العفو عند المقدرة من شيم الكرام

"العفو عند المقدرة من شيم الكرام، من شيم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالعفو والتسامح من الأخلاق الحميد"

  • التصنيفات: تزكية النفس - محاسن الأخلاق -

والعفو عند المقدرة من شيم الكرام، من شيم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فها هو نبيُّ الله يوسفُ الصديقُ عليه السلام، يعفو عن إخوته الذين حاولوا قتله، بل رموه في البئر، وفرقوا بينه وبين أبيه صغيراً وحيداً فريداً، فعفا عنهم عند القدرة على الانتقام منهم، قَالَ سبحانه وتَعَالَى عن يوسف عليه السلام أنه قال: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

 

وعفا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن قريش وأهل مكة، الذين آذوه وعذبوه وطردوه، وأخرجوه من أرضه ووطنه، فلما فتح مكة لم ينتقم منهم، ولم يعاملهم بما عاملوه به، بل عفا عنهم وأكرمهم.

 

العفو عند المقدرة، وهذه أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، علينا أن نقتبس من معانيها ونتخلق بأخلاقها وما فيها من معاني، قال سبحانه موجها الكلام للمسلمين عامة، إلى الأمة: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].

 

أيها المسلمون، {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ}، وهذا يشمل كلَّ خيرٍ قوليّ وفعليّ، ظاهرٍ وباطن، من واجبٍ ومستحب، -فكله خير- {أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ}، أي: عمّن ساءكم في أبدانِكم وأموالكم وأعراضكم، فتسمحوا عنه، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن أحسن الله إليه، فلهذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}، أي: يعفو عن زلاّتِ عباده، -مع قدرتهم على تعذيبهم- وعن ذنوبهم العظيمة، فيسدلُ عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التامِّ الصادر عن قدرته سبحانه.

 

وفي هذه الآية إرشاد إلى التفقُّه في معاني أسماء الله وصفاته، وأنّ الخلقَ والأمرَ صادرٌ عنها، وهي مقتضية له، ولهذا يعلِّل -سبحانه وتعالى- الأحكام بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية.

 

لـمّا ذكر عملَ الخيرِ والعفوَ عن المسيء رتّب على ذلك، بأنّ أحالنا على معرفة أسمائه، -[عفو قدير]،- وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص]. تفسير السعدي [ص: 212].

 

أيها المؤمنون، {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]، [لأن الجزاء من جنس العمل، فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفرَ غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحبّ، وعامل عبادَه كما يحبُّون وينفعهم؛ نالَ محبّةَ الله ومحبَّةَ عباده، واستوثق له أمره]. تفسير السعدي [ص: 868].

 

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يحلِف ويقسم؛ ألاّ ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة؛ لأنه تكلم في عرض ابنته عائشة رضي الله عنها، المبرَّأة من فوق سبع سماوات؛ لكنه يتراجع ويعفو عنه، عن ابن الخالة هذا، ويعيد النفقة عليه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: [لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ؛ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ] [وَفَقْرِهِ] -قال-: [وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ]، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: [بَلَى وَاللهِ! إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي]، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: [وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا].

 

فالْعَفْوُ وَالتَّسَامُح مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ قَالَ سبحانه وتَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

 

أيها المؤمن؛ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أي: فإذا أساء إليك مسيءٌ من الخلق، خصوصًا من له حقٌّ كبيرٌ عليك؛ كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، -إذا أساؤوا إليك- إساءةً بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه؛ فإن قطعك فَصلْهُ، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين.

 

وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة، -فما هي هذه الفائدة العظيمة؟ هي: قوله سبحانه: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، أي: كأنه قريبٌ شفيقٌ رحيم.

 

{وَمَا يُلَقَّاهَا}، أي: وما يوفَّق لهذه الخصلةِ الحميدة {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} -صبروا- نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبُّه الله، فإنَّ النفوسَ مجبولةٌ على مقابلةِ المسيء بإساءته، وعدمِ العفوِ عنه، فكيف بالإحسان؟

 

فإذا صبر الإنسان نفسَه، وامتثلَ أمر ربِّه، وعرَف جزيل الثواب، وعلِمَ أنّ مقابلتَه للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيدُ العداوةَ إلا شدة، وأنّ إحسانَه إليه، ليس بواضع قدره، بل من تواضع لله رفعه، هانَ عليه الأمر، وفعل ذلك، متلذِّذًا مستحليًا له.

 

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لكونها من خصال خواصِّ الخلق، التي ينالُ بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبرِ خصالِ مكارمِ الأخلاق. تفسير السعدي [ص: 749، 750].

 

هذه هي صفات هذه الأمة: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. [آل عمران: 134].

 

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، أي: إذا حصلَ لهم من غيرهم أذيَّةٌ توجب غيظَهم -وهو امتلاءُ قلوبهم من الحنَق، -والغيظ- الموجبِ للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية؛ بل يكظِمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

 

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، يدخل في العفوِ عن الناس؛ العفوُ عن كلِّ مَن أساء إليك بقول أو فعل، والعفوُ أبلغُ من الكَظم؛ لأنّ العفوَ تركُ المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلَّى بالأخلاق الجميلة، وتخلّى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهةً لحصولِ الشرِّ عليهم، ولِيعفوَ اللهُ عنه، ويكونُ أجره على ربّه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. تفسير السعدي [ص: 148].

 

لقد استفزّ بعضهم عمر بن الخطاب حتى همّ أن يضربه، فعندما ذُكِّر بالقرآن عفا عنه، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: [قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ]، -وهو كبير قومه- [فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ -وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ رضي الله عنه، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ؛ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا] -والكهل: الشخص الذي جاوز الثلاثين إلى الخمسين, وتم عقله وحِلمه. فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: [يَا ابْنَ أَخِي؛ هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ؟ فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيْهِ] فَقَالَ: [سَأَسْتَأذِنُ لَكَ عَلَيْهِ]، -ابن أخيه يستأذن له عليه- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [فَاسْتَأذَنَ الْحُرُّ لِعمه عُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ]، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ -عيينة: [هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ]، -أَيْ: الْكَثِير-، [وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ]، -أنت ما تعطي أحدا كثيرا، أنت تعطينا القليل، وأنت ظالم في حكمك-، [فَغَضِبَ عُمَرُ] -رضي الله عنه- [حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ] -أَيْ: يَضْرِبهُ. فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: [يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {خُذْ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا] -يقصد عمّه عيينة- [مِنْ الْجَاهِلِينَ] قَالَ: [فَوَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ رضي الله عنه وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ]..

 

{خُذْ الْعَفْوَ}، أي: خُذْ الْعَفْو مِنْ أَخْلَاق النَّاس، كَقَبُولِ أَعْذَارهمْ وَالْمُسَاهَلَة مَعَهُمْ.

{وَأمُرْ بِالْعُرْفِ}، أي: بالمعروف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، أَيْ: بالمجاملة، وحسن المعاملة، وترك المقابلة.

 

عباد الله؛ تكون بين الناس الخصومات والمشاجرات، ورفع الأصوات والكلام الذي لا يتحكم فيه الإنسان إلاّ إذا كان خارجا عن هذه الخصومات، بعض الناس يذكر هؤلاء المتخاصمين بالله، فماذا يفعلون إذا ذكرهم بالله؟ يفعلون ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ذُكِّرْتُمْ بِاللهِ فَانْتَهُوا». (صَحِيح الْجَامِع).

 

إذا ذكرتم بالله أثناء الخصومات، كواحد يقول لك: اتق الله، أو اقصروا الشر، فلا بد أن تنتهي عن اللجاج ورفع الأصوات.

 

كذلك أمثال هؤلاء الذين يلينون لمثل هذه الأقوال، ويلينون لذكر الله سبحانه وتعالى حرموا على النار لو دخلوها تحرم عليهم النار، وهذا ما وراه وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ»؟! قَالُوا: [بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!] قَالَ: «كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ، قَرِيبٍ سَهْلٍ». (صَحِيح الْجَامِع).

 

كل هين يهون أمام أخيه المؤمن، لين يلين قلبه لذكر الله ولإخوانه المسلمين، قريب يتقرب من أهل الخير ومن فعل الخير، ومن قول الخير، سهل ليس بصعب ولا بعنيد ولا بجبار، هذه من كانت فيه هذه الصفات حرم عن النار، فنسأل الله أن يحرم جلودنا جميعا على النار، اللهم آمين.

 

- يحدث بين المسلمين شجار، وخصام وشقاق، وقد يصل إلى السباب والشتائم واللعن وما شابه ذلك، والإثم واقع، لكن من سبب في هذا الإثم؟ هذا ما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ». المستبان واحد سب واحد فرد عليه، فالإثم الأول يكون على البادئ، قال النووي رحمه الله تعالى: [وَفِي هَذَا جَوَازُ الِانْتِصَارِ، -أي: ينتصر الإنسان لنفسه ممن ظلمه-، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَقَدْ تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله -سبحانه و- تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39]-أي الظلم- {هُمْ ينتصرون}.

 

وَمَعَ هَذَا الحقِّ فَالصَّبْرُ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عزم الأمور}، وللحديث... قال صلى الله عليه وسلم: «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».

 

وَاعْلَمْ -وما زال الكلام للإمام النووي رحمه الله-؛ أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ -وعلى آله وصحبه- وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ»، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَنْتَصِرَ إِلَّا بِمِثْلِ ما سبَّه، -لا يزيد على ذلك، لكن هذا السب المسموح إذا لم فيه كذب،- مالم يَكُنْ كَذِبًا أَوْ قَذْفًا أَوْ سَبًّا لِأَسْلَافِهِ، -أي الآباء والأجداد والعائلة والأسرة، فهذا لا يجوز، لا تسبه كما سبك بمثله إذا كان فيه كذب، أو كان فيه قذف واتهام للأعراض، أو سب للأسلاف والآباء، هذا لا يجوز، إذن ما هو المباح؟ قال النووي رحمه الله:- فَمِنْ صُوَرِ الْمُبَاحِ أَنْ يَنْتَصِرَ؛ -المظلوم- بِيَا ظَالِمُ، يَا أَحْمَقُ، أَوْ -يا- جَافِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَنْفَكُّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ.

 

قَالُوا: وَإِذَا انْتَصَرَ الْمَسْبُوبُ -وقال بمثل ما قال، مبتعدا عن الكذب والقذف وسب الأسلاف، هذا- اسْتَوْفَى ظُلَامَتَهُ، وَبَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْ حَقِّهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إِثْمُ الِابْتِدَاءِ أَوِ الْإِثْمُ الْمُسْتَحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: يَرْتَفِعُ عَنْهُ جَمِيعُ الْإِثْمِ بِالِانْتِصَارِ مِنْهُ، وَيَكُونُ مَعْنَى عَلَى الْبَادِئِ؛ أَيْ: عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالذَّمُّ لَا الْإِثْمُ]. شرح النووي على مسلم [16/ 141].

 

بعض الناس قد لا يجد ما يتصدق به، ولا يجد شيئا يخرجه في كلِّ الصباح، ويريد أن يتصدق، ولا يدري ماذا يفعل، فلنستمع إلى قول قتادة رحمه الله، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: [أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ؟! كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: [اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ]. أي: أنه مسامِحٌ للذين يتكلمون في عرضه. شرح سنن أبي داود للعباد.

 

يسامحهم أجمعين، من منا في هذا الزمان يفعل ذلك؟ يسامح الناس، يعلم من يتكلم في عِرضه أو لا يعلم.

 

واعلموا عباد الله! أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث رواه مسلم ثلاثة أشياء، ذكر المال وذكر العزّ وذكر الرفعة.

 

فالمال بعض الناس يظن أنه إذا تصدق من ماله نقص ماله،

وبعضهم يظن أنه إذا عفا عن غيره من إخوانه المسلمين أنه يذل.

وبعضهم يظن أنه من تواضع لله عز وجل مع إخوانه أنه يهان.

 

نفى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:

«ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ؛ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ؛ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ». وغيره. [مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَارَكُ فِيهِ -أي: في ماله- وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّاتِ، فَيَنْجَبِرُ نَقْصُ الصُّورَةِ بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهَذَا مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ وَالْعَادَةِ، -وهناك معنى آخر-؛ أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصَتْ صُورَتُهُ، -أي صورة المال، بدل ألف صارت ألف إلا خمسة وعشرين عندما أخرجنا الزكاة منها- كَانَ فِي الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ جَبْرٌ لِنَقْصِهِ، وَزِيَادَةٌ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وما زاد الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا»... أي: وَأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ -المعروف دائما عند الناس؛ أنه يعفو ويصفح عنهم- وَالصَّفْحِ، سَادَ وَعَظُمَ -مكانه ومكانته- فِي الْقُلُوبِ، وَزَادَ عِزُّهُ وَإِكْرَامُهُ،... هذا غير أَجْرِهِ فِي الْآخِرَةِ وَعِزِّهُ هُنَاكَ. وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ»، أي: يَرْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُثْبِتُ لَهُ بِتَوَاضُعِهِ فِي الْقُلُوبِ مَنْزِلَةً، وَيَرْفَعُهُ اللَّهُ عِنْدَ النَّاسِ، وَيُجِلُّ مَكَانَهُ،... وفِي الْآخِرَةِ رَفْعُهُ فِيهَا بِتَوَاضُعِهِ فِي الدُّنْيَا،... وَاَللَّهُ أَعْلَمُ] بتصرف من شرح النووي على مسلم [16 /141، 142]

 

فيا عباد الله؛ العفو عند المقدرة، وهذه يحتاجها المسلمون في الزمان عامة في بقاع الأرض، وعندنا هنا خاصة، العفو عن الآخرين. فنسأل الله أن يصلح هذه الأمة، ويجمع الشرق على الغرب، ويحدث العفو بين الشرق والغرب، حتى تستريح هذه الأمة من عنائها. فلنكن على قلب رجل واحد، النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بذلك، وحُقَّ لنا أن نصلي عليه، كما صلى عليه الله وملائكته، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. [الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد