هكذا بلوت سيرة الكثير من المتحولين...
محمد بوقنطار
ثم دار الحول دورته وترادفت السنون، وصار الحق في غربة، وأصبح أهله في ضيق وقدرة، وضنك اختبار، فما لبث القوم أن تبرؤوا من انتسابهم القديم، بل صار انتماؤهم القديم في أدبياتهم الجديدة معرة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لما عرفتهم، وبلوت عن قرب تفاصيل ركزهم الأول، عرفتهم وقد كانت بداياتهم مشرقة، وكان الظن الراجح فيهم أنهم اعتنقوا الحق لقناعتهم بمحجته البيضاء، ولقوة الدليل به ومتانة المنهج منه، وسوي صراطه، ووضوح سبيله، ثم دار الحول دورته وترادفت السنون، وصار الحق في غربة، وأصبح أهله في ضيق وقدرة، وضنك اختبار، فما لبث القوم أن تبرؤوا من انتسابهم القديم، بل صار انتماؤهم القديم في أدبياتهم الجديدة معرة وشنارا، يستثقلون الإقرار به، ويشمئزون من ذكراه، ويتجنبون الخوض في اجترار لحظاته ولو على مضض وكلفة وإنكار، وكأنك أمام أشخاص آخرين لا عهد لك بهم من ذي قبل. والأكيد أن للفتن جانبا مشرقا متى ما وقب غاسقها، ذلك أنك تستطيع أن تعرف تحت أشعة شمسها الكاشفة أن هؤلاء المتحولين كانوا قد اعتنقوا الحق وتبنوا عراه في مرحلة لها مئنات وعلامات، من أبرزها ظهور الحق وعلو شأن الملازمين لحياضه، فكانت الهرولة منهم في صوبه، والعض عليه بنواجذ الطمع والاستمتاع، لا التطوع والاقتناع... نعم إنها نفوس مرضية لم تتدثر بزينة الحق يومها إلا بيأسها من الظفر بالباطل زمن إغرابه، فلما عادت للباطل دولته، واسترجع صولته، وصار لأهله الشأن والظهور والسطوة، عادوا إلى دركه يكاد فرحهم بصحوته ومردوف جولته يذهب وقارهم المتصنع، ويكشف عن خبثهم المقنع.
نعم إنها نفوس إمعة تسبح بحمد الغالب، وتفزع دائما إلى الشرب من يد الحالب، وتركن على الدوام إلى القرب من نجم سلطته الثاقب، تراها تسبح في صوب سيله الجارف، قد تعلمت العلم واستكثرت من جمهرة معارفه، وتشبعت بزاد ثقافته، واستوعبت لكثرة فنونه، تعرفها من لحن القول، واستظهار الفصل تلو الفصل، متى ما رامت تسويغ انحراف أو طلب منها توطين انجراف. إنهم قوم انغمرت مشاعرهم في لجة الحيرة والاضطراب، وتلك علامة تمكن الشيطان من نواصيهم، فقد اتبعوا الحق زمن قوته وكان ذلك عليهم أمرا يسيرا وله مغانمه وأنفاله الباردة، ثم ما فتئوا أن تحولوا عنه عندما ضعفت هيبته وتوارت سطوته، فصاروا للباطل أنصارا، وللباغين أعوانا. ولذلك كان اتباع الحق زمن ضعفه أعظم أجرا وأجزل فخرا، من اتباعه زمن قوته وصولته ودولته وجولته، وإنما كان هذا حظا للربانيين لا للرهبانيين، وذلك هو محض قول الله سبحانه وتعالى في سياق مدح السابقين الصابرين زمن الغربة الأولى وبيان أسنى درجاتهم إذ قال جل جلاله:" {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة"}