معنى الافتقار

وأعظم الافتقار وأصدقه وأنجعه هو افتقار المرء لربه، فيتأمل ضعفه وفقره ومسكنته وحاجته وعجزه، ثم يرفع ذلك إلى ربه الغنيِّ الملك القويِّ العزيز الرزَّاق الوهَّاب

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة -

فهذه حروف في حدِّ الافتقار ومعانيه وأصله وجذره، فأقول وبالله التوفيق:

الفقر هو الحاجة، والافتقار الاحتياج، فالفقر صفة راسخة لا تزول إلا بزوال الفقر عن طريق الغنى، أما الافتقار فكأن فيه زيادة الإحساس بالفقر سواء كان فقيرًا في الأصل أم لا؛ وعلى هذا فيصح القول بأن الافتقار هو الفقر، ويصح كذلك أن نزيد بأن الافتقار متضمن للإحساس بالفقر والتوجه جهة المُغني لإزالة فقره.

 

وبتعبير آخر فالفقر قد يكون حِسّيًّا نابعًا من قرارة النفس وجوعتها لما يسد رمقها الحسي؛ كالمال والغذاء والدواء ونحو ذلك، أو معنويًّا -وهو أشدُّ- كالحاجة للأمن والسكينة والراحة والطمأنينة والغنيمة والحب، ثم إن هذا الافتقار قد يكون مكتسبًا؛ أي: إن المرء يحرِّك قلبه ضراعة وحاجة نحو سبب الغنى أيًّا كان ذلك السبب حقيقيًّا كان أو متوهَّمًا. وفي العموم فكل مخلوق هو في حقيقته فقير فقرًا مطلقًا لخالقه ومالكه وربه سبحانه وبحمده.

 

وأعظم الافتقار وأصدقه وأنجعه هو افتقار المرء لربه، فيتأمل ضعفه وفقره ومسكنته وحاجته وعجزه، ثم يرفع ذلك إلى ربه الغنيِّ الملك القويِّ العزيز الرزَّاق الوهَّاب، حينها يكون ذلك القلب المهديّ قد التوى على حبل التوفيق والإعانة والرزق والغنى في روحه وجسده ودينه ودنياه، وعلى قدر افتقاره لربه يكون توفيقه ورزقه وغناه. قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان: 30].

 

وفي أصل مادة الفقر والافتقار قال ابن فارس: «الفاء والقاف والراء أَصلٌ صحيح يدلُّ على انفراجٍ في شيء، من عضوٍ أو غير ذلك. من ذلك: الفَقَار للظَّهر، الواحدة فَقَارةٌ، سمِّيت للحُزُوز والفُصول التي بينها. والفقير: المكسور فَقَارِ الظَّهر. وقال أهل اللُّغة: منه اشتُقَّ اسمُ الفقير، وكأنه مكسورُ فَقَار الظَّهر، من ذِلَّتِهِ ومَسْكَنتِه. ومن ذلك:

فقرَتْهم الفاقرة، وهي الدَّاهية، كأنها كاسرةٌ لفَقار الظهر. وبعضُ أهلِ العلم يقولون: الفَقير: الذي له بُلْغَةٌ من عَيْشٍ. ويحتجُّ بقوله[1]:

أمَّا الفَقير الذي كانت حَلُوبَتُه  **  وَفْقَ العِيال فلم يُترَك له سَبَدُ 

 

قال: فجعل له حَلوبةً، وجعَلَها وَفْقًا لعياله؛ أي: قوتًا لا فَضْلَ فيه. وأمَّا الفقير فإنَّه مَخرَج الماءِ من القناة، وقياسُه صحيح؛ لأنَّه هُزِم في الأرض وكُسِر. وأمَّا قولهم: أفْقَرَكَ الصَّيدُ، فمعناه أنَّه أمكَنَك من فَقَارِه حتَّى ترمِيَه.

 

وسَدَّ اللهُ مَفاقِره؛ أي: أغناه وسَدَّ وجوهَ فقره، قال:

وإِنَّ الذي ساقَ الغنَى لابنِ عامرٍ  **  لَرَبِّي الذي أرجو لسدِّ مفاقرِي[2] 

 

وقال ابن منظور: «الفَقْر والفُقْر ضد الغِنى مثل الضَّعْفِ والضُّعْف[3]، وقَدْرُ ذلك أَن يكون له ما يَكْفي عيالَه، ورجل فَقِيرٌ من المال وقد فَقُرَ فهو فَقير، والجمع فُقَراءُ، والأُنْثى فَقِيرةٌ من نسوة فَقَائِر. وقال يونس: الفَقِيرُ أَحسن حالًا من المسكين. قال: وقلت لأَعرابي مرةً: أَفَقِيرٌ أَنت؟ فقال: لا والله بل مسكين، فالمسكين أَسوأُ حالًا من الفقير[4]. وقال ابن الأَعرابي: الفَقِيرُ الذي لا شيء له، قال: والمسكين مثله.

 

والفَقْر الحاجة، وفعله الافْتِقارُ، والنعت فَقِيرٌ، وفي التنزيل العزيز: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] سئل أَبو العباس عن تفسير الفَقِير والمسكين فقال: قال أَبو عمرو بن العلاء فيما يَروي عنه يونُس: الفَقِيرُ الذي له ما يَأْكل، والمسكين الذي لا شيء له. وقال الأَصمعي: المسكين أَحسن حالًا من الفَقِيرِ، قال: وكذلك قال أَحمد بن عبيد، قال أَبو بكر: وهو الصحيح عندنا؛ لأَن الله تعالى سَمَّى من له الفُلْك مسكينًا فقال: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾ [الكهف: 79]، وهي تساوي جُمْلة، قال: والذي احتج به يونس من أَنه قال لأَعرابي: أَفَقيرٌ أَنت؟ فقال: لا والله بل مسكين. يجوز أَن يكون أَراد لا والله بل أنا أَحسن حالًا من الفقير.

 

وقيل: الفَقِيرُ الذي لا شيء له، والمسكين الذي له بعض ما يَكْفِيه. وإِليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، وقيل فيهما بالعكس، وإِليه ذهب أَبو حنيفة رحمه الله تعالى.

 

قال الأَزهري: الفَقِيرُ أَشد حالًا عند الشافعي رحمه الله تعالى، وقال ابن عرفة: الفَقِيرُ عند العرب المحتاج، قال الله تعالى: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]؛ أَي: المحتاجون إِليه.

 

والمُفَقَّر من السيوف الذي فيه حُزُوز، يقال: سيف مُفَقَّر، وكلُّ شيء حُزَّ أَو أُثِّرَ فيه فقد فُقِّرَ، وكان اسم سيف النبي صلى الله عليه وسلم ذا الفَقَارِ، شبهوا تلك الحزوز بالفَقارِ، قال أَبو العباس: سمي سيف النبي صلى الله عليه وسلم ذا الفَقار؛ لأَنه كانت فيه حُفَرٌ صِغار حِسانٌ ويُقال للحُفْرة فُقْرة وجمعها فُقَر[5].

 

وقال الجوهري: الفَقِيرُ حفير يحفر حول الفَسِيلة إِذا غرست، وفَقِيرُ النخلة حفيرة تحفر للفسيلة إِذا حوّلت لتغرس فيها، وفي الحديث قال لسلمان:  «اذهب ففَقّر الفسيل»[6]؛ أَي: احْفِرْ لها موضعًا تُغْرَسُ فيه، واسم تلك الحفرة فُقْرَةٌ وفَقِيرٌ. والبئر العتيقة فَقِير وجمعها فُقُر، وفي حديث عبدالله بن أنيس رضي الله عنه: «ثم جمعنا المفاتيح فتركناها في فَقِيرٍ من فُقُر خيبر»؛ أَي: بئر من آبارها[7].

 

قلت: والفقير أشد حاجة من المسكين؛ ولهذا ابتدأ الله به في آية مصارف الزكاة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] بل وتقديمه على المسكين مضطرد في التنزيل، وهذا دالٌّ على شدة عوز المُقدّم على غيره.

 

وفي المحيط: «الفَقْرُ: الحاجَةُ، وفِعْلُها الافْتِقَارُ، والفُقْرُ لُغَةٌ رَدِيئةٌ.

 

وأغْنى اللّهُ مَفاقِرَه؛ أي: وُجُوهَ فَقْرِه. وقيل في قَوْله: رَأيْتُ اليَتَامى لا تُسَدُّ فُقُوْرُهُمْ؛ أي: مَفَاقِرُهم وجُوْعُهم»[8].

 

وفي التهذيب: «أخبرني المنذري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي أنه أنشده للبيد:

لما رأى لُبَدُ النُّسُورَ تطايرتْ  **  رَفَعَ القوادمَ كالفَقير الأعزَلِ 

 

وقال: الفقير المكسور الفقار، يضرب مثلًا لكل ضعيف لا ينفذ في الأمور»[9].

 

قلت: فعاد الفقر للحاجة للغير على أي وجه كان.

 

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسان.

 


[1] أي: بقول الراعي النميري.

[2] معجم مقاييس اللغة لابن فارس (4/ 443 - 444).

[3] ولعاصم قراءتان صحيحتان في آية سورة الروم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54]، وهما بفتح الضاد وضمِّها في المواضع الثلاثة من الآية الكريمة.

[4] والمشهور عند جمهور الفقهاء أن الفقير هو الذي لا يجد شيئًا، أما المسكين فهو الذي يجد شيئًا لكنه دون كفايته ومن يعول.

[5] وجمع فَقرة -إذا فتحنا الفاء وهو استعمال صحيح-: فَقْرات، وفَقَرات، وفِقَر، وفَقَار.

[6] بنحوه في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (1/ 108).

[7] لسان العرب (5/ 60).

[8] المحيط في اللغة (1/ 473).

[9] تهذيب اللغة (3/ 213).

_________________________________________________
الكاتب: إبراهيم الدميجي