أضروا بالفاني للباقي

قال رسول الله - ﷺ -: «من طلب الدُّنيا أضرَّ بالآخرةِ، ومن طلَبَ الآخرةَ أضرَّ بالدُّنيا! فأضِرُّوا بالفاني للباقي» (أخرجه ابن أبي عاصم وقوَّاه الألباني).

  • التصنيفات: الزهد والرقائق - نصائح ومواعظ -

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من طلب الدُّنيا أضرَّ بالآخرةِ، ومن طلَبَ الآخرةَ أضرَّ بالدُّنيا! فأضِرُّوا بالفاني للباقي»؛ (أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (78/ 161)، وقوَّاه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم: (3287)).

 

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحَبَّ دنياه أضَرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضَرَّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى»؛ (أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم: (2473)، وابن أبي عاصم في الزهد، رقم: (162)، وأحمد (4/ 412)، والحاكم (4/ 308،319)، والبيهقي في الزهد الكبير، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند، وغيرهم، وقد كان الألباني أعلَّه بالانقطاع، ثم وجد له ما يشهده فقوَّاه به كما أشار في الصحيحة (7/ 850)).

 

وعن عبدالله - رضي الله عنه - قال: «من أراد الدنيا أضَرَّ بالآخرة، ومن أراد الآخرةَ أضرَّ بالدنيا، يا قوم فأضِرُّوا بالفاني للباقي»؛ (الزهد رقم: (68) لوكيع، وحلية الأولياء (1/ 138)، وشعب الإيمان، رقم: (10643) و(10159)، ومصنف ابن أبي شيبة، رقم: (34519)، وسير أعلام النبلاء (3/ 304) وغيرهم، وهو صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 850)).

 

وعن عمرو بن مرة قال: من طلب الآخرة أضَرَّ بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضَرَّ بالآخرة، فأضِرُّوا بالفاني للباقي؛ [حلية الأولياء (5/ 95)].

 

ففي هذه النصوص بيان من الوحي الحكيم أن ثمت الدُّنيا والآخرة وهما ككِفَّتَي ميزان -كما سيأتي مزيد إيضاح وبيان- فمتى رجحت إحدى الكِفَّتَين خفَّت الأخرى وبالعكس؛ فهو بين رجحان الأولى والأخرى، ومتى رجح لديه إحداها أضَرَّ بالأخرى ولا بُدَّ. فله أن ينقاد للأولى وهو بها يضر بالأخرى، أو ينقاد للأخرى فيضر بالأولى، وهو بهذا يدور مع الذم والمدح، والضير والخير، وَالضَّرَّاء والسَّرَّاء، والتعب والرَّفَاهِيَة، والْجدَّة واللأْواء، والخوف والأمن، والنَّفْع والضر، والْغم والفرح، والْعسر واليسر، والشدَّة والرخاء، والْبلوى والنعمى، والشِّفَاء والسقم، والنِّعْمَة والنقمة، والضنى والعافية، والمحبوب والمكروه.

 

وإنما لحق الذم وأخواته من قدم الأولى وطلبها؛ لأن تقديمها وطلبها يورث محبتها -كما سيأتي- الذي هو سبب لاشتغاله بها وانهماكه فيها، وهذا يورث ولا بد الاشتغال عن الطاعات والقربات، والانشغال عن الأعمال الصالحات غالبًا، ومن ثَمَّ يورث الاشتغال عن الآخرة، فيفوت الفوز بها أو حتى بدرجاتها وبثوابها، وهو عين المضرة شعر أو لم يشعر، ناهيك عما يعقب هذا الاشتغال من الخوف والحزن، والغم والهم، والنكد والتعب وهكذا، فليكن على يقين من هذا، وهو فيه بالخيار، إما أن يطلب دنياه فيضر بآخرته، أو يطلب آخرته فيضر بدنياه؛ فالأولى له والأمر كذلك أن يضِرَّ بما يفنى لما يبقى: «فأضِرُّوا بالفاني للباقي»، والمعنى آثروا واختاروا ما يبقى على ما يفنى.

 

أعود فأقول: إن الطلب والانشغال بالأولى أو بالأخرى يُورِث محبتها؛ فإن من طلب الأولى -مثلًا- أحبَّها حُبًّا يغلب على حب مولاه فانشغل بشهواتها عما وجب عليه، وأكَبَّ على معاصيه فانصرف عما كان ينبغي أن يقبل إليه، فلم يتفرغ لعمل الآخرة، وكذا من أحب دنياه شغلته عن تفريغ قلبه لحب ربه ولسانه لذكره -عز وجل- فأضَرَّ بنفسه في آخرته.

 

وكذا من طلب الأخرى أحبها؛ ومِن ثَمَّ نظر إلى فناء الأولى واستحضر أن حلالها حساب، وحرامها عذاب، وشاهد بنور هذا الحب جمال الآخرة فأضَرَّ بنفسه في دنياه، وتحمَّل مشقة العبادات، وتجنَّب الشهوات، فصبر قليلًا ليتنعَّم طويلًا.

 

ومنها تعلم أن ذم محبة الأولى مستلزمٌ لمدح بغضها، وأن من لازم محبة شيء أعرض عن غيره، وهذا عين الضرر والإضرار، فمحبة الأولى تضر آخرته ولا بد، كما أن محبة الآخرة تضر بالأولى ولا بد، وتنقص أو تزيد من درجات ضدها بحسب ذلك الطلب والانشغال المورث للحب، والذي قد يمكن منه فيتلاشى، وهذا ظاهر وبيِّن في تلك الأحاديث والآثار التي قدمناها، وفيها تنبيه نبيه على أن الدنيا فانية والأخرى باقية، فآثروا ما يبقى على ما يفنى.

 

إذًا: فالأولى والأخرى هما:

ككِفَّتَي الميزان -كما تقدم- فإذا رجحت إحدى الكِفَّتَين خفَّت الأخرى وعكسه.

 

وكالمشرق والمغرب، ومحال أن يظفر سالك طريق الشرق بما يوجد في الغرب، وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فهما ضدان لا يجتمعان، ومتى علمت هذا تيقَّنت ما سبق من عدم إمكانية الجمع بينهما -غالبًا- دون تأثير إحداهما على الأخرى، والله أعلم.

 

وقد قيل:

زيادة المرء في دُنْياه نقصان   **   وربحه غير محض الخير خسران 

 

فالجمع بين كمال الاستئصال في الدنيا والدين لا يكاد يقع إلا لمن سخَّره الله لتبديل خلقه في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء، أما غيرهم فإذا شغلت قلوبهم بالدنيا انصرفت عن الآخرة، وذلك أن حب الدنيا سبب لشغله بها والانهماك فيها، وهو سبب للشغل عن الآخرة، فتخلو عن الطاعة، فيفوت الفوز بدرجاتها وهو عين المضرة كما أشرنا سابقًا.

 

وقديمًا: بنى مَلِك مدينة وتأنَّق فيها، ثم صنع طعامًا ونصب ببابها من يسأل عنها، فلم يعبها إلا ثلاثة فسألهم؟

فقالوا: رأينا عيبين.

قال: وما هما؟

قالوا: تخرب ويموت صاحبها.

قال: فهل ثم دار تسلم منهما؟

قالوا: نعم الآخرة، فتخلَّى عن الملك وتعبَّد معهم ثم ودَّعهم.

فقالوا: هل رأيت منا ما تكره؟

قال: لا، لكن عرفتموني فأكرمتموني فأصحب من لا يعرفوني.

 

وما جاء في هذه الآثار - المتقدمة - هو عين ما جاء به الكتاب الكريم، ذلك أن الله - عز وجل- ذم الدنيا قال الله - عز وجل -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].

 

قيل: من كانت الدنيا همَّه وسدمه وطلبته ونيته وحاجته، جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة ليس له فيها حسنة، وأما المؤمن فيُجازى بحسناته في الدنيا، ويُثاب عليها في الآخرة {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}؛ أي: لا يظلمون؛ أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير في تفسيره (15/ 264)، وانظر: الدر المنثور (4/ 408).

 

وقد سماها الله -عز وجل- العاجلة: كما في قوله -عز وجل-: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27]، وقال -عز وجل-: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21]، وقال -عز وجل-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18].

 

وسماها: الأولى: كما في قوله -عز وجل-: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، وقال -عز وجل-: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم: 25]، وقال -عز وجل-: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 13] وقال -عز وجل-: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

 

وسماها: حرث الدنيا: كما في قوله -عز وجل-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].

 

وسمها الحياة الدنيا: كما في قوله -عز وجل-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].

 

وقد قال -عز وجل-: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، والمراد بالحيوان: الحياة؛ أي: الحياة الطيبة، أو الحياة الدائمة.

 

وإنما قيل لتلك الدار الأخرى أو الدار الآخرة؛ لأنها هي آخر المنازل، فلا انتقال عنها ألبتة إلى دار أخرى، قال الله -عز وجل-: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 3]؛ أي: خالدين فيه بلا انقطاع، وقال -عز وجل-: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]؛ أي: غير مقطوع، وقال -عز وجل-: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]؛ أي: ما له من انقطاع وانتهاء، وقال -عز وجل-: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، وقال -عز وجل-: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] إلى غير ذلكم من الآيات.

 

فإذا ما تقرر هذا لكل ذي لُبٍّ، وعلم أن الدنيا فانية وما فيها، والآخرة باقية، وأنه بقدر ما يقبل على الأولى بقدر ما يضر بآخرته، كان لزامًا عليه أن يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والأمر بالعكس؟! ولذا قال من قال من أهل العلم -رحمهم الله-: أقل العلم بل أقل الإيمان بل أقل العقل: أن يعرف صاحبه أن الدنيا فانية، وأن الأخرى باقية، ونتيجة هذا العلم أن يعرض عن الفاني ويقبل على الباقي، وعلامة الإقبال على العقبى، والإعراض عن الدنيا الاستعداد للموت قبل وقوع الميعاد وظهور المعاد.

 

والخلاصة: أضِرُّوا بالفاني للباقي.

___________________________________________________
الكاتب: بكر البعداني