مكانة خطبة الجمعة في الإسلام
تلك الخطبة التي تلقى على المنبر يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وهي شرط لصحة الجمعة، وبه قال الأئمة - الأربعة - رحمهم الله تعالى -، ولخطبة الجمعة في الإسلام منزلة عظيمة.
- التصنيفات: خطب الجمعة - سنن وآداب يوم الجمعة -
خطبة الجمعة: تلك الخطبة التي تلقى على المنبر يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وهي شرط لصحة الجمعة، وبه قال الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم الله تعالى -.
ولخطبة الجمعة في الإسلام منزلة عظيمة، يتبين ذلك من خلال ما يأتي:
أولاً: كان تشريع خطبة الجمعة في أعظم أيام الأسبوع، وجعلها أيضاً قرينة لصلاة الجمعة، وسابقة لها، بل ونسبتها إلى هذا اليوم الفضيل، وتسميتها بخطبة الجمعة من أول الدلائل التي تدل على مكانة هذه الشعيرة العظيمة، بل عد الإمام ابن القيم - رحمه الله - خطبة الجمعة من خصائص هذا اليوم الكريم، فلا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، و أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، و فيه أدخل الجنة، و فيه أخرج منها،و لا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (رواه مسلم).
ثانياً: أن خطبة الجمعة شرط - على الصحيح - لصحة الجمعة كما قدمنا.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى ندب لها، وذم من انشغل عنها بغيرها، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[9] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[10] وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11]} [الجمعة / 9 - 11]، فقد رجح الإمام القرطبي وغيره أن المراد بذكر الله في الآية: خطبة الجمعة، حيث قال في تفسير قول الله سبحانه:إلى ذكر الله): أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير، بن العربي والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة، وبه قال علماؤنا....
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أن يتولى خطبة الجمعة بنفسه، فالإمامة والخطابة مهام اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاها بنفسه، وهذه مزية لخطبة الجمعة أيضاً، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون) (رواه البخاري ومسلم).
بل تعدت خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي خطبها في أصحابها الألفي خطبة، وبذلك صرح الصحابي الجليل جابر بن سمرة رضي الله عنه فقد أخبر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً. فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة) (رواه مسلم).
ثم إن من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يصل المدينة في هجرته المباركة، حيث أرسل صاحبه مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليعلمهم الدين، وهناك استقر عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه وعنده أقيمت أول صلاة للجمعة في المدينة، فعندما بلغوا الأربعين شخصاً أمَهم مصعب رضي الله عنه، فقد روي أنه كتب له رسول الله صلى الله وسلم أن يجمع بهم.
ثم بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم: ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون، وهم أركان البلاغة، ودعائم البيان، وسادات الفصاحة، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع، ولله الحمد والمنة.
خامساً: إن المتتبع لمقاصد خطبة الجمعة يجد كثيراً من المقاصد السامية ومن ذلك:
1. أن خطبة الجمعة من الدعوة إلى الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل / 125].
2. وهي من البلاغ المأمور به، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية..» (الحديث رواه البخاري).
3. وخطبة الجمعة فيها تمثل لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران / 104].
4. والتذكير مقصد آخر من مقاصد خطبة الجمعة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات/ 55].
5. التعليم والنصح مقصدان عظيمان من مقاصد خطبة الجمعة، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إن الله و ملائكته، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير».
وغير ذلك من المقاصد العظيمة من الدلالة إلى الخير، والتحذير من الشر، والاجتماع، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح، والتربية، وغير ذلك كثير، فخطبة الجمعة محضن عظيم، تتضمن كل ما فيه صلاح المسلم في دينه ودنياه.
سادساً: مكانة الخطبة الرفيعة من مكانة المسجد في الإسلام، فالخطب في المسجد الجامع، والمسجد له مكانته العظيمة في الإسلام، فالمساجد أفضل بقاع الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: «خير البقاع المساجد..» الحديث، ومنها انطلق نور الإسلام للبشرية، وكانت ومازالت لله الحمد دور العبادة، والطاعة، والعلم، والدعوة.
سابعاً: وإن من مكانة خطبة الجمعة، أن نُدب المسلم للتبكير للاستماع لها، والتهيئة لذلك، فقد رتب الشارع الحكيم على التبكير للحضور يوم الجمعة أجراً عظيماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
كما أن الشارع الحكيم حث على الإنصات للخطبة، وحذر من التهاون في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا»، وقال صلى الله عليه وسلم «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» (رواه البخاري ومسلم).
ثامناً: ومن المعاني التي تستشعر فيها مكانة خطبة الجمعة في الإسلام، أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم لها مكاناً محدداً، ومنبراً خاصاً، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً، وخطب عليه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل، يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً، قال «إن شئتم»، فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر...) (الحديث، رواه البخاري).
وقد دلت أحاديث كثيرة على ذلك، حتى حكى الإمام النووي الإجماع على ذلك فقال رحمه الله:
أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر؛ للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ ولأنه أبلغ في الإعلام؛ ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم.
______________________________________________________
الكاتب: د.محمد بن عدنان السمان