هلا تركنا للصلح موضعا؟!
الصُّلْح بين الناس من أفضل العبادات، وأجَلُّ القربات؛ لما فيه من نشر للحب والمودَّة بين الناس؛ مما يؤدي إلى سعادة الأفراد، وقوة البلاد، وترابط المجتمعات،
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
ثغرات، وشفرات، وتناقضات، حياتنا الاجتماعية ممتلئة بتلك الفجوات التي يصعب تصديقها، والمنغصات التي يندر توقُّعها، ويصعب معها ردمها، أو إخفاؤها، أو حتى تجنُّبها، فهي تحدث بين الناس، وتُنغِّص عليهم حياتهم، وتُبعِدهم عن بعضهم البعض، بل وتأخذهم إلى الفُرقة والشتات، إلى التشرذم والمشاحنات، كم من ابنٍ قاطَعَ والده لسوء الفهم! وكم من زوج نحَّى زوجته جانبًا حتى دبَّت القسوة في حياتهما بقصد أو بدون قصد! وكم من بنت خاصمت أختها لأتفه الأسباب! وكم من أخٍ يقاضي أخاه في المحاكم لمجرد هواجس وشكوك نسجها الشيطان بينهما! هذا يحدث مع الأقارب فما بالك بغيرهم!
نقل الكلام، وبث الأوهام، وفقدان المحبَّة والسلام،أسلحة شياطين الإنس لإغلاق الأبواب وتحطيم الأسباب، وعصيان ربِّ الأرباب، نحتاج إلى التروِّي والتمعُّن والمرونة في علاقاتنا مع الآخرين وإعادة هندستها وترك الباب مواربًا، فنحن بَشَر ولسنا معصومين من الخطأ، وليكن شعارنا قَوْلي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول أخي خطأ يحتمل الصواب.
أين نحن مِن قوله صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام بينكم» ؟! أين نحن مِن قولهم: «التمس لأخيك ولو سبعين عذرًا» ؟! ومن قولهم: «لاتكُن قاسيًا فتُكْسَر ولا ليِّنًا فتُطوى».
قال ابن حِبَّان رحمه الله: المعاداةُ بعد الخُلَّة فاحشةٌ عظيمةٌ، لا يليق بالعاقل ارتكابها، فإن دفَعه الوقتُ إلى ركوبها فليترك للصلح موضِعًا!
وشتمَ رجلٌ أبا ذرٍّ، فقال له: ياهذا، لا تغرقن في شتمنا، ودَع للصُّلْح موضِعًا؛ فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه!
الصُّلْح بين الناس من أفضل العبادات، وأجَلُّ القربات؛ لما فيه من نشر للحب والمودَّة بين الناس؛ مما يؤدي إلى سعادة الأفراد، وقوة البلاد، وترابط المجتمعات، والصلحُ خيرٌ من الشقاق، والصلة أفضل من القطيعة، والحب أولى من الكراهية؛ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة»، قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البَيْن، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، وفي رواية: «لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»؛ (رواه الترمذي، وصحَّحَه الألباني).
ويُقال: إن شعرة معاوية يُضرَب بها المثل في التعامل مع الناس ومداراتهم، وأخذهم بالحكمة والحنكة والموعظة الحسنةلو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدُّوها أرخيتُها، وإذا أرخوها مددتها.
لذلك اتركللصلح موضِعًا، واترك الباب مواربًا في حياتك، الراحلون يومًا ما سيعودون، وهذا ليس ضعفًا ولا خوفًا من تقلُّبات الحياة، لكنه حب وتقدير لمن رحلوا، وتحاشٍ للتسبُّب في الألم.
فن التعامل وكسب القلوب:
قِيل: كان لعبدالله بن الزبير-رضي الله عنه- مزرعة في المدينة مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما خليفة المسلمين في دمشق،وفي ذات يوم دخل عُمَّال مزرعة معاوية إلى مزرعة ابن الزبير، وقد تكرَّر منهم ذلك في أيام سابقة، فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق - وقد كان بينهما عداوة - قائلًا في كتابه: من عبدالله بن الزبير إلى معاوية (ابن هند آكلة الأكباد)، أما بعد:
فإن عُمَّالك دخلوا إلى مزرعتي، فمُرْهم بالخروج منها، أو فوالذي لا إله إلا هو ليكونَنَّ لي معك شأن! فوصلت الرسالة لمعاوية، وكان من أحْلَم الناس، فقرأها.
ثم قال لابنه يزيد: ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يُهدِّدُني؟فقال له ابنه يزيد: أرسل له جيشًا أوَّلُه عنده وآخره عندك يأتيك برأسه، فقال معاوية مع مرونة رائعة: بل خيرٌ من ذلك زكاة وأقرب رُحْمًا.
فكتب رسالة إلى عبدالله بن الزبير يقول فيها: من معاوية بن أبي سفيان إلى عبدالله بن الزبير (ابن أسماء ذات النطاقين) أما بعد:
فوالله، لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلَّمْتُها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك،فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعُمَّالي إلى عُمَّالك، فإن جنَّة الله عرضها السماوات والأرض!
فلمَّا قرأ ابن الزبير الرسالة بكى حتى بلَّ لحيته بالدموع، وسافر إلى معاوية في دمشق وقَبَّل رأسه،وقال له: لا أعدمك الله حلمًا أحلَّك في قريش هذا المحل.
دائمًا تستطيع امتلاك القلوب بحُسْن تعاملك وحبك للغير.
لمن لم يترك الباب مواربًا ويشيح بوجهه ويرى الناس من حوله بصور قاتمة، ويسأل: ماذا فعلت ليشيح الناس بنظرهم، إنها السخرية والاستهزاء والغوص في عالم المجهول، عدم التقدير والنظرة بالاستعلاء والغرور،همسة لأولئك الموصدينأبوابهم، اتركوا باب التسامح والمحبَّة يرفرف مع نسمات المساء الجميل،وقطرات الصباح العليل، ما زرعته لن تذروه الرياح؛ بل هي رائحة الورد والياسمين من أولئك الذين أضاعوا الطريق وعادوا حين أظلمت الدنيا في عيونهم.
ولأهمية الصلح بين الناس، من أجل تقريب المسافات، ووصل العلاقات، واستقرار البيوت والمجتمعات، أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، كأن يذكر الذي يصلح على لسان أحد المتخاصمَين مدحًا لخصمه وثناء عليه، من غير أن يكون هذا قوله حقيقة، فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس، فقال خيرًا، أو نَمى خيرًا»؛ (رواه البخاري).
قال ابن العربي: الكذب في هذا وأمثاله جائز بالنص؛ رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه.
وعن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلُّ الكذب إلَّا في ثلاث: يحدِّثُ الرَّجلُ امرأته (زوجته) لِيُرْضِيَها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلحَ بين النَّاس»؛ (رواه الترمذي وصححه الألباني).
والمقصود بالكذب بين الزوجين: الكذب في إظهار الود والمحبة لغرض دوام الأُلْفة واستقرار الأسرة، وليس الكذب من أجل ضياع الحقوق وترك الواجبات!
عش حياتك على مبدأ:
كن مُحسنًا حتى وإن لم تلق إحسانًا، ليس لأجلهم؛ بل لأن الله يحب المُحْسِن، لنتعايش مع الأبواب المواربة، فالعمر قصير، والسفر إلى الله طويل، والحساب أمام الله شديد، والسمعة الحسنة هي التي تُخلد ذكر الإنسان بعد أن يصبح تحت الثرى، ويشهد على ذلك تاريخه وآثاره {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] ولنتذكر دومًا {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
اللهم ارزقنا التسامح والتصالح والتصافُح، اللهم أصلح فساد قلوبنا وكسادأرواحنا وكل أعمالنا.