{فاستقم كما أمرت}
إن الاستقامة هي لزوم المرء لدين الله، والتزام أحكام الشرع، وثباته على صراط الله المستقيم، اعتقادًا وعملًا، وسلوكًا ومنهجًا للحياة
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
آيةٌ في كتاب الله لا تمرُّ على مسلم تلاوةً أو سماعًا، إلا وتمنى أن يجعله الله ممن ذكرتْهُمُ الآية، أتدرون أي آية هي عبادَ الله؟
إنها قول الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].
جعلنا الله وإياكم منهم، ورزقنا الاستقامة إلى يوم لقائه، فما هي الاستقامة عباد الله؟ ولأي شيء تكون؟ وكيف تتحقق للمرء؟
نقول وبالله التوفيق:
إن الاستقامة هي لزوم المرء لدين الله، والتزام أحكام الشرع، وثباته على صراط الله المستقيم، اعتقادًا وعملًا، وسلوكًا ومنهجًا للحياة، كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما نَزَلَ على رسول الله آيةٌ هي أشد ولا أشق من هذه الآية".
وللاستقامة - عباد الله - مجالات لا تتحقق إلا إذا شمِلتها كلها، وأول تلك المجالات استقامة الاعتقاد والإيمان؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].
جاء الصحابي سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: «قل: آمنت بالله، فاستقم»؛ (رواه مسلم).
فالمرء إذا لم يستقم إيمانه وتصحَّ عقيدته، فيَسْلَمَ من الشرك والزيغ، ويأمن من الضلالات والبدع والانحرافات - فلن يستقيم على صراط الله المستقيم؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
قال ابن القيم رحمه الله: "والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال والنيات؛ فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله، وعلى أمر الله"؛ (انظر: المدارج).
قال إسماعيل بن أبي حكيم: "بعثني عمر بن عبدالعزيز رحمه الله في الفداء حين وَلِيَ، فبينا أنا أجول في القسطنطينية، إذ سمعت صوتًا يتغنى بالعربية، فسألته: من أنت؟ قال: أنا الوابصي الذي أُخِذْتُ، فعُذِّبتُ، فجزِعتُ، فدخلت في دينهم - وكان قد أُقيم عليه الحد عقوبةً فهاجر للنصارى، فقلت: إن أمير المؤمنين بعثني في الفداء، وأنت والله أحب من أفديه إليَّ، إن لم تكن بطنت في الكفر، قال: والله لقد بطنت في الكفر، فقلت له: أنشدك الله، فرد عليَّ: أَأُسْلِم وهذان ابناي، وإذا دخلت المدينة قال أحدهم يا نصراني، وقيل لولدي وأمهم كذلك؟ لا والله لا أفعل، فقلت له: لقد كنت قارئًا للقرآن، قال: والله لقد كنت من أقرَأ الناس، فقلت: ما بقِيَ معك من القرآن؟ قال: لا شيء غير هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]، فعلِمت أن الشقاوة غلبت عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
معاشر المؤمنين:
ومن مجالات الاستقامة استقامة القلب، واستقامة اللسان؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»؛ فهاتان قاعدتان لا بد منهما للاستقامة: استقامة القلب، واستقامة اللسان.
أما استقامة القلب، فَتَتِمُّ بسلامته من أمراضه وآفاته من النفاق والرياء، والحقد والحسد، وغيرها من الآفات.
وإذا استقام القلب على هذه الحال، تَبِعَتْهُ الجوارح كلها في الاستقامة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: «ألَا إن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»، فواجب على كل مسلم - عباد الله - أن يُعنى بقلبه إصلاحًا له، وتنقية له، واجتهادًا في تزكيته وتطهيره: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
أما استقامة اللسان، فتتم بصيانته وحفظه من الآفات، وعن كل أمر يُسْخِط الله جل وعلا، وإشغاله بكل نافع مفيد، وبكل قول سديد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71].
وإذا استقام اللسان تبِعته الجوارح؛ لأنها فرع عنه وتتأثر به؛ فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تُكفِّر اللسان -أي: يخضعون ويتذللون له- تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإذا استقمت اسْتَقَمْنا، وإذا اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا».
رزقنا الله وإياكم الاستقامة على صراطه المستقيم، والثبات على دينه القويم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
معاشر المؤمنين:
ومن مجالات الاستقامة استقامة العقل والفكر والفهم بما يكمل استقامة الاعتقاد والإيمان، فيسلم المرء من ضلالات الإلحاد والتغريب والأفكار الشاذة والمنحرفة، كما نرى ونسمع اليوم من سعي المفسدين لترويجها، ومن أهم دلائل استقامة العقل والفكر اليوم - عباد الله - ثبات المرء على مبادئ الدين وأحكامه وثوابته، لا سيما في قضايا الأمة وحقوقها الثابتة، والدفاع عن مقدساتها.
ومن مجالات الاستقامة استقامة الأخلاق، ورسوخها في سلوك المرء وتعاملاته من الصدق والأمانة، والعفة وحفظ الحقوق، والتواضع وسلامة الصدر وحسن الظن؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم»؛ (الترمذي، حسن صحيح).
تلكم - عباد الله - الاستقامة في معناها ومجالاتها، أمَّا كيف تتحقق؟ وكيف ينالها المرء؟ فهذا هو حديثنا القادم بإذن الله.
_______________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي