الإسلاميون وحرب الأكاذيب..
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
ما إنْ شعر الإسلاميون أنَّ التهميش المتعمد عبْر عشرات السنين قد آذن بالانتهاء وتنسَّموا الشعور بالحريةِ واستبشروا بمستقبلٍ مزدهر للدعوة، وإحياء مشروعاتِ الأمَّة المؤجَّلة منذُ عقود حتى دارتِ العجلة فجأةً للوراء.. وألفينا مؤامرات العلمانيِّين وأكاذيب الإعلام تنفجر في وجوهنا، كأنَّ ثورةً لم تقمْ في التحرير، وكأنَّ الشعب لم يدركْ أنَّ له حقوقًا سُلبتْ منه في غفلته..! والحقيقة أنَّ ما تشهده البلاد منذُ انتهى الاستفتاء وبدَا للناس أنَّ الشعب يثِق (بالإسلاميِّين) حتى رأينا ما يبلغ مِن تتابع الأحداث وغرابتها أكبر ممَّا بلغتْه الأفلام الهندية في ضرْب المثل على غياب العقول..
فقد حسبوا على الإسلاميِّين بضعةَ أخطاء، ووزَّعوها بالسوية بينهم لينفروا مِن كل فصيل، ويُعمِّموا التهمة على كلِّ ما هو إسلامي، وربَّما كان على الإسلاميِّين أن يتحسَّبوا لهذا العداء المؤصَّل في مجتمعاتنا -وكثيرٌ منه مدفوع الثمن- فلا يظهروا قوتَهم قبل الموقف الفاصِل، لكننا حسبنا أنَّ التربص قد زال، وأنَّ النفوس قد صفيت وأخلصت لما فيه صالِح الوطن، وقد أكَّدتِ الأحداث أنَّنا لا نزال على سجايانا من (الطيبة وحُسن الظن المفرِط بالناس) وليس غريبًا أن تنتشر الأكاذيبُ وتستقرَّ في عقول كثيرين كأنَّها الحقيقة في زمن التعتيم وقبل عولمة الإعلام، لكن اليوم يسهُل أن تَتتبَّع أخبارًا وحقائق وتكشف الزيف، وقد تعلمتُ منذُ زمن بعيد أن أتأمَّل أي مشهد مِن زاويتيه، ولك أن تنظر إلى الحدَث من ثلاث زوايا مختلفة وربما أربع بحسب اتِّساع وعُمق الصورة..
وفي البداية تعالوا بنا نرصُد: كيف يمكن أن تَخلُق أنصاف الحقائق أكاذيبَ متقنة؟!
فقد حكَتْ كُتب السنة أنَّه جاء رجلٌ يحجُّ البيت ممَّن تأثروا بالحملة على أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- فرأى قومًا جلوسًا فقال: "مَن هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قُريش. قال: مَن الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إنِّي سائلك عن شيءٍ.. أَتُحدِّثني؟ قال: أنشدك بحرمةِ هذا البيت. أتعلم أنَّ عثمان بن عفَّان فرَّ يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتَعْلَمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدْها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنَّه تخلَّف عن بيعةِ الرضوان فلم يشهدْها؟ قال: نعم. قال: فكبَّر" هكذا استمع لأنصاف الحقائقِ وهمَّ أن يمضي بها إلى قومِه فيَزيدهم ضلالاً ويُرسِّخ ما عندهم مِن مضلّات، لكن ابن عمر أدرك سِرَّ الأسئلة وأحبَّ أن يُتمَّ له الصورة -وليس في الناس اليوم مِثل ابن عمر- قال ابن عمر: "تعالَ لأخبرك ولأبيِّن لك عمَّا سألتني عنه: أمَّا فراره يوم أحد: فأشهد أنَّ الله عفَا عنه. وأما تغيُّبه عن بدر: فإنَّه كان تحته بنت رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكانت مريضة فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ لك أجْرَ رجل ممَّن شهد بدرًا وسهمه» وأما تغيبه عن بيعةِ الرضوان فإنَّه: لو كان أحدٌ أعز ببطن مكَّةَ مِن عثمان بن عفان لبعَثَه مكانه، فبعَث عثمان وكانتْ بيعة الرضـوان بعدَمـا ذهب عثمان إلـى مكة. فقـال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بيده: «هذه يدُ عثمان، فضرَب بها على يدِه، فقال: هذه لعثمان» ثم قال للرجل: «اذهبْ بهذا الآن معك».
فإن أراد أن يحكي فليحكِ كلَّ الحقائق لا بعضها، وبالمثل إنْ نَسبتَ للإسلاميِّين حدَثًا ما فلا يصح أن تبترَه من سياقه وملابساته، وقد حكَى التاريخ كيف جرَتِ الأحداث بأمير المؤمنين الحيي ذي النورين بين تمسُّكه بحقِّه وصرْفه للأنصار والمدافعين، وتلاعب المغرِضين بالحقائق وتثويرهم للبسطاء على الخليفة الراشِد حتى قُتِل -رضي الله عنه- ولا يزال التاريخُ إلى اليوم يحكي ويكشِف تفاصيلَ المؤامرة عليه -رضي الله عنه- لكنَّني أزعم أنَّ النهاياتِ ستختلف كثيرًا مع الحضور الإسلامي الراهن، وأنَّ الأكاذيب وإنِ انطلقت مِن منابر رسميَّة وفضائيات مستأجرة لهذا الغرَض ستجد ما يُفنِّدها في العقول، ويُعيد للإسلاميِّين ثقةَ الناس بهم.
لكنَّني أضع على الإسلاميِّين عبءَ (إيقاظ الناس) الذين لا يَنبغي لهم أن يظلُّوا على غفلتهم بعدَما تكشَّف لهم من كيْد الإعلام منذُ حرب: (يونيو 1967م) والنصر المزيَّف على إسرائيل، وحتى أيَّام ثورة: (25 يناير) الأخيرة وما كان فيها مِن حكايات مفبركة مكذوبة مثل قِصة: (وجبات كنتاكي التي كانت توزَّع على الثوَّار في ميدان التحرير، والبلطجية الذين زعَموا أنَّهم يهاجمون الأحياء البعيدة وبيوت الثوَّار) أو (اعترافات الفتاة التي زعمتْ أنها من شباب الثورة وأنها تلقت تدريبًا على يدِ أمريكيِّين وإسرائيليِّين في قطر إلخ...) فلو افترضْنا أنَّ خبرًا ورد بأنَّ: السلفيِّين سيخطفون كلَّ فتاة قبطية متبرجة، ألا يستلزم هذا الخبر أن نتساءل: كم رجلاً يمكنهم تنفيذ هذا الهجوم في شارع واحِد من شوارع القاهرة؟! ولو قلنا: إنَّ السلفيِّين سيهاجمون أضرحةَ الحسين والسيدة زينب -رضي الله عنهما- مع وجودِ آلاف المتصوِّفة الذين تراهم طوال ساعات اليوم هناك، أفلا نستمر في التفكير في العددِ اللازم لهذا الهجوم؟!
ألاَ يكفي هذا الفرضُ البدهي لتفنيدِ الترَّهات التي رَوَّج لها عن عمد مُتهمون كشفتِ الأيام أسماءَهم وأهدافَهم، فكتبت بوابة الوفد: عن تآمُر (صحيفة قومية شهيرة، وسفارة أجنبية ورجل أعمال قِبطي يمتلك صحفًا وقنواتٍ فضائيةً) والذي جاءه العقاب من جِنس العمل (عن مؤتمريه في الأقصر وأسوان) أتحدَّث حيث وجد مَن يهاجمه ويفضحه على رؤوس الأشهاد..
والأسوأ أن ترى من الإسلاميِّين مَن يُدين ويشجب ما نُسِب للسلفيين من قَبل أن يتبيَّن الحقيقة، فالهلباوي الذي اختصَّه المروِّجون للكذب بدعاية رخيصة بشأن إبداء الإعجابِ (بالثورة الإيرانية) جاء إلى مصر بعد غياب 23سَنة -كما قيل- ليندد بفتاوى السلفيَّة التي تُسبِّب لنا الأزمات، دون أن يتبيَّن أنها حربٌ على الجميع، فقد كانتْ زيارته لإيران وإشادته بثورتها سببًا في اتهام الإخوان بأنَّهم سيجعلون في مصر خوميني آخر..
وقد تبيَّن أنَّ سيف الاتهام العلماني والإعلامي مُصلتٌ على الجميع: على السلفيِّين بحكاية: (حدِّ قطع الأذن، وهدْم الأضرحة) والإخوان: بزيارة (كمال الهلباوي لإيران وتصريحاته بشأن إيران والثورة والجماعة الإسلاميَّة) والجهاد: بتصريحات (الشيخ عبُّود الزمر عن جزية النصارى، واغتيال السادات) وكأنَّ المفروض على الإسلاميِّين أن يتركوا قبطيًّا يستعمل 25 بنتًا مسلمة في بيتي دعارة يُديرهما بنفسه، لأنَّ قطع الأذن جريمة يندَى لها جبين البشرية -كما قالت كبيرة مروِّجي الكذب في الصحافة المصرية- واستعمال قبطي لمسلِمات في الدعارة تكريسٌ للوحدة الوطنية..! والذين قطعوا أذنَ النصراني 22 رجلاً مِن قنا منهم واحد فقط مُلتحٍ، وهدم الأضرحة لم يثبتْ على أحد وأخلَتِ النيابةُ سبيلَ اثنين، قيل: (إنَّه مشتبه فيهما أحدهما سائق، والآخر على المعاش أي: تجاوز الستِّين) ولو أراد أحدٌ أن يهدِم الأضرحة لاختار الشباب ولم يثبتْ مِن أي منشور، أو موقع إلكتروني أو خطبة خطيب، أو أي قرينة أنَّ هذا توجُّهٌ للسلفيِّين..
لكن مَن اختار ترويج هذه الفرية يتمتَّع بقدرٍ هائل مِن المَكْر والخُبث، فهو يعلم أنَّ الإسلاميِّين جميعًا لا يلوذون بالأضرحة، ويقولون فيها: بحديث الرسولِ فيروج الاتهام مِن منطلق أنك لا بدَّ ستقول بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (كذا وأمَر بكذا) فيقال: أرأيتم؟ إنَّهم يهدمون المقابر، ولو قلت: لا يجوز هدمُ الأضرحة مثل كثيرين مِن علماء الأزهر وعلى رأسهم المفتي وشيخ الأزهر لخالفتَ المسنونَ والمدوَّن في كتب الحديث...!
لكن هدْم الأضرحة -مهما كان حُكمه- لم يقلْ به ولم يفعله أحدٌ من الإسلاميِّين لأسباب أخرى.. فهو تلفيقٌ رخيص وربَّما كان في وسع المشهرين بالهلباوي أن يزوروا إيران أيًّا ما كان سبب الزيارة ليَلْعَنوا الرافضة وليذموا التشيع، ويحقروا مِن إنجاز ثورة الخوميني في إيران (أنظمتهم العلمانية قبلَ قليل: تمالأتْ على إغلاق قنوات كانتْ متخصِّصة في انتقاد المذهبِ الشيعي، وخالفت بنودَ العقد في النايل سات) ولعلَّهم يريدون مِن رجلٍ مثل عبود الزمر أن يقول لهم: إنَّ الله لم يشرع على الأقباط جزية أو إنها تشريع منسوخ -حاشا لله-.
ولعلَّهم يريدون حجرَ علماء المسلمين عنِ استعمال حقٍّ يتيحونه لقضاةٍ لم يبلغوا معشارَ ما لدَى العلماء مِن فقه بالدِّين والحياة معًا، فقد سمعتُ: سخرية الأديب المتبحِّر في فنون اللواط الخبير بمصطلحاتهم (علاء الأسواني) مِن قول الشيخ عبود الزمر بأنَّ: اغتيال السادات كان بناءً على (فتوى) فراح يسخر مِن حقِّ العالِم في هذا الإفتاء مع أنَّه قارن بين العالِم والقاضي في هذا الحقِّ، ومصر شهدت قضاةً سفاحين كثيرين ومنهم جاهل عُرِف عنه: (تعاطي الخمور) كان يحكُم على الشباب المسلِم بالإعدام بلا أدلَّة، وقد فضحَه الله في آخر حياته.. فكيف تُحجِّر على عالِمٍ مِثل (الدكتور. عمر عبد الرحمن) ما تُبيحه لقاضٍ سكِّير اسمه صلاح بدور؟! ثم إنَّ تاريخ عبود الزمر يقول: إنَّه لم يشتركْ ولم يوافقْ على اغتيال (السادات) ولكنه حُوكم على اشتراكِه في التنظيم فقط، والتاريخ يشهد أنَّ السادات قُضِي عليه بالسجن عامين في اغتيالِ وزير يُدعى: (أمين عثمان) مِن أيام الملِك فاروق فإن قيل: عن عبود الزمر إنَّه قاتل، فالسادات أيضًا كان قاتلاً.
لكنَّني لا أُريد للإسلاميِّين أن ينزعجوا من هذه الحربِ، فهو أسلوبٌ قديم من أساليب حربهم القذِرة على الإسلام، بل لا أجاوز الحقيقة لو قلت: إنَّه الأسلوب المفضَّل لكلِّ باطل واجه حقَّ الإسلام منذُ بعثة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وحتى قيام الساعة، فكما قيل عنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (كاذب وساحر، وشاعر ومجنون) وقيل عن أهله ما قيل مِن الإفك، سيُقال عن كلِّ ناصع ثوب مِن دعاة الإسلام طالما وَجَدوا منهم خطرًا على عروش زَيفهم، ولكن كل ما علينا التحرُّز منه هو: التصريحُ للإعلام أو في المؤتمرات بما يُسهِّل عليهم التشهير بالإسلاميِّين، فهم خبراء في (القصِّ واللصْق) يستطيعون قلْبَ الحقائق واجتزاء النصِّ، وتسريب الكذبة مِن خلال سؤال يبدو بريئًا، كأن يسألَ عن: حُكم تغيير المنكَر مثلاً فيحولها لمشروع الإسلاميِّين لإقامة هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر.
كما أنَّهم مُطالَبون: بالتعاون فيما يُحقِّق مصالح الدِّين، ودراسة كل ما يتعلَّق بأنشطة الدعوةِ في الوقت الراهن في مصر، أو بالأحرى التنسيق بيْن فصائل الإسلاميِّين بشأن الخطاب الإعلامي والحذر أكثر في إبرازِ القوَّة، والتفاف الجماهير حولهم بالصورة التي رعبت العلمانيِّين، لا سيَّما في: (مؤتمرات الأقاليم) فلا نعجل بها ولا نُكثر منها، كما أُطالبهم بالحِرْص على كسبِ ثِقة المجلس العسكري، حتى لا ينجح العلمانيُّون في استعدائِه على الإسلاميِّين، وأخشى أن يكونوا قد حقَّقوا بعضَ النجاح.. فالمجلس العسكري بدأ يتَّخذ من الخطوات ما يتجاوب مع كيْدِ العلمانيِّين، وقد صدر قرار بمنع غير الأزهريِّين من الخطابة في المساجد على هدي النظام السابق..
وقبله صدر تصريحٌ: بأنَّ الجيش لن يسمح لخوميني آخَر بأن يحكُم مصر، ورغم أنَّ السُّنة ليس فيها (خوميني الشيعة) لكنَّه افتئات على خيار الشعب، لأنَّه قرن الخوميني بحماس، وحماس أتتْ بثقة الفلسطينيِّين وفي انتخابات نزيهة، ولولا ثِقةٌ سبقت وشواهد لقلت: إنَّ المجلس العسكري سينتهج نفسَ نهج (مبارك) في حرْبه على الإسلام، لكنني أجزم أنَّه تفاعل وقْتي مع الدعاية الرخيصة للعلمانيِّين، وعلى ذلك فبِيَدِ الإسلاميين أن يتريَّثوا في المؤتمرات الجماهيريَّة، ولا يظهروا مبلغَ الحضور والقَبول الجماهيري لهم، وأن يكسبوا ثِقةَ الشارع المصري بتفنيدِ تلك الموجات المتعاقبة مِن الكذب، وأن يُنسِّقوا فيما بينهم ملامحَ الخطاب الإعلامي، فضلاً عن تحديد الأدوار في الوقت الراهن فربَّما لا تجود الأيَّام بمِثل هذه الظروف، التي تخدم قضايا الإسلام المعلَّقة منذُ عقود.