إنهم يأكلون أرصدتهم

العاقل الحصيف يُحافظ على رأس ماله من الحسنات عن الضياع، أشد من مُحافظته على رأس ماله من النقود ونحوها، فسوف يحتاج مثقال الذرة منها...

  • التصنيفات: التفسير - نصائح ومواعظ -
إنهم يأكلون أرصدتهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وبعد:

يحمل الإنسان رِزْقه ويكنزه ويحفظه، على خلاف جميع الدّوابّ، سوى صنفين منها أو ثلاثة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]، ثم يأكل منه ويَقتات، حتى يُفنيه، كما يبني المسلم رصيده من الحسنات يومًا بعد يومٍ لتحسين مستقبله الأُخرويّ، وتعلو درجاته فيها، بفضل الله ورحمته، ويحرص كل الحرص على المحافظة عليه، وصيانته مما يمسّه بسوء.

وبناء الرصيد وجَمْعه ليس بالأمر اليسير، إلا على مَن يسَّره الله عليه -وقليل ما هم- {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة ٤٥]، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة ١٤٣]، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت ‌النارُ بالشهوات»[1].

وهذا من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم ، من التمثيل الحَسن. ومعناه: لا يُوصَل إلى الجنة إلا باقتحام المكاره، ولا النار إلا بالشهوات، فهما محجوبتان بهما، فمن هتَك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهَتْك حجاب الجنة باقتحام المَكاره، وهتك حجاب ‌النار بارتكاب الشهوات[2].

لكنَّ الأمر الخطير أنَّ هناك مَن لا ينتبه للخروق التي تتزايد في خزينة حسناته يومًا بعد يوم، وقد جمَعها في غاية المشقة، فيُفاجَأ بأن هذه الخروق قد أفْرَغَتْها أو كادت.

فمن تلك الخروق -وما أكثرها- التي تتسرَّب منها الحسنات خارج الخزينة:

1- الشرك بالله -تعالى-:

فالوقوع في الشرك، يأكل الرصيد كله، ولا يُبقي منه شيئًا على الإطلاق، قال -تعالى-: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْـجَاهِلُونَ 64 وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْـخَاسِرِينَ 65 بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 64 - 66]؛ ففي هذه الآيات إشارةٌ إلى عمل صالح، ورصيد من الصالحات، وتحذير لنبيٍّ كريم -هو أكمَل مَن عبَد اللهَ تعالى-، وليس الأمر له وحده، بل لجميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ومع ذلك فإن الشرك لو وقع -وحاشا أحدًا منهم أن يُشرك بالله- لأحْبَط كل تلك الأعمال الصالحة.

فالشِّرك أعظم مُدمِّر للحسنات، وأخطرها على الإطلاق، مما يستوجب التوجس، والحذر الشديد.
 

2- ظُلم الناس:

 كما في حديث المفلس؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «أتدرون ما ‌المفلس» ؟!» قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: «إنّ ‌المفلس مِن أمتي يأتي يوم ‌القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار» [3].

‌‌فهذا هو المفلس الهالك حقيقةً، فتُؤخذ حسناته لغُرمائه، ويُفرغ من رصيده لخزائن غيره، فإذا فَنيت حسناتُه أُخِذَ من سيئاتهم فوُضِعَت عليه، ثم أُلْقِيَ في النار، فتمَّت خسارته وهلاكه وإفلاسه.

قد يتبادر لذهن كثير من الناس أن الظلم يقتصر على أَخْذ المال أو ضَرْب الجسد فحسب! ويَغفلون عن الغيبة والنميمة والتكبُّر والاحتقار والازدراء، والاعتداء على حقوق الآخرين في السير والطرقات، أو الاصطفاف لقضاء حاجة ما.. وهي مظالم ستُسْتَوْفَى لأهلها.
 

3- اقتناء الكلاب:

لقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم  الكلاب؛ لِمَا لها من آثار سيئة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «وَاعَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَام-، فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ، وَفِي يَدِهِ عَصًا فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: «مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَلَا رُسُلُهُ»، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ! مَتَى دخل هذا الكلب هاهنا» ؟» فَقَالَتْ: وَاللَّهِ! مَا دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ» !»، فَقَالَ: «مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ، إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا ‌فِيهِ ‌كَلْبٌ وَلَا صورة»[4].

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يأمر بقتل الكلاب، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يأمر بقتل الكلاب، فنبعث في المدينة وأطرافها فلا ندع كلبًا إلا قتلناه...»، الحديث[5].

ثم خُفِّف هذا الحكم بترك قَتْلها، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم  في ما يُنْتَفَع منه في الصَّيد أو الحراسة، كما في حديث عبدالله بْن الْمُغَفَّل -رضي الله عنه-، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  بِقَتْلِ الْكِلاَبِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلاَبِ»!، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ[6].

وورد مثله في الإذن عن ابْنِ عُمَرَ وأبي هريرة -رضي الله عنهم-.

فالمُقتنِي لكلبٍ لغير تلك الأغراض المشروعة فإنه يُضحِّي برصيده، ويأكل من رأس ماله! فعن أبي هريرة وابن عمر وسفيان بن أبي زهير -رضي الله عنهم-، أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قال: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ؛ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ»[7].

وفي بعض الروايات قيراطان! كما في رواية أبي هريرة[8] وابن عمر[9] -رضي الله عنهم-، فهل يمكننا تخيُّل الرصيد اليومي المفقود مدة اقتناء الكلب لغير الغرض المشروع! وربما طالت تلك المدة!
 

4- الحَوْر بعد الكَوْر:

أو الحَور بعد الكَوْن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم  يستعيذ بالله منه، كما في صحيح مسلم[10]، وهو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو من الاستقامة إلى الانحراف، فهو تراجُع عن الخير إلى الشر. فالكور: مأخوذٌ من تكوير العمامة، وهو لفّها وجمعها، يقال: كار عمامته إذا لفّها، وحارها إذا نقَضَها. ولفظة الكون: مأخوذة من السكون والاستقرار[11].

وفي هذا يقول الله -تعالى-: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266].

وعَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر قَالَ: «قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب -رضي الله عنه- يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم : فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ؟ ( {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ جَنَّة مِنْ نَخِيل وَأَعْنَاب} )؟ قَالُوا: اللَّه أَعْلَم.
فَغَضِبَ عُمَر، فَقَالَ: قُولُوا نَعْلَم أَوْ لَا نَعْلَم، فَقَالَ ابن عَبَّاس: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْء يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَر: يَا ابن أَخِي! قُلْ وَلَا تَحْقِر نَفْسك.
فَقَالَ ابن عَبَّاس -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا-: ضُرِبَتْ مَثَلًا بِعَمَلٍ، قَالَ عُمَر: أَيّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابن عَبَّاس: لِرَجُلٍ غَنِيّ يَعْمَل بِطَاعَةِ اللَّه، ثُمَّ بَعَثَ اللَّه لَهُ الشَّيْطَان فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَاله
»[12].

قال ابن كثير«وَفِي هَذَا الْحَدِيث كِفَايَة فِي تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة، وَتَبْيِين مَا فِيهَا مِنَ الْمَثَل، بِعَمَلِ مَنْ أَحْسَن الْعَمَل أَوَّلًا، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ انْعَكَسَ سَيْره، فَبَدَّلَ الْحَسَنَات بِالسَّيِّئَاتِ -عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ-؛ فَأَبْطَلَ بِعَمَلِهِ الثَّانِي مَا أَسْلَفَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّالِح، وَاحْتَاجَ إِلَى شَيْء مِن الْأَوَّل فِي أَضْيَق الْأَحْوَال فَلَمْ يَحْصُل مِنْهُ شَيْء، وَخَانَهُ أَحْوَج مَا كَانَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ -تعالى-: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ}، وَهُوَ الرِّيح الشَّدِيد {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}؛ أَيْ: أَحْرَقَ ثِمَارهَا، وَأَبَادَ أَشْجَارهَا، فَأَيّ حَال يَكُون حَاله؟!»[13].

وأشار ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا إلى ما في هذا المثل من الإحباط الشديد لرجلٍ كانت له في شبابه جنَّة، وارفة الظلال، وفيرة المياه، غزيرة الثمار، فلما كبرت سِنّه، ورقَّ عَظْمه، اجتاحها إعصار فيه نار، فأحرقها وأتلفها عن بَكْرة أبيها، فالتفَتَ إلى حاله! فإذا هو كبير سنّ، لا يستطيع أن يُعيدها من جديد فيغرسها، والتفَتَ حوله! فإذا ذريته صغار سنّ ضعفاء، لا يمكنهم عمل شيء، بل هم ينتظرون منه النفقة والطعام![14].

فهذا مَثَل مَن جمَع الصالحات، ثم أحرقها بالمعاصي، عند حاجته لها، وافتقاره إليها.

فالعاقل الحصيف يُحافظ على رأس ماله من الحسنات عن الضياع، أشد من مُحافظته على رأس ماله من النقود ونحوها، فسوف يحتاج مثقال الذرة منها؛  {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧، ٨].

 


[1] أخرجه مسلم (2822)، وأخرجه البخاري (2380) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ «حُجِبَت».

[2] انظر صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبدالباقي: (4/2174).

[3] أخرجه مسلم (2581).

[4] أخرجه البخاري (5615)، ومسلم (2104).

[5] أخرجه البخاري (3145)، ومسلم (1570).

[6] أخرجه مسلم (1573).

[7] أخرجه البخاري (3146) و(3147)، ومسلم (1574) و(1575) و(1576).

[8] أخرجها مسلم (1575).

[9] أخرجها البخاري (5163)، ومسلم (1574).

[10] صحيح مسلم (1343).

[11] انظر: غريب الحديث لأبي عبيدٍ القاسم بن سلام (1/220 ، 221).

[12] أخرجه البخاري (4264).

[13] تفسير ابن كثير (1/534 ، 535).

[14] انظر كلام ابن عباس في تفسير ابن أبي حاتم (2778).