فلسطين والتقسيم

خالد سعد النجار

في كتابه الماتع «كارثة فلسطين، الحقيقة والمؤامرة» يتصدى مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني للكثير من الشبهات التي أثيرت عن قضية فلسطين

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

في كتابه الماتع «كارثة فلسطين، الحقيقة والمؤامرة» يتصدى مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني للكثير من الشبهات التي أثيرت عن قضية فلسطين، فأخذ يفند الشبهات واحدة تلو أخرى معززا كلامه بوقائع الأحداث وبالتحليل العميق الذي يجلي حقيقة المؤامرة الدولية لتهويد القدس وإنشاء الورم الخبيث المسمى بالدولة اليهودية وفي إحدى محطات الكتاب يجيب على السؤال التالي بواقعية وشفافية منقطعة النظير:

السؤال: يقول بعض الناس: إن رفض التقسيم، والكتاب الأبيض، والتزام السلبية من الأسباب التي أوصلت فلسطين إلى حالتها الحاضرة، فما تقولون في ذلك؟

 

ويجيب الشيخ -رحمه الله- بقوله: آن لنا أن نتساءل، ونحن في صدد بحث مشروعات الحلول المعروضة لقضية فلسطين: أن لو قبل بها العرب -على قلة جدواها ومخالفتها للميثاق القومي والمبادئ الوطنية السامية- فهل هناك ما يضمن أن الإنجليز سينفذونها ويعملون بها، بعد أن يكونوا قد انتزعوا من العرب اعترافا بالانتداب والوطن القومي اليهودي؟

إن لدينا أدلة كثيرة أيدتها تجارب مريرة على أن السياسة البريطانية تفتقر دائما إلى حسن النية، وعلى أن بريطانيا مصممة كل التصميم على تنفيذ مؤامراتها المبيتة مع اليهود في فلسطين.

يقول إبراهام لنكولن: لو عرفنا أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟ لأدركنا ماذا علينا أن نفعل؟ وكيف يجب أن نفعله؟

وليس المخبر كالمعاين، وليس من رأى كمن سمع.. وآثار الفعل تنبئ عن خبيئته؛ وآثار هذه التساؤلات المريبة تجعل من الفلسطينيين مجرمين ومن اليهود والصهاينة ومن وراءهم أبرياء عادلين منصفين!! أفلا تعقلون ؟!!

** لجان التحقيق البريطانية

فقد شكلت الحكومة البريطانية في كثير من المناسبات، نيفا وعشرين لجنة من «لجان التحقيق البريطانية» لدرس مشكلة فلسطين وتقديم التواصي لمعالجتها على أساس بحث شكاوى الأهلين وتجنب قيام اضطرابات جديدة، وكان من أهم تلك اللجان لجنة السر «ولترشو» البرلمانية، ولجنة السر «جون هوب سمبسون»، ولجنة «لويس فرنش»، وقد اعترفت جميع اللجان بصحة شكاوى العرب وحرمانهم من حقوقهم، وأوصت الحكومة البريطانية باتخاذ بعض الوسائل لمعالجة شكاياتهم، ولكن هذه الحكومة لم تنفذ أية توصية من التواصي التي جاءت في صالح العرب، وهكذا استبان للعرب أن القصد من تشكيل تلك اللجان إنما كان «المراوغة والتخدير».

 

** الكتاب الأبيض لعام ١٩٣٠م

على إثر اندلاع ثورة البراق ۱۹۲۹م ووضوح ظلامة عرب فلسطين للعالم أجمع، وصدور تقرير (لجنة شو)، أصدرت الحكومة البريطانية في أكتوبر۱۹۳۰م كتابا أبيض عرف باسم (كتاب باسفيلد)، وهو وزير المستعمرات حينئذ، وكان هذا الكتاب قائما على أساس تقرير لجنة (شو) الذي نص على وقف الهجرة اليهودية وتقييد بيع الأراضي لليهود، فلما صدر أقبل عليه العرب ولم يرفضوه وضج اليهود باستنكاره، فقررت الحكومة البريطانية إرسال لجنة خاصة لدرس شئون الأراضي برئاسة السر (جون سمبسون)، وكنت مع الوفد الفلسطيني الذي كان في لندن حينئذ، فقلت لمستر ماكدونالد رئيس الوزارة: "لقد دلت التجارب على أن كل تقرير يكون في صالحنا وما لا يريده اليهود لا ينفذ، وإن كان التقرير في صالح اليهود ينفذ فورًا، وإنا لنخشى أن يكون مصير هذا التقرير كذلك، والدليل على هذا إزماعكم إرسال لجنة (سمبسون) ولما يجف مداد تقرير لجنة شو، ونخشى أن يؤثر اليهود على أعضائها"، فقال ماكدونالد: إن هذه اللجنة هي لجنة فنية لبحث شئون الأراضي ومقدار استيعابها، وزاد مازحًا: لا يستطيع اليهود أن يؤثروا على السر سمبسون مطلقا، فهو اسكتلندي أصيل مثلي.

وبعد عودة هذه اللجنة صدر كتاب باسفيلد الأبيض المذكور آنفا، فلم يقف العرب حياله سلبيين رغم أنه لم يحقق آمالهم وكانوا إيجابيين ولكن اليهود هم الذين كانوا سلبيين، فاستنكروه ورفضوه وأثاروا حوله الضجة فنقض الإنجليز غزلهم، وسحبوا الكتاب الأبيض المذكور، وبنتيجة ذلك استقال اللورد (باسفيلد) الذي تبنى ذلك المشروع .

 

وثورة البراق حدثت عندما قامت دائرة الأوقاف الإسلامية بإجراء بعض الإصلاحات في حائط البراق الذي يسميه اليهود حائط المبكى في شهر يونيو سنة ۱۹۲۹م، فاعتبرها اليهود تحديا لهم وقاموا في تل أبيب يوم ١٤ أغسطس بمظاهرات ضخمة بمناسبة ما يزعمونه من تدمير شكل سليمان، وفى اليوم الثاني امتدت مظاهراتهم إلى القدس -وكان يوم الخميس- فتجمع المسلمون يوم الجمعة -وكانت ذكرى مولد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد الأقصى وبعد صلاة الجمعة انطلقوا في مظاهرة ضخمة تحطم كل مظاهر التهويد في المدينة الإسلامية المقدسة .. حتى كان الانفجار الكبير يوم الجمعة التالي ۲۳ أغسطس ۱۹۲۹م، فتدخل الإنجليز بالمدافع والطائرات الحربية، وانتقلت الاشتباكات إلى جميع أرجاء فلسطين وانتقلت حالة الهيجان الشعبي إلى جميع البلاد الإسلامية، وبدأ المسلمون تهريب الأسلحة إلى فلسطين، واستعد المتطوعون للانضمام إلى أية حركة فدائية استشهادية، ومما زاد في حالة التوتر تشبث إدارة المندوب السامي (تشانسلر) بسياستها القمعية وفرض العقوبات الجماعية لتشمل البلاد كلها.

 

ولم يكد يمر يومان على نشر الكتاب الأبيض حتى قابله الصهاينة ببرقيات الاستنكار إلى رئيس الوزراء البريطاني، واستقال وايزمان من رئاسة المنظمة الصهيونية، وواربورج من رئاسة المنظمة في الولايات المتحدة، واللورد ملشيت من الوكالة اليهودية، وانهالت الاحتجاجات من رومانيا، وعقد (اتحاد الصهاينة الشبان) اجتماعاً عاماً في باريس للاحتجاج، وضجت في لندن وفي جميع أرجاء الجزر البريطانية احتجاجات مماثلة، أما في الولايات المتحدة فقد انفجر البركان إلى عنان السماء قاذفا أشد الحمم التهابا حيث توالت الاجتماعات الضخمة من الصهاينة التي كانت تضم عشرات الآلاف تمتلئ بهم الحدائق والميادين، وصب زعماء الصهاينة جام غضبهم على اللورد باسفيلد، فصرخ أحدهم: إن كتاب اللورد باسفيلد قد لطخ شرف بريطانيا العظمى !

 

** المجلس التشريعي لعام ١٩٣٥م

وفى عام ١٩٣٥م فوضت الحكومة البريطانية المندوب السامي السر ( أرثر واكهوب) فعرض في ٢١ ديسمبر مشروعًا جديدًا لتشكيل مجلس تشريعي مؤلف من ۲۸ عضوا نصفهم من العرب والنصف الآخر من اليهود والإنجليز، وأعلن المندوب السامي أن الحكومة مصممة على تشكيل المجلس رغم كل معارضة، ولو اضطرت إلى تعيين الأعضاء عن الفريق الذي يرفض الاشتراك فيه، ورغم هزال المشروع أبدى العرب استعدادهم لبحثه، ولكن اليهود رفضوه معلنين أنهم لا يقبلون الاشتراك في أي مجلس تشريعي لا يكون لهم فيه نصف الأعضاء على الأقل، ولما جرى بحث المشروع في البرلمان البريطاني قرر مجلس اللوردات ومجلس العموم رفضه، فطوته الحكومة البريطانية، ولو رغبت فيه لما عجزت عن الحصول على موافقة البرلمان عليه .

 

** لجنة بيل توصى بتقسيم فلسطين

بعد تهويد السكان وتهويد الأرض وتهويد السوق في حضن الانتداب وبناء القوة العسكرية الصهيونية وبعد استشهاد عز الدين القسام، تشكلت اللجان القومية في جميع أنحاء فلسطين والتي كان قد غرس غراسها العسكرية الشهيد القسام وفى ٢٥ أبريل ١٩٣٦م تم تشكيل اللجنة العربية العليا برئاسة السيد محمد أمين الحسيني، وبدأ الإضراب الشامل وأنشأت حكومة فلسطينية، وبدأت الكتائب العربية تتوالى من الأردن وسوريا والعراق، واكتفت القوى الوطنية في مصر وقتئذ بالدعم المادي بالأموال والدعم المعنوي بإلهاب حماس الجماهير، وذلك بسبب تقييد الاستعمار الإنجليزي لها.

ولما وقع إضراب فلسطين العظيم عام ١٩٣٦م الذي صحبته ثورة فلسطين الكبرى، ودام ستة أشهر كاملة ولم ينته إلا بتدخل ملوك العرب وأمرائهم، أوفدت الحكومة البريطانية لجنة التحقيق الملكية (لجنة اللورد بيل) إلى فلسطين، فأوصت في تقريرها بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود والإنجليز، وكان طبيعيا أن يرفض العرب تقسيم بلادهم

 

** مؤتمر مائدة مستديرة في لندن

فاستؤنفت الثورة واشتدت، واتسع نطاقها اتساعا خطيرًا جدا، حيث بدأت الثورة الحقيقية يوم ۲ نوفمبر ۱۹۳۷م بانقضاض قائدها العام عبد القادر الحسيني وسراياه على مراكز الجيش البريطاني وحشوده في لواء القدس وعلى الطرق المؤدية إلى الساحل في نفس الوقت الذي انقض فيه بقية المجاهدين على القوات البريطانية في سائر فلسطين واستمرت حتى نهاية سنة ۱۹۳۸م، وأسفرت عن قتل ۱۰,۰۰۰ جندي بريطاني وأقل من هذا العدد بقليل من اليهود، أما المسلمون فقد استشهد منهم ۱۲,۰۰۰ معظمهم قضى نحبه على أيدي الإنجليز.

اضطرت السلطات البريطانية العدول عن التقسيم في عام ۱۹۳۸م، ورأت بريطانيا لمعالجة الموقف أن تدعو كلاً من حكومات مصر والمملكة العربية السعودية واليمن والعراق وشرق الأردن واللجنة العربية العليا بصفتها الممثلة العرب فلسطين، إلى مؤتمر مائدة مستديرة في لندن، ولكن المؤتمر فشل في الوصول إلى حل لقضية فلسطين، لتعنت الاستعمار واليهود، وتدخل الولايات المتحدة الأمريكية.

 

** الكتاب الأبيض لسنة ١٩٣٩م

وفيما بعد أصدرت الحكومة البريطانية كتابا أبيض عن سياستها الجديدة في فلسطين اعترفت فيه بمبدأ تأسيس دولة فلسطينية مستقلة خلال عشر سنين، وتشكيل مجلس تشريعي، ولكنها علقت ذلك على ملائمة الظروف وقبول كل من العرب واليهود به، وقد حددت الهجرة اليهودية فيه، ومنع بيع الأراضي لليهود في بعض مناطق فلسطين.

ففي بادئ الأمر قابلت الدول العربية هذا الكتاب الأبيض بتحفظ وتجهم لما فيه من تناقض، إلا أنها قبلته في النتيجة كما قبلته الأكثرية الكبرى من أعضاء اللجنة العربية العليا لفلسطين وأخيرًا قبلته أيضا جامعة الدول العربية وطالبت - في اجتماعها عام ١٩٤٥م - الحكومة البريطانية بتنفيذه، وبذلك لم يكن العرب سلبيين، ولكن اليهود رفضوه وأصروا على رفضه، فلم تنفذه بريطانيا، رغم أنها تعهدت حين أصدرته عام ۱۹۳۹م بشرفها وشرف الإمبراطورية بأن تنفذه سواء رضي به العرب واليهود أم لم يرضوا .
 

فلما أيقن العرب بسوء نية الإنجليز وتأمرهم واليهود عليهم، وذلك بعد تجارب كثيرة لم تدع مجالاً للثقة والطمأنينة، كان من الطبيعي أن يحذروا دسائسهم ويعملوا على اتقاء مكايدهم.

فهل إذا رفض عرب فلسطين مثل هذه العروض الواهية التافهة يسمون سلبيين؟

وتقسيم الوطن لا تقبله أمة حية، بل أية أمة من أمم الأرض قبلته حتى يقبله شعب فلسطين؟!


أردت بسرد هذه الوقائع أن أبرهن لكم على أن عرب فلسطين لم يكونوا سلبيين، ولم يتخذوا السلبية ديدنا لهم في كل المواقف، ولكن بريطانيا كانت دائما ضالعة مع اليهود، ومتآمرة معهم تعمل لصالحهم وصالحها المشترك دون أن تبالي بسلبية أو إيجابية، ولكنها تستغل كل ظرف لبث الدعاية وفق أهوائها ومقاصدها الاستعمارية عاملة على قلب الحقائق وتضليل الأفهام بقوة جبروتها وبراعة دوائر استخباراتها، وبما تسخر لدعايتها من أتباع وأعوان وأبواق تغدق عليهم المال بغير حساب.

 

لقد كان المستعمرون يطلبون من الفلسطينيين الرضوخ لخطتهم الاستعمارية الصهيونية والتعاون معهم على أساسها، ويسمون ذلك «إيجابية» فلما رفض الوطنيون الإذعان لرغباتهم ورغبات الصهيونيين وأبوا التعاون على ذلك الأساس، وصفوا أعمالهم بالسلبية » !

والحقيقة التي ينبغي لنا أن نوقن بها، هي أنه لا قيمة للسلبية ولا للإيجابية ولا وزن إلا للقوة، فلنكن أقوياء: في أنفسنا، وتنظيمنا، ووسائلنا، وأقوياء في مقومات حياتنا.

وإذا كانت الأمة العربية خسرت هذه المعركة مع الاستعمار واليهود، فلم يكن سبب الفشل السلبية ولا الخطأ في الخطة والتقدير ولكن السبب الرئيسي هو الفرق الواسع، والبون الشاسع بينها وبين خصومها في الجد والتصميم، والاستعداد والتنظيم.


جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]