قضاء حوائج الناس عبادة
تعين أخاك المسلم فيعينك الله، ترحمه فيرحمك، تستره فيسترك، تنفس عنه كربةً من كرب الدنيا، فينفس الله عنك كربة من كرب القيامة، تضع عنه بعض الدين، يضع عنك بعض الوزر، تفرج عن عُسْرَته، يفرج الله عن عُسْرِك يوم القيامة، وهكذا.
- التصنيفات: تزكية النفس - محاسن الأخلاق -
عندما تسوء الأخلاق، وتضيق الأرزاق، وتشتد النوازل، وتتصاعد الرذائل، وتزداد المعوِّقات، وتكثُر العقبات، يحتاج العبد إلى من يأخذ بيده، ويشُدُّ من أزْرِهِ، ويُعْلِي من شأنه، ويرفع من عزمه، يجبُرُ خاطره، ويقضي حاجته، وإن أعظم عبادة يتقرب بها المرء إلى ربه قضاءُ حاجة أخيه المسلم، يسرِّي عنه، ويَبَشُّ له، ويمُدُّه بالعون، ويرفع عن كاهله الهمَّ، ويُسدِي له النصيحة، والذي يفعل ذلك يكون أحب الناس إلى الله، كيف؟
قال صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ يُدْخِله على مسلم، أو يكشف عنه كربةً، أو يقضي عنه دَينًا، أو يطرد عنه جوعًا»[1].
إن الذي يعمل على قضاء حوائج الناس يمتلك نفسًا زكية، ويدًا نَدِيَّة، وصدرًا رَضِيًّا، و قلبًا سليمًا، وعقلًا عظيمًا، وأفقًا واسعًا، وروحًا متألقة؛ لأنه بقضاء حاجة الناس يجبر نفوسًا كُسِرت، وقلوبًا فَتَرت، وأجسادًا أُنْهِكَت، وأرواحًا أُرْهِقَت.
في المجتمع لا يفتقر الفقير إلا ببخل الغني، ولا ينكسر الضعيف إلا بطغيان القويِّ؛ لذلك تجد في شكوى الفقير ابتلاءً للغني، وفي انكسار الضعيف امتحانًا للقوي، وفي توجُّع المريض حكمةً للمُعافى، ومن أجْلِ هذه السُّنَّة الكونية جاءت السُّنَّة الشرعية بالحث على التعاون بين الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي في تفريج كروبهم، وبذل الشفاعة الحسنة لهم؛ تحقيقًا لدوام المودة، وبقاء الأُلْفة، وإظهار الأُخوَّة، ونفعُ الناس ودعمهم، والسعي في كشف كربهم من صفات الأنبياء والرسل.
هذا النبي الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، مع ما فعله إخوته؛ حيث اتهموه في شرفه بالسرقة، ووضعوه في الجُبِّ، ومع ذلك قضى حاجتهم لما جاؤوا إليه متسوِّلين يقولون: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]، فعفا عنهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]، وجهَّزهم بجهازهم.
وموسى عليه السلام لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمَّة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان، رفع الحجر عن البئر وسقى لهما، حتى رويت أغنامهم، لقد رأى فتاتين عفيفتين طاهرتين، تتحاشيان الاختلاط بالرجال، معهما أغنامهما، وعلى الرغم من أنه لا يعرفهما، وليس له حاجة عندهما، فإنه رأى أنها فرصة لأن يكسب الأجر عند الله بقضاء حاجتهما، فسقى لهما، ثم بعد أن أنجز تلك المهمة، لم يطلب منهما أجرة ما عمل، أو انتظر منهن كلمة شكر، إنما تولى إلى الظل ليستظل من قَيظِ الحَرِّ، إنه رسول من أولي العزم من الرسل، إنه كليم الله موسى، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قال ربنا: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 21 - 24].
تجد الجزاء الأوفى، والأجر الأعظم، تجد الجزاء من جنس العمل لهذا النبي الكريم، القوي الأمين، ضمن هذه الآيات: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 25 - 27].
القوة والأمانة جناحان، طار بهما إلى عش الزوجية، إلى الأمان والاطمئنان والاستقرار، كيف؟
نتيجة قضاء حوائج المسلمين، وكشف كرباتهم، أمانٌ بعد الخوف، ورزق بعد الفقر، وزوجة بعد العُزُوبة، هذا جزاء في الدنيا حصل عليه نبي الله موسى عليه السلام، فكيف بجزاء الآخرة؟
فمن كان في قضاء حاجة الناس، أتظنون أنه يخيب؟ أتظنون أنه يضيع؟ لا والله.
ولذلك فإن قضاء حوائج الناس عبادة من أعظم العبادات التي تنفع الإنسان قبل أن تنفع غيره، فمن سار في قضاء حوائج الناس، قضى الله عز وجل حوائجه.
وخديجة رضي الله عنها تقول في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتحمِل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق»[2].
وأشرفُ الخَلْقِ محمد صلى الله عليه وسلم إذا سُئل عن حاجة لم يردَّ السائل عن حاجته؛ يقول جابر رضي الله عنه: ((ما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا))[3].
وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والصالحون؛ فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل، يسقي لهن الماء ليلًا، وكان يسابق الصديق أبا بكر في خدمة العجوز الكفيفة، وكان أبو وائل رحمه الله يطوف على نساء الحي وعجائزه كل يوم، فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن[4].
إن خدمة الناس وقضاء حوائجهم دليلُ الأصل الطيب، والْمَنْبِت النقيِّ، والقلب الصافي، والسريرة الحسنة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
لله أقوامٌ يختصهم بالنِّعَمِ لمنافع العباد، وجزاءُ التفريج تفريجُ كرباتٍ وكشف غموم في الآخرة؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّس الله عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يوم القيامة»[5].
وفي لفظ له: «من سرَّه أن يُنجِّيَه الله من كرب يوم القيامة، فلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِرٍ أو يَضَع عنه»[6].
وهذا رجلٌ من إراش له حقٌّ عند أبي جهل يماطل به، فجاء شاكيًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء بيت أبي جهل، فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمد، فاخرج إليَّ، فخرج إليه وما في وجهه من رائحة قد انتُقع لونُه، فقال: أعْطِ هذا الرجلَ حقَّه، قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيَه الذي له، قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للإراشي: الْحَقْ بشأنك، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس لقريش، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد والله أخذ لي حقي، قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا له: ويلك ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط، قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ بابي، وسمعت صوته فمُلِئْتُ رعبًا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لَفَحْلًا من الإبل، ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه فحلًا قط، والله لو أبيتُ لَأَكَلَنِي[7].
إن الإسلام لا يهمل البسطاء، ولا يكسِر الفقراء، ولا يهين الضعفاء، فقد عاتب الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه أعرض عن ابن أم مكتوم، وكان أعمى، عندما جاءه قائلًا: علِّمني مما علمك الله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام منشغلًا بدعوة بعض كبراء قريش، فلما أعرض عنه، أنزل الله قرآنًا يُتعبَّد به إلى يوم الدين، معاتبًا خاتم المرسلين وأحب خلق الله إلى رب العالمين: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1 - 4].
إن التيسير على الناس والتجاوز عنهم من ضمن قضاء الحوائج، بل من أجَلِّ القُرَبِ إلى الله تعالى، خاصة الفقراء والمساكين؛ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسِرًا، فتجاوَزْ عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلَقِيَ الله عز وجل فتجاوز عنه»[8].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن يُنجِّيَه الله من كُرَبِ يوم القيامة، فلْيُنفِّس عن معسر، أو يضع عنه»[9].
ولقد كان قيس بن سعد بن عبادة يتجاوز عن المعسرين، حتى إنه مرِض فلم يَعُدْهُ غير قليل من الناس، فتعجب من ذلك، فقيل له: لك عليهم ديون، ويستحون أن يأتوا ولك عليهم دَين، فأرسل غلامه ينادي في الأمصار: من كان عليه دَينٌ لقيس بن سعد بن عبادة، فقد تجاوزنا عنه وهو في حِلٌّ منه، فعاده الناس في اليوم التالي حتى كُسِرَت عتبة بابه من كثرة العوَّاد.
وقد حثَّنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الوقوف بجانب الآخرين وجبر قلوبهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مسلم كربةً من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسِرٍ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم، ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...»[10].
ومن أجَلِّ العبادات قضاءُ حوائج المحتاجين والضعفاء، وإغاثتهم بالطعام عند الجوع، والغطاء عند البرد، والعلاج عند المرض، فإن لم تجد فكُفَّ لسانك عن الشر.
جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «دُلَّني على عمل يدخلني الجنة، قال: أطْعِمِ الجائع، واسْقِ الظمآن، وأمُرْ بالمعروف، وانْهَ عن المنكر، فإن لم تُطِقْ فكُفَّ لسانك إلا من خير»[11].
حتى مع غير المسلمين جَبْرُ الخاطر مطلوب في شريعة الإسلام، كيف؟ عمر بن الخطاب كان يسير يومًا في الطريق، فرأى رجلًا يتسول، فقال له: ما لك يا شيخ؟ فقال الرجل: أنا يهودي كبِرت سني، وشاب شعري، ورَقَّ عظمي، وأتسول لأدفع الجزية، فقال عمر: والله ما أنصفناك نأخذ منك شابًّا، ثم نضيعك شيخًا، والله لأعطينَّك من مال المسلمين، وأعطاه عمر رضي الله عنه من مال المسلمين[12].
الغني يرفه نفسه إلى أعلى درجة، إذا قدر على أن يسكن أفخر بيت، ويركب أجمل سيارة، ويقترن بأجمل امرأة، أن يكون له أعلى منصب، أن يصل لأعلى درجة من الترف والبذخ، يعُدُّ نفسه ذكيًّا وشاطرًا، وهو الفهيم الوحيد، المؤمن بالعكس بقدر ما يعطي يعد نفسه ذكيًّا، بقدر ما يخفف عن الناس آلامها، بقدر ما يشيع الفضيلة والهدى والحق، تجد المؤمن الصادق ليس له همٌّ إلا همًّا واحدًا؛ يعطي، يعطي من علمه، يعطي من خبرته، يعطي من ماله، يخفف آلام الآخرين، يصبِّر الناس، يقنِّعهم، يدلهم على الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162][13].
الله تعالى خاطب سيدنا موسى، فقال له: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41]؛ أي: أنت مُصمَّم خصوصًا لخدمة الخلق، الناس يقلقون على الدين، يقول لك: الدين في خطر، أعداء الدين كثر، أعداء الدين أقوياء، أعداء الدين خبثاء، يتآمرون على الدين، أهل الأرض كلهم هلاكهم كهلاك واحد: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29].
حياة المؤمن مبنِيَّة على العطاء، يعطي وقته، يعطي علمه، يعطي ماله، يعطي خبرته، تجد المؤمن إنْ كان لديه مصلحة أو حرفة، يعلِّمها، ورزقه على الله، أما الثاني، فيمنعها، لا يعلِّم أحدًا، عنده وهم أنه إذا علَّم، قل رزقه، بكل المجالات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسْلِمه، مَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته»[14]؛ من كان في حاجة أخيه: أي: باني حياته على خدمة الخلق.
للإنسان مقامٌ عند الله يصل إليه بالعمل الصالح، أو بالصبر على المصائب: «ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»[15].
هذا حال المؤمن: «لأن أمشِيَ مع أخ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا»؛ (رواه الطبراني عن عبدالله بن عمر).
هم في مساجدهم، واللهُ في حوائجهم، كل إنسان يخرج من ذاته لخدمة الخلق، الله يتولى أموره الشخصية، أموره محلولة، مُيسَّرة، مريحة؛ «ومن فرَّج عن مسلم كربة...»؛ (البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر).
هناك إنسان فضَّاح، يريد قصة يدندن بها، عندما يصل إلى سمعه موضوعٌ ينشره بين الخلق وكأنه إذاعة، وهناك إنسان سِتِّير يستر، يقول لك: قصة هذه بينك وبينه، أمرٌ وأُغلق؛ هذا المؤمن: «ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر في الدنيا، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا، ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[16].
إمساك الشر عن الناس له منزلة عند الله تعالى، بل يتصدق الإنسان بمنع شرِّه عن غيره، كيف؟ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة»، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: «يعتمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق»، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوفَ»، قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يأمر بالمعروف، أو الخير»، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: «يُمْسِك عن الشر، فإنها صدقة»[17].
وفي لفظ له: «من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن مُعْسِرٍ أو يضع عنه»[18].
«من مشى بحق أخيه ليقضيَه، فله بكل خطوة صدقة»[19].
المعروف ذخيرةُ الأبد، والسعي في شؤون الناس زكاة أهل المروءات، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدمُ قصد الناس لهم في حوائجهم؛ يقول حكيم بن حزام رضي الله عنه: "ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة، إلا علمت أنها من المصائب"[20].
هناك أناس يملكون أجملَ إحساسٍ، ويقهرون الوسواس الخنَّاس، يبدؤون غيرهم بالسلام، ويُوسِعون لهم في المجالس، ويعيشون بجوارهم في سلام؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسَّع لي في المجلس، ورجل اغبرَّت قدماه في المشي إليَّ؛ إرادةَ التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله، قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمرٌ فبات ليلته يفكِّر بمن ينزله، ثم رآني أهلًا لحاجته، فأنزلها بي".
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تَرَوا أنكم قد كافأتموه».
إن الصدقات قد تقضي للمحتاجين بعضَ حاجاتهم، دون أن يطرقوا الأبواب، أو يسألوا الناس إلحافًا، وذلك له ثواب عظيم عند الرحيم الكريم سبحانه؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلةُ الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يَقِي مصارع السوء»[21].
وصُنَّاع المعروف لا يقعون إلا متكئين؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: "صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع، وُجِدَ مُتكِّئًا".
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولًا أهل المعروف»[22].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة؛ في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس»[23].
العمل الصالح هو ثمنُ الجنة التي خُلِقَ الإنسان من أجلها، خُلِقَ الإنسان لجنِّةٍ عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جنة إلى أبد الآبدين، ومن أعظم العمل الصالح وأعمال الخير قضاء حوائج الناس.
الحياة الدنيا حياة متعبة، والدنيا تغُرُّ وتضر وتَمُرُّ، والزمن ليس في صالح الإنسان في الدنيا؛ لأنه كلما امتد به العمر، ضعُفت قدرته على الاستمتاع بالحياة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
الفقر هو فقر العمل الصالح، والغِنى هو غِنى العمل الصالح، الفقر هو فقر في أعمال الخير، والغِنى هو غنى في أعمال الخير، تجد شخصًا من عامة الناس، الله عز وجل أجرى على يده أعمالًا طيبة، هذا الغنيٌّ.
يقول الإمام علي كرم الله وجهه: "الغنى والفقر بعد العَرْضِ على الله".
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
هذا شابٌّ في مقتبل العمر، عَقَد العقد على فتاة، وتأمن البيت، لكن ينقصه بعض الأثاث، والعرس مؤخَّر على شراء غرفة النوم، والأمر طال، وصار في بلبلة، وصار في مشكلات، يريد فقط عشرين ألفًا، فوجد رجلًا أعطاها له، الشاب من شدة فرحه كاد يصعق، وقع على الأرض ساجدًا، قال له: يا ربي لك الحمد.
هذا إنسان كربته كلها عشرون ألفًا.
وربما تجد من يعقد عُرْسَه بالشيراتون، يكلِّف خمسة وثمانين مليونًا، لو أنفق على كل شاب عشرين ألفًا، كم شابًّا تفرج كربته؟ أحيانًا كربة إنسان تحل بألفين.
تعين أخاك المسلم فيعينك الله، ترحمه فيرحمك، تستره فيسترك، تنفس عنه كربةً من كرب الدنيا، فينفس الله عنك كربة من كرب القيامة، تضع عنه بعض الدين، يضع عنك بعض الوزر، تفرج عن عُسْرَته، يفرج الله عن عُسْرِك يوم القيامة، وهكذا.
قال إبراهيم بن أدهم: "من لم يواسِ الناس بماله وطعامه وشرابه، فلْيُواسِهم ببسط الوجه، والخُلُق الحسن"[24].
وجاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «من سَرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه».
يقول سبحانه وتعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7].
ويقول جل وعلا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42 - 44]، {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 34 - 36].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، فذكر منهم: ورجل منع فضلَ ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك»[25].
خرج عبدالله بن المبارك مرة إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مَرَّ بالمزبلة، إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفَّته، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة.
فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حلَّت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلم وأُخِذ ماله، وقُتل، فأمر ابن المبارك بردِّ الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، فقال: عد منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مروٍ، وأعْطِها الباقي، فهذا أفضل من حجِّنا في هذا العام، ثم رجع[26].
قال أبو العتاهية:
اقضِ الحوائج ما استطعتَ *** وكن لهمِّ أخيك فـــــارج
فلَخيرُ أيام الفتــــــــــــــــى *** يومٌ قضى فيه الحوائج
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثلَ والنموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان، وفي سعيه لقضاء حوائج الناس، وبخاصة للضعفاء والأيتام والأرامل، فلقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه الكريم فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10]، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه ((أن امرأةً كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجةً، فقال: «يا أم فلان، انظري أي السكك شئتِ، حتى أقضِيَ لك حاجتكِ»، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها))[27].
قال الشاعر:
أحسِنْ إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وكُنْ على الدهر معوانًا لذي أمــل *** يرجو نَدَاك فإن الحرَّ معـــــوانُ
واشْدُد يديك بحبل الله معتصمًـا *** فإنه الركن إن خانتك أركـــــانُ
من كان للخير منَّاعًا فليس لــــــه *** على الحقيقة إخوانٌ وأخــدانُ
من جاد بالمال مَالَ الناس قاطبـةً *** إليه والمالُ للإنسان فتَّــــــــانُ
إذا أحب الله عبدًا، جعل حوائج الناس إليه، ووفقه لقضائها، فإن قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم من أعظم أعمال البر، إنها أعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين، لا تقتصر على النفع الخاص فحسب.
اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا.
اللهم وفقنا لطاعتك وعبادتك وخدمة عبادك.
[1] رواه الطبراني.
[2] أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري، ومسلم.
[4] جامع العلوم والحكم.
[5] مسلم.
[6] مسلم.
[7] ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية.
[8] البخاري ومسلم.
[9] مسلم.
[10] رواه مسلم.
[11] مسند الإمام أحمد.
[12] ذكره السيوطي "جامع الأحاديث"، وابن القيم في "أحكام أهل الذمة".
[13] الفقرة للدكتور محمد راتب النابلسي.
[14] البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر.
[15] البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر.
[16] أخرجه مسلم، والترمذي، وأبو داود عن أبي هريرة.
[17] أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري.
[18] مسلم.
[19] أخرجه أبو عبدالله المروزي.
[20] أخرجه البيهقي في الشعب.
[21] انظر: سير أعلام النبلاء.
[22] حسنه الألباني في صحيح الجامع.
[23] رواه الطبراني.
[24] مواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم للشيخ محمد الحمد.
[25] ابن حبان.
[26] البداية والنهاية، سيرة ابن هشام.
[27] رواه أحمد في مسنده.
____________________________________________________
الكاتب: خميس النقيب