ضرورة العبد للافتقار لربه تعالى
وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له، وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم...
- التصنيفات: التوحيد وأنواعه - الأسماء والصفات -
الحمد لله وحده، أما بعد:
فلو تأملت العبادات كافَّةً قلبيَّها وعمليَّها لعلمت أن الافتقار إلى الله تعالى هو الوصف الجامع لها الذي لا ينفك عنها، وبقدر تمكُّن الافتقار من القلب تكون ثمرته ونتيجته ونفعه في الدارين، وحسبك أن تتأمَّل الصلاة وما فيها من معاني الافتقار للغني الوهَّاب الرحيم المنان، وكما أسلفنا فليست العبادات فقط؛ بل كل أحوال المرء وحركاته وسكناته لا تخلو من اضطرار حقيقي ملازم افتقارًا للواحد الأحد سبحانه وبحمده؛ قال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، والفقر المذكور هنا هو الفقر الذاتي في الناس إلى الله تعالى، يستوي فيه الغني منهم لكثرة العرض، مع الفقير لقلة العرض.
قال السمرقندي رحمه الله: «أنتم الفقراء إلى الله في رزقه ومغفرته {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] الغني عن عبادتكم، الحميد في فعاله وسلطانه، وهذا كما قال في آية أخرى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]؛ لأن كل واحد يحتاج إليه؛ لأن أحدًا لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان، والأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الإمارة، وكذلك التاجر يحتاج إلى المكارين، والله عز وجل غني عن الأعوان وغيره» [1].
وقال الغزالي رحمه الله: «اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه، أمَّا فقد ما لا حاجة إليه فلا يُسمَّى فقرًا، وإن كان المحتاج إليه موجودًا مقدورًا عليه لم يكن المحتاج فقيرًا.
وإذا فهمت هذا لم تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير؛ لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني الحال، ودوام وجوده مستفاد من فضل الله تعالى وجوده، فإن كان في الوجود موجود ليس وجوده مستفادًا له من غيره فهو الغني المطلق، ولا يُتصوَّر أن يكون مثل هذا الموجود إلا واحدًا، فليس في الوجود إلا غنيٌّ واحد، وكل ما عداه فإنهم محتاجون إليه ليمدوا وجودهم بالدوام، وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، هذا معنى الفقر مطلقًا»[2].
وقال عبدالحق الأندلسي رحمه الله: «الإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها، لا يستغني عنه طرفة عين، وهو به مستغنٍ عن كل واحد، والله تعالى غني عن الناس، وعن كل شيء من مخلوقاته غني على الإطلاق»[3].
وهذا المعنى يزيده بسطًا ابن تيمية زمانه العلَّامة ابن سعدي رحمه الله فيقول: «يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدُّوا لأي عمل كان.
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.
فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم وتفريجه لكرباتهم وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية وأجناس التدبير، فقراء إليه في تألههم له وحبهم له، وتعبدهم وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعلمهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه لم يتعلموا ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه بكل معنى، وبكل اعتبار سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا؛ ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله ألا يَكِله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا حريٌّ بالإعانة التامة من ربِّه وإلهه، الذي هو أرحم من الوالدة بولدها.
والله هو الغني الحميد؛ أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته وكونها كلها صفات كمال ونعوت جلال، ومن غناه تعالى أنه قد أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، فهو الحميد في ذاته، وأسمائه، وأنها حسنى، وأوصافه لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه فهو الحميد على ما فيه من الصفات، وعلى ما منه من الفضل والإنعام وعلى الجزاء بالعدل، وهو الحميد في غناه الغني في حمده»[4].
ومنزلة الفقر من منازل العبادة لله سبحانه التي يدور فيها المسلم بين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فسلوني الهدى أهدِكُم، وكلُّكُم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أرزقْكم، وكلّكم مذنب إلا من عافيتُ، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرتُ له ولا أبالي، ولو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وحيَّكم وميتَكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي[5]، ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة، ولو أن أوَّلكم وآخركم وحيَّكم وميتَكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي[6]، ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة، ولو أنَّ أوَّلكم وآخركم وحيَّكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كلُّ إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيتُ كلَّ سائل منكم ما سأل، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مَرَّ بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه؛ ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام[7] وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون»[8].
فلنتأمل- يا أخي- غِنى ربنا عنَّا وعن عبادتنا مهما بلغت كمًّا وكيفًا وصدقًا وإخلاصًا وإحسانًا، فنحن المحتاجون المفتقرون لتلك العبادات التي لا غنى لأرواحنا عنها، فهي غذاؤها وأنسها وغناها، وكفاها شرفًا وفضلًا أنِ ارتضاها الله تعالى لنا قرابين إليه، ووسائل لمرضاته، وسبلًا لمحبته، فله الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، له الحمد كله، سبحانه لا نُحصي ثناءً عليه.
وفقر القلب: خلوُّه من دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وبُعْده عن مشاهدة فاقته التامة إلى الله تعالى من كل وجه[9].
وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع، فيرضى بقضائه ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرَّائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تعالى[10].
وهذا المعنى يرجع إلى الفقر الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله في سورة فاطر: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]، وهي مكية.
وأما المسكنة التي سألها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي تعود إلى حالين:
الأولى: المسكنة التي يرجع معناها إلى الإخبات والتواضع، فكأنه سأل الله تعالى ألَّا يجعله من الجبَّارين المتكبرين، وألَّا يحشر في زمرة الأغنياء المترفين، كما قال البيهقي رحمه الله.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في كلام له على حديث: «اللهم أحيني مسكينًا»[11] «فالمساكين ضد المتكبِّرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض، سواء كانوا أغنياء أو فقراء.
ومن هذا الباب أن الله خيَّره بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًّا ملكًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرَّف بأمر سيده، لا لأجل حظِّه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا، كما قال لسليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]، ففي هذه الأحاديث أنه اختار العبودية والتواضع»[12].
الثانية: المسكنة التي ترجع إلى حالة الكفاف، وهي حالة سليمة من الغنى المُطْغِي، والفقر المؤلم، وصاحبها معدود في الفقراء؛ لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة[13].
قال الغزالي رحمه الله: «فقر المضطر هو الذي استعاذ منه، والفقر الذي هو الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله تعالى هو الذي سأله في دعائه»[14] «وفقر المضطر هو أن يكون ما فقده من المال مضطرًّا إليه؛ كالجائع الفاقد للخبز، والعاري الفاقد للثوب»[15].
قال ابن حجر رحمه الله: «إن قيل: ما وجه استعاذته من الفقر؟ فالجواب: إن الذي استعاذ منه وكرهه فقر القلب، والذي اختاره وارتضاه طرح المال»[16]، وقال ابن عبدالبر: «الذي استعاذ منه هو الذي لا يُدرك معه القوت والكفاف، ولا يستقر معه في النفس غنى؛ لأن الغنى عنده غنى النفس، وقد قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]، ولم يكن غناه أكثر من ادِّخاره قوت سنة لنفسه وعياله، وكان الغنى محله في قلبه ثقة بربه، وكان يستعيذ بالله من فقر منسي، وغنى مطغي[17]، وفيه دليل على أن للغِنَى والفقر طرفين مذمومين، وبهذا تجتمع الأخبار في هذا المعنى»[18].
فالفقر الحقيقي هو فقر القلب وليس فقر العَرَض، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى»؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال: «فترى قلة المال هو الفقر»؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال: «إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب»[19].
«وفقر القلب: خلوُّه من دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وبُعْده عن مشاهدة فاقته التامة إلى الله تعالى من كل وجه»[20].
وتدبَّر- رعاك الله- تملُّق الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لربه تعالى، واستكانته وانكساره وانطراحه وافتقاره إليه في هذه النجوى النبوية لرب العالمين؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»[21]، وفي شفاء العليل: «وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له، وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحبَّ شيء إليه، فيكون أحبَّ إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم، وفقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء، فإنه إن لم يعافِهِ منها هلك ببعضها، وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له، فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة، فما نجا أحد إلا بعفو الله، ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.
وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يُتاب منه فيراه نقصًا، ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة، وأن العبد بعد التوبة النصوح خيرٌ منه قبل الذنب، ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده، وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر، وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله، كما كانت هي غايته وكماله، فليس للعبد كمال بدون التوبة البتة، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها، فإنه سبحانه هو المُتفرِّد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار، والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار، فرحمته للعبد خيرٌ له من عمله، فإنَّ عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته، ولو وُكل إلى عمله لم ينجُ به البتة.
وهذا بعض ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم»[22] ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحقٌّ عليهم بجهة ربوبيته لهم، وكونهم عبيده ومماليكه، وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويُعظِّموه ويُوحِّدوه ويتقرَّبوا إليه تقرُّب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه، ولا غناء به عنه طرفة عين، فهو يدأب في التقرُّب إليه بجهده، ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته، ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء، ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه، بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه، وهذا يستلزم علومًا وأعمالًا وإرادات وعزائم لا يعارضها غيرها، ولا يبقى له معها التفات إلى غيره بوجه.
ومعلوم أن ما طُبِع عليه البشر لا يفي بذلك، وما يستحقه الرب تعالى لذاته، وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه، فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه.
وفي بعض الآثار: «لو لم أخلق جنةً ولا نارًا لكنت أهلًا أن أُعبَدَ» ولهذا يقول أعبدُ خلقه له يوم القيامة [23] وهم الملائكة: «سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك»[24].
فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه، فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه، فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه، وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم، فلو عذَّبَهم لعَذَّبَهم بما يعلمه منهم، وأن لم يحيطوا به علمًا، ولو عَذَّبَهم قبل أن يرسل رُسُلَه إليهم على أعمالهم لم يكن ظالمًا لهم، كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم، فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم[25] عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب[26].
ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.
وسرُّ المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه، ولا يقوم بذلك أحد، كان حقُّه سبحانه على كل أحد، وله المطالبة به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلَّا عَذَّبَه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وأن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا، ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وهذا شأن ولده من بعده، وقد قال موسى كليمه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]، وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، وقال: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155]، وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40، 41]، وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وقال أول رسله إلى أهل الأرض: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106] وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1، 2].
وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى الله عليه وسلم: «رب أعني ولا تعِن عليَّ» وفيه: «رب تقبل توبتي واغسل حوبتي» الحديث[27]، وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر[28] داود أنه استغفر ربه راكعًا وأناب، وقال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25]، وقال عن نبيِّه سليمان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 34، 35]، وقال عن نبيِّه يونس: (فنادى في الظلمات لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
وقال صِدِّيق الأمة وخيرها وأبَرُّها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله، علِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»[29].
فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها، ثم ثنى بالإخبار عن ظلمه لنفسه، ثم وصف ذلك الظلم بكونه ظلمًا كثيرًا، ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده؛ أي: لا يبلغها علمه ولا سعيه؛ بل هي محض مِنَّته وإحسانه وأكبر من عمله، فإذا كان هذا شأن مَن وزن بالأمة فرجح بهم فكيف بمن دونه؟!»[30].
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسان.
[1] تفسير السمرقندي (3/ 84).
[2] إحياء علوم الدين (4/ 190).
[3] المحرر الوجيز (4/ 434-435).
[4] تيسير الكريم الرحمن (6/ 309-311).
[5] وهو نبينا صلى الله عليه وسلم وبارك.
[6] وهو إبليس الرجيم أعاذنا الله منه.
[7] فبكلمة (كُن) يخلق ما يشاء وهو الخلَّاق العليم القدير الحكيم.
[8] الترمذي (2495)، وأحمد (21367)، وصحَّحه محققو المسند.
[9] انظر مدارج السالكين (2/ 440).
[10] من كلام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (11/ 273).
[11] سنن الترمذي (4/ 577) (2352) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة»، فقالت عائشة: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، يا عائشة، لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة، أحبي المساكين وقرِّبيهم، فإن الله يُقرِّبك يوم القيامة» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وصححه الألباني في الإرواء، وخرجه البيهقي في الشعب (10025)، والأكثرون على تضعيفه، قال ابن تيمية عنه: «هذا يُروى لكنه ضعيف لا يثبت، ومعناه: أحيني خاشعًا متواضعًا، ولكن اللفظ لم يثبت»؛ الفتاوى (18/ 357) وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 142).
[12] مجموع الفتاوى (11/ 130-131).
[13] انظر فتح الباري (11/ 274-275).
[14] إحياء علوم الدين (4/ 193).
[15] إحياء علوم الدين (4/ 191).
[16] انظر: الفتح (11/ 276).
[17] أخرج الترمذي وحسنه واستغربه (2306) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفنَّدًا، أو موتًا مجْهزًا، أو الدجَّال؛ فشرُّ غائب يُنتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمر».
[18] التلخيص الحبير (3/ 123)، أحكام الفقير والمسكين، د. محمد بن عمر بازمول (1/ 49، 225 - 230) باختصار وتصرُّف.
[19] حديث صحيح، أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان: 2/ 461، 685) وغيره.
[20] انظر مدارج السالكين (2/ 440) عن السابق (1/ 230)، وقد مَرَّ قريبًا.
[21] البخاري (8/ 105) (6399) ومسلم (8/ 80) (2719) (70).
[22] كما في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي خرَّجه أحمد وغيره (35/ 465) (21589) بسنده عن ابن الديلمي قال: «لقيت أُبَيَّ بن كعب فقلت: يا أبا المنذر، إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعله يذهب من قلبي، قال: «لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ولو أنفقت جبل أُحُد ذهبًا في سبيل الله عز وجل ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لدخلت النار، قال: فأتيت حذيفة فقال لي مثل ذلك»، وأتيت ابن مسعود فقال لي مثل ذلك، وأتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وحديث زيد بن ثابت مرفوع، والبقية لها حكم الرفع، وهو مُخرَّج كذلك في سنن ابن ماجه (1/ 29) (77) وصححه الألباني.
[23] أي: بعد الرسل والأنبياء، فهم أعبد بلا تردُّد، وقد تقلَّبُوا في رياض العبودية بشتى صورها ومراتبها، وجاهدوا وصبروا وأوذوا في سبيل الله، ودعوا الناس لتوحيد ربهم والإيمان به، إلى غير ذلك من مقامات العبودية التي لم يلحقهم فيها ملك، فمن حيث الكيفية والأفضلية فعبادة المرسلين أفضل من جهة المجاهدة، أما من حيث الكم فالملائكة أطول عمرًا، وقد قال الله فيهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
[24] روى البيهقي في شعب الإيمان (1/ 325) بسنده عن عبدالله بن عمر أن عمر بن الخطاب جاء والصلاة قائمة، فذكر قصة امتناع أبي جحش الليثي عن الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلمَّ يا عمر، اجلس حتى أُحدِّثك بغنى الرب تبارك وتعالى عن صلاة أبي جحش، إن لله في سمائه ملائكة خشوعًا لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة رفعوا رؤوسهم قالوا: ربنا ما عبدناك حق عبادتك، وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودًا لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة رفعوا رؤوسهم، ثم قالوا: ربنا ما عبدناك حق عبادتك» قال البيهقي رحمه الله تعالى: «قد أخرجته بطوله في مناقب عمر رضي الله عنه» وضعَّفه الألباني في السلسلة (4982).
[25] المقت: غاية الكره، وفي التنزيل: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3].
[26] يعني الحديث المتفق عليه، ولفظ مسلم (4/ 2197) بطوله من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشًا، فقلت: رب، إذًا يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرِجْهم كما استخرجوك، واغْزُهم نُغْزِكَ، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك.
قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال.
قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعًا لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب والشِّنْظِير الفحاش» وفي رواية: «وإن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد»، وقال في حديثه: «وهم فيكم تبعًا لا يبغون أهلًا ولا مالًا» فقلت: وكيف يكون ذلك يا أبا عبدالله؟ قال: نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم فيطؤها.
[27] روى ابن ماجه في سننه بسند صحيح عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «رب أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مطيعًا، إليك مخبتًا، إليك أوَّاهًا منيبًا، رب تقبَّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وسدِّد لساني، وثبت حجَّتي، واسلل سخيمة قلبي» وأخرجه أبو داود (1501) و(1511)، والترمذي (3865) و(3866)، والنسائي في الكبرى (10368) وهو في مسند أحمد (1997).
[28] أي: من أعبدهم، إشارة لحديث أبي محمد عبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- قال: أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومنَّ النهار، ولأقومنَّ الليل ما عشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: «فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر»، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومين» قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود صلى الله عليه وسلم، وهو أعدل الصيام»، وفي رواية: «هو أفضل الصيام» فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أفضل من ذلك» ولَأَن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أهلي ومالي»؛ أخرجه البخاري 2/ 63 (1131) ومسلم 3/ 162 (1159) وفي رواية: «إن أحبَّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا».
[29] البخاري (7378) مسلم (2705).
[30] شفاء العليل لابن قيم الجوزية (1/ 118 - 122).
__________________________________________________________
الكاتب: إبراهيم الدميجي