معركة المصحف في مجلس حقوق الإنسان..
عامر عبد المنعم
لا يمكن التعامل مع الإساءات على أنها حوادث منفصلة، أو تقوم بها دوائر معزولة من اليمين المتطرف، فالموقف العدائي اليوم يطل برأسه بكل قوة، وتقف خلفه أحزاب لها نفوذ، وحكومات
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
يبدو أن العالم الإسلامي يحتاج إلى إعادة تقييم للعلاقة مع الدول الغربية فيما يتعلق بالموقف من الإسلام، فلم يعد مقبولًا أن تتعرض مقدسات المسلمين للإساءة المتكررة، حتى وصل بهم التطرف إلى السماح بحرق المصحف والتعامل مع القرآن الكريم بما لا يليق، ويرفضون وضع حد للمستهزئين، دون أي احترام لمشاعر ملايين المسلمين من مواطنيهم أو لأمّة الملياري مسلم.
لا يمكن التعامل مع الإساءات على أنها حوادث منفصلة، أو تقوم بها دوائر معزولة من اليمين المتطرف، فالموقف العدائي اليوم يطل برأسه بكل قوة، وتقف خلفه أحزاب لها نفوذ، وحكومات تجعل هذه التصرفات الشاذة وكأنها سياسة دولة، وزادهم جرأة صمت الحكومات والمنظمات الإسلامية، بسبب التفكك الذي يعيشه العالم الإسلامي وحالة الاستسلام التي تمر بها الأمة.
لو وجد قادة الغرب ردود فعل قوية على المستوى الرسمي -ولو بالكلام فقط- ضد هذه الإساءات لأوقفوها على الفور، ولو أن الدبلوماسيين والمبعوثين الغربيين الذين يلتقون يوميًّا بالمسؤولين في البلاد الإسلامية يتعرضون للتوبيخ والاستهجان بسبب هذا التطاول والاستهزاء، وتم ربط المصالح باحترام عقيدتنا، لما وصلنا إلى ما نراه من فتن وإشعال نار الكراهية الدينية.
قرار جيد لمجلس حقوق الإنسان
كشفت المناقشات التي دارت في الجلسة الطارئة لمجلس حقوق الإنسان بشأن جريمة حرق المصحف عن حقيقة الموقف الغربي الكاره للإسلام، وأوضحت كيف أن أمريكا والدول الأوربية الرئيسية لا تحترم حرية الاعتقاد التي كثيرًا ما كانوا يدعون إليها، لكنْ رغم ذلك صوتت الأغلبية لصالح القرار الذي يدين هذه الأفعال ويدعو إلى مكافحة الكراهية التي تتسبب في إثارة الفتن والتعصب والعنف.
جاءت الجلسة تلبية لطلب من منظمة التعاون الإسلامي تقدمت به باكستان، وهو تحرك مشكور نتمنى أن يتواصل، ويتضمن مشروع القرار الذي عُرض للتصويت “إدانة لكل دعوة أو تعبير عن كراهية دينية بما في ذلك الأفعال الأخيرة، العلنية والمتعمَّدة”، ودعوة الدول إلى “اعتماد قوانين تمكنها من تقديم المسؤولين عن هذه الأفعال إلى القضاء، ويطلب من الأمم المتحدة تحديد البُلدان التي ليس لديها مثل هذا التشريع، وتنظيم طاولة مستديرة للخبراء لبحث الموضوع”.
أيَّد القرارَ 28 دولة من أصل 47 أعضاء المجلس، منهم 17 دولة عضوًا في منظمة التعاون الإسلامي هي: الجزائر وبنغلاديش وكوت ديفوار والغابون وغامبيا وكازاخستان وقرغيزستان وماليزيا وجزر المالديف والمغرب وباكستان وقطر والسنغال والصومال والسودان والإمارات وأوزبكستان، كما أيَّد القرارَ 11 دولة غير إسلامية هي: الأرجنتين وبوليفيا والكاميرون والصين وكوبا وإريتريا والهند ومالاوي وجنوب إفريقيا وأوكرانيا وفيتنام.
رفض القرارَ 12 دولة هي: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وفنلندا والتشيك ولوكسمبورغ ورومانيا وكوستاريكا وليتوانيا والجبل الأسود، وامتنعت 7 دول عن التصويت هي: تشيلي وجورجيا وهندوراس والمكسيك ونيبال وباراغواي وبنين، ورغم أن بنين عضو في منظمة التعاون الإسلامي فإنها لم تلتزم وقررت اتخاذ هذا الموقف المخزي.
من المعلوم أن مجلس حقوق الإنسان يتكون من 47 دولة، تُنتخب كل 3 سنوات من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بواقع 13 مقعدًا للدول الإفريقية، و13 للدول الآسيوية، و8 مقاعد لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، و7 مقاعد لأوربا الغربية وأخرى مرتبطة بها، و6 مقاعد لأوربا الشرقية.
اتجاهات التصويت -بالمجمل- توضح أن آسيا وإفريقيا ودول أمريكا اللاتينية المستقلة عن النفوذ الأمريكي صوتت لصالح القرار، بغض النظر عن حضاراتها المتنوعة، بينما دول الغرب ومعها بعض الدول التابعة رفضت وأكدت أنها ضد أي التزام تجاه المسلمين، وهذا الموقف ليس جديدًا، فالحقيقة أنه رغم الخلافات بين الدول الغربية في قضايا وملفات عديدة فإنها تتحد في الموقف من الإسلام، ولا تريد التخلي عن النزعة الصليبية المتسامحة مع كل العقائد والأديان إلا الإسلام.
حرق المصحف ليس حرّية تعبير
الحمقى الذين يظنون أن حرق نسخة من المصحف هنا أو هناك يُعَد هزيمة للإسلام واهمون، ومن يفكر بهذه الطريقة مصاب بمرض عقلي، فالإسلام أكثر الأديان انتشارًا حتى في هذه الدول التي لا تُظهر احترامه، والعالم اليوم تغيّر، واختفت الحدود الجغرافية التي تفصل بين الشعوب والأمم على أساس ديني، ولكن هذه التصرفات تُسمم الأجواء وتحرض على النعرات العنصرية وتحيي روح الحروب الصليبية، بعد قرون من التحضر والتقدم العلمي وتحوُّل العالم إلى قرية صغيرة.
الغربيون الذين يدافعون عن المجرمين الذين يحرقون المصحف بمزاعم حرّية التعبير يناقضون أنفسهم، فلا توجد حرّية مطلقة في بلادهم، وعندهم محرَّمات لا يستطيع إنسان الاقتراب منها، فلا أحد في الغرب يجرؤ على انتقاد الهولوكوست وإلا يُحاكَم ويُحبَس، ولا أحد يستطيع الهجوم على الشواذ وإلا قامت عليه القيامة، وتحتج سفارات الدول الغربية على حرق أعلامها في المظاهرات والاحتجاجات الشعبية حتى لو كانت تحتل دولًا أخرى.
الأديان فوق الخلافات السياسية، والكتب السماوية مقدَّسة لها كل الاحترام، والقداسة إلهية وليست بشرية، ولذلك عندما قال مندوب فرنسا في مجلس حقوق الإنسان “ليس من صلاحيات الأمم المتحدة ولا الدول تحديد ماهو مقدَّس وما هو ليس مقدَّسًا”، لم يفهم أن القرار المعروض للتصويت هو تجريم الإساءة للمقدَّس، وتأكيد احترام عقيدة الآخرين، وليس طرح قداسة القرآن للتصويت البشري.
الآن بعد صدور قرار تجريم حرق المصحف بالأغلبية في مجلس حقوق الإنسان، لم يعد من حق أي دولة غربية السماح بتكرار الإساءة، وبدلًا من المكابرة عليهم أن يعترفوا بأنهم أقلية في المحافل الدولية التي أنشأوها لحكم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وأن الشعوب لم تعد تتقبل النموذج الغربي المعادي للتنوع الحضاري والديني، ونتيجة التصويت كافية لإثبات أنهم قد فشلوا في تمرير موقفهم غير الحضاري.
لعل نجاح الدول الإسلامية في الاتحاد والفوز في هذه المعركة الرمزية يشجعها على تكرار التجربة في قضايا وملفات أخرى، ويا ليت منظمة التعاون الإسلامي تدرك حجم قوتها، وأنها تستطيع فعل الكثير لوقف حملة التحريض ضد الإسلام.
المصدر : الجزيرة مباشر
صحفي وكاتب مصري، شغل موقع مساعد رئيس تحرير جريدة الشعب، ورئيس تحرير الشعب الالكترونية.