الله وعظمة الخالق مع أن الصور والآيات تتلاحق أمام عينيه، فيصرف البصر عنها لانشغاله بملذَّات الحياة التي لا تتوقَّف، يمضي قويَّ البدن، معافى الجثة، لا يشكو ضائقة من ضوائق الدنيا، يرفل في بحبوحة من العيش بين الأهل والأصحاب، وقد أرخت عليه الحياة بظلالها أمدًا
فيستلذُّ طعمها، ويستمرئ لذاذتها إلى حينٍ من الدهر يقلب فيه ظهر المجن له، فيرى منه ستائر مظلمة ترخيها يداه عليه، فيتحوَّل الحقل المزهر إلى فلاة مقفرة، ويغدو الدوح البليل والأيك الظليل عيدانًا متيبِّسة، فيفقد كل معنى جميل من معاني الحياة
ويغطش الليل بعدما كانت الدنيا أنوارًا، ويذبل الروض بعدما كان ينبض بالحياة، فتؤوب فطرته إلى ذي الجلال والإكرام، يبحث عن معنى آخر للحياة ظل طوال عمره فيها شقيًّا في الوقت الذي كان يحسب فيه أنه يرفل في النعيم، فيتراءى له ملكوت الله بين عينيه واضحًا، بعدما صرف عنه نعيمًا أدرك زواله ورغدًا علم فناءه.
فيرسل الطرف في السماء فيرى ذات الحُبُك مرفوعة بغير عَمَد، يمسكها الله تعالى أن تقع على العباد، يرى شمسها تجري لمستقر لها، والقمر نورًا قد جعله الله منازل، والنجم متلألئًا في عرشه به الناس يهتدون، آيات عظمى من آيات الله في خلقه، ويرى البحر هادرًا مُسبِّحًا بحمد ربِّه مخفيًّا في داخله الأسرار التي لا ينكشف منها إلا ما شاء الله له أن ينكشف، يحمل الفلك بإذن الله، تمخر عبابه وهي تمضي باسم الله مجراها ومرساها، ويبصر في الأرض حزونها وتلالًا وجبالًا جعلها الله أوتادًا، ورواسي تمنع الأرض من المَيْد، ويتأمَّل في نفسه التي لم يمنحها عمره لحظة تأمُّل كي يرى عظمة الخالق فيه كائنة قبل أن يرسل طرفه بعيدًا في غيرها من الآيات
فيدرك أن هذا الإنسان الذي خُلِق في أحسن تقويم ولم يكن شيئًا مذكورًا قد كرَّمه الله تعالى وجعله أفضل مخلوقاته، وهو الكائن الضعيف الذي لا حول له ولا قوة، ومع ذلك مكَّن الله له في الأرض، وحباه نعمًا لا تُعَدُّ ولا تُحصَى علَّه يُدرِك عظمة الخالق فيُحقِّق عبوديته الخالصة لله تعالى، ويؤدي الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال وأبَيْنَ أن يحملنها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، لا يفعل ذلك إلا حينما تضيق عليه الدنيا بما رحبت، ويدرك أن لا ملجأ إلا الله، يسقم الجسد الذي كان يرفل في عافية، ويمشي مختالًا مترفعًا كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، ويفتقر الثري بعدما كان ينعم في رغد فينصرف عنه الأصدقاء، ويمقته الأهل فهو كالطَّلَل لم يعد غير شاهد على بقايا من ديار، فلما تنقطع عن المسكين أغلب الحبال تصارع سفينته الغرق في موج الحياة، فلا يبقى من الحبال إلا واحد به يعتصم هو حبل الله المتين
فيجده الحبل المنقذ الذي غفل عنه دهرًا طويلًا، فيتحسَّر في داخله على تركه لهذا الحبل بعدما يدرك أنه الحبل الأقوى وسط حبال الحياة، فهو الوحيد الذي يمنح روحه غذاءها مثلما منحته بقية الحبائل غذاء به تقوى البدن، فيستشعر ذلك الفراغ المهول الذي تركه اللهث وراء الحياة والجري بحثًا عن اللذة ليجد أن الحقيقة الضائعة موجودة في هذا الحبل الإلهي ليشد عليه بكلتا يديه، ويعض عليه بالنواجد وهو يتذوَّق لذة العشق الإلهي، ويستطيب الحياة التي فَقَدَ طعْمَها مدركًا أنها منحته لذةً زائفةً، وخدعته كما يخدع السراب في الفلوات الإنسان.
إنها لذَّةُ الإيمان يستشعرها القلب بعد أن تقوده الفطرة السليمة إلى الحقيقة، فتسقط أمامها كل لذَّات الحياة، وتذوب في حضرتها جميعُ شهوات الدنيا، لا يفقه معناها إلا قلبٌ سَلِم من الزخرف، وعقلٌ نجا من بهرجات الحياة، فشغل نفسه بالتفكُّر والتدبُّر في عظيمات الآيات استجابة لنداء الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، نداء رباني واضح المعالِم للتأمُّل في الملكوت بعناصره المختلفة للدلالة على عظمة الخالق، وتخصيصه بالعبودية، وإفراده بالوحدانية قبل اقتراب الأجل المكتوب فيفجأهم الموت وهم عائمون في بحر غفلتهم.
حينها فحسب تمتلئ الروح شغفًا بحب الإله، وتزداد رغبة في الاستدفاء بحرارة الإيمان صارفة عنها كل شيء يفقدها هذا الشغف، فتتراءى لها الشهوات أقذاء لا قيمة لها تجري على نهر الحياة، وتبصر الملذَّات كدُرَّة تفقد صفاء الأشياء في الوقت الذي تراها القلوب التي غلَّقَتْ أبوابَها بالأقفال صفاء ونعيمًا، فتتهافت على التقاطها والتزيُّن بها دون أن تدرك أن فيها هلاكها كالحشرات تتهافت إلى ضوء النار حتى إذا قربت منه سقطت فيه، فيأتي عليها لهبها فتهلك.