أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ...
خالد سعد النجار
قال العلماء: لما تحدث الله تعالى عن المنافقين في سورة البقرة ضرب لهم مثلين: ناريا ومائيا، فالناري هو: {{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ..}} .والمائي: {{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ..}} .
- التصنيفات: التفسير -
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في سورة البقرة:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
{{مَثَلُهُمْ}} وصْفهم وحالهم.. والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقاً للعقل. لأن النفس إلى المحسوس أميل.
والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم. وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا يرونه أهلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى، فالمثل قول عزيز ليس في متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة، وشاع إطلاق لفظ المَثَل على الحالة العجيبة الشأن، فإطلاق المثل دوما على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله على الحال العجيبة.
وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما، ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون: "مثل فلان كمثل الأسد"، وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}} [الرعد:14] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله: {{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}} [يونس:24] وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات.
قال الزمخشري: لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكلام الأنبياء والحكماء، فقال الله تعالى: {{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}} [العنكبوت:43]
قال العلماء: لما تحدث الله تعالى عن المنافقين في سورة البقرة ضرب لهم مثلين: ناريا ومائيا، فالناري هو: {{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ..}} .والمائي: {{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ..}} .
وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع جدواه بذهاب النور.
وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق.
والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدلّ على فرط الحيرة وشدة الأمر، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ.
{ {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}} أي طلب من غيره أن يوقد له ناراً، أو طلب من غيره ما يوقد به النار بنفسه، ووقود النار ارتفاع لهيبها.
{{فَلَمَّا}} «لَمَّا» حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره {{أَضَاءتْ}} الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة { {مَا حَوْلَهُ}} أي أنارت ما حول المستوقد { {ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ}} وأبقى حرارة النار، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مُطفئ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله: {{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ}} [البقرة:15]
{{وَتَرَكَهُمْ}} تفيد تحقيرهم {{فِي ظُلُمَاتٍ}} دال على شدة الظلمة، كقوله تعالى: {{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}} [الأنعام:63] وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { (فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) } [مسلم] فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة، أطلقوها على مطلق القوة، وإن لم يكن تعدد ولا كثرة، مثل لفظ «كثير» كما في قوله تعالى: {{وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً}} [الفرقان:14].. وقيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام.
لكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد، ويتعين في هذه الآية أن جمع {{ظُلُمَاتٍ} } أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي: حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.
{{لاَّ يُبْصِرُونَ}} تأكيد من حيث المعنى، لأن من ذهب نوره بقى في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية.
فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع.
وهذا المثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه.
وقيل: أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين ويصدر منهم طيب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم، ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه، مثل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
فشبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد، والضلالة المشتراة بالظلمات.
قال ابن عاشور: وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر، فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عود بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم. وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة {{لا يُبْصِرُونَ}} لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء.
وفي هذه الآية نجد اختلافاً في الضمائر: {{استوقد}} : مفرد؛ {{حوله}} : مفرد؛ {{بنورهم}} : جمع؛ {{تركهم} }: جمع؛ {{لا يبصرون}} : جمع؛ قد يقول قائل: كيف يجوز في أفصح الكلام أن تكون الضمائر مختلفة والمرجع فيها واحد؟
والجواب أن الذي استوقد النار كان مع رفقة، فاستوقد النار له ولرفقته؛ ولهذا قال تعالى: {{أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ.. }} إلخ.
وتكون الآية ممثلة لرؤساء المنافقين مع أتباعهم؛ لأن رأس المنافقين هو الذي استوقد النار، وأراد أن ينفع بها أقرانه، ثم ذهبت الإضاءة، وبقيت الحرارة والظلمة، وتركهم جميعاً في ظلمات لا يبصرون.
{صُمٌّ} "الأصم" الذي لا يسمع، لكنه هنا ليس على سبيل الإطلاق؛ بل أريد به شيء معين: أي هم صم عن الحق، فلا يسمعون؛ والمراد نفي السمع المعنوي. وهو السمع النافع؛ لا الحسي. وهو الإدراك؛ لأن كلهم يسمعون القرآن، ويفهمون معناه، لكن لما كانوا لا ينتفعون به صاروا كالصم الذين لا يسمعون؛ وذلك مثل قول الله تعالى: {{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} } [الأنفال:21].
{ {بُكْمٌ}} جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ والمراد أنهم لا ينطقون بالحق؛ وإنما ينطقون بالباطل
{{عُمْيٌ}} جمع أعمى؛ والمراد أنهم لا ينتفعون بما يشاهدونه من الآية التي تظهر على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام.
أريد بذلك المبالغة في ذمهم، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالاً من البهائم وأشبه حالاً من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر.
فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى، ولذلك لما أراد إبراهيم -على نبينا وعليه السلام- المبالغة في ذم آلهة أبيه قال: {{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً}} [مريم:42]
والمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى.
وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عُرِفَ لِلسَّامِعِ فيقولون: فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير: «هو فلان». ومنه قوله تعالى: {{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}} [النبأ:36-37] التقدير: "هو رب السماوات".
{{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}} الفاء هذه عاطفة، لكنها تفيد السببية. أي بسبب هذه الأوصاف الثلاثة لا يرجعون عن غيِّهم؛ فلا ينتفعون بسماع الحق، ولا بمشاهدته، ولا ينطقون به. وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب.
قال في البحر المحيط: جملة خبرية من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي كناية عن عدم قبول الحق، جدير أن لا يرجع إلى إيمان. وقيل: عن الضلالة بعد أن اشتروها، أو عن التمسك بالنفاق.
وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولاً للهداية، وبعث إليهم رسلاً بالبراهين القاطعة، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم، والجري على مألوف آبائهم، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم.
{{أَوْ}} للتنويع، أتى بصورة تخالف ما صور سالفا لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها.
{{كَصَيِّبٍ}} المطر والغيث الذي فيه الحياة، مثل للإسلام {مِّنَ السَّمَاءِ} ليس بقيد للصيب، وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب. كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من علٍ
إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى، ولكنه أراد التصوير، وكقوله تعالى: {{وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}} [الأنعام:38]، وقوله: {{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ}} [الأنعام:71] وقال تعالى: {{فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}} [لأنفال: 32].
والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى: { {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} } [إبراهيم:24} وتطلق على السحاب، وتطلق على المطر نفسه، ففي الحديث الذي رواه أبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قَالَ: «(أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)» .
{{فِيهِ ظُلُمَاتٌ}} مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان ظلمات الكفر.
{{وَرَعْدٌ}} سمي هذا الصوت رعداً لأنه يرعد سامعه، ومنه رعدت الفرائص، أي حركت وهزت كما تهزه الرعدة. وهو مثل لما في الإسلام من «وعيد القرآن» إلا أنه بالنسبة لهؤلاء المنافقين وخوفهم منه كأنه رعد شديد.
{{وَبَرْقٌ}} مثل لما في الإسلام من «وعد القرآن» إلا أنه بالنسبة لما فيه من نور، وهدى يكون كالبرق؛ لأن البرق ينير الأرض.
{{يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم}} أراد بالأصابع بعضها، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن، إنما تجعل في الأنملة، لكن هذا من الاتساع، وهو إطلاق كل على بعض، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا.
{{مِّنَ}} سببية { {الصَّوَاعِقِ}} جمع صاعقة؛ وهي ما تَصعَق. أي تُهلك مَنْ أصابته؛ هذه الصواعق معروفة بآثارها؛ فهي نار تنطلق مع البرق أحيانا؛ وتنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، فإذا أصابت أحداً أو شيئاً أحرقته وأتت عليه.
و "الصواعق" عبارة عما في القرآن من الإنذار والتخويف؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى: {{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}} [المنافقون:4] وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد.
{{حَذَرَ}} خوف {{الْمَوْتِ}} فيجعلون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق لئلا يموتوا؛ ولكنهم لا ينجون منها بهذا الفعل؛ إلا أنهم كالنعامة إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لئلا تراه؛ وتظن أنها إذا لم تره تنجو منه! وكذلك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا؛ إذا أراد الله تعالى أن يصيبهم أصابهم؛ ولهذا قال تعالى:
{{واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}} فلن ينفعهم الحذر .. كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط المحيط به، فقيل: بالعلم، وقيل: بالقدرة، وقيل: بالإهلاك.
ولما بَيَّن الله شدة الصوت، وأنهم لفرارهم منه، وعدم تحملهم إياه يجعلون أصابعهم في آذانهم بَيَّن شدة الضوء عليهم، فقال تعالى:
{{يَكَادُ}} من أفعال المقاربة {{الْبَرْقُ يَخْطَفُ}} الخطف الأخذ بسرعة {{أَبْصَارَهُمْ}} أي يأخذها بسرعة، فتعمى؛ وذلك لقوته، وضعف أبصارهم {{كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ}} فكأنهم ينتهزون فرصة الإضاءة.
والبرق مثل للإسلام، وإضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته {{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}} معنى القيام هنا عدم المشي أي الوقوف في الموضع. أي: وإذا نزلت بهم محنة أو تكاليف شاقة كالجهاد والنفقة سخطوا وثبتوا على نفاقهم.
قال ابن عثيمين: البرق: نور الإسلام، لكنه ليس نوراً يستمر؛ نور البرق ينقطع في لحظة؛ وميض؛ فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، ولا فكروا في ذلك؛ وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع، فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط؛ وبعد ذلك يقفون؛ كذلك أيضاً يكاد البرق يخطف أبصارهم؛ لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ بل لكبريائهم، وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم؛ لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته ومقابلته.
{{وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}} لعجل لهم العقوبة في الدنيا، فذهب بسمعهم وأبصارهم، فلم ينتفعوا بها في الدنيا، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم. إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا لهم وإقامة للحجة عليهم.
وخص السمع والأبصار لتقدم ذكرهما في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم}، وفي قوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عزّ وجلّ أن يمتعه بسمعه وبصره؛ وفي الدعاء النبوي المأثور: «(اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بأسْمَاعِنا، وَأَبْصَارِنَا، وقُوَّتِنَا مَا أحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوارثَ مِنَّا)» [الترمذي: حسن صحيح]
{{إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}} القدرة: القوة على الشيء والاستطاعة له.
فبعد ذكر أحوال المؤمنين ثم الكافرين أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالاً من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين، فقدم الله ذكر المؤمنين، وثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في سورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال.
فوردت في شأن المنافقين ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وسوء عواقبهم، وسفه أحلامهم، وجهالتهم، وأردف ذلك بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك، فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذ النفاق يجمع الكذب، والجبن، والمكيدة، وأفن الرأي، والبله، وسوء السلوك، والطمع، وإضاعة العمر، وزوال الثقة، وعداوة الأصحاب، واضمحلال الفضيلة.
أما (الكذب) فظاهر، وأما (الجبن) فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن، وأما (المكيدة) فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن، وأما (أفن الرأي) فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك، وأما (البله) فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به، وأما (سوء السلوك) فلأن طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة، والصفات المذمومة إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها، وأما (الطمع) فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع، وأما (إضاعة العمر) فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك، وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي، وأما (زوال الثقة) فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا، وأما (عداوة الأصحاب) فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته، وأما (اضمحلال الفضيلة) فنتيجة ذلك كله.
وقد أشار قوله تعالى: {{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}} إلى الكذب، وقوله: {{يُخَادِعُونَ}} إلى المكيدة والجبن، وقوله: {{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}} إلى أفن الرأي، وقوله: { {وَمَا يَشْعُرُونَ}} إلى البله، وقوله: { {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} } إلى سوء السلوك، وقوله: {{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}} إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان، وقوله: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إلى إضاعة العمر في غير المقصود، وقوله: {{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}} مؤكدا بـ «إن» إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم، وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم، وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} إلى اضمحلال الفضيلة منهم.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار