الصبر
المقرر في أذهان الصالحين والعقلاء أن الدنيا ليست دار بقاء؛ وإنما دار اختبار وابتلاء، وأن التمكين فيها ليس دليلًا على الرضا، ولربنا الكريم أن يختبر من شاء بما يشاء.
- التصنيفات: أخلاق إسلامية - - آفاق الشريعة -
المقرر في أذهان الصالحين والعقلاء أن الدنيا ليست دار بقاء؛ وإنما دار اختبار وابتلاء، وأن التمكين فيها ليس دليلًا على الرضا، ولربنا الكريم أن يختبر من شاء بما يشاء.
فذا مبتلًى بالفقر، وذا بالغنى، وذا باتِّباع الشيطان والهوى، وذا بالصحة، وذا بالمرض والعِلَّة، وذا مبتلًى بفقد الأهل والأحِبَّة، وذا بعدم صلاح الذرية، وذا مبتلى بتسلُّط عدوِّه عليه، وذا مبتلًى بعجبه بنفسه، فلا يرى فيها ذنبًا ولا خطيئة.
والأمة بمجموعها تُبتلى بالقوة والضعف، وتسلُّط أعدائها عليها؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وفي التنزيل الكريم يقول تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1-2]، فإذا استقر ذلك في الأذهان وجب أخذ الحيطة والحذر، والاستعداد للامتحان بالصبر والمصابرة، ولا يكون هذا إلا بتوفيق الله، فعن أبي سعيد الخدري: قال عليه الصلاة والسلام: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر».
ولأهمية الصبر وعظيم أثره، فقد ورد في القرآن الكريم بصيغ شتى نحو مائة مرة، فجاء بالأمر الصريح للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
وجاء الأمر الصريح بالصبر والمصابرة لأهل الإيمان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وجاء الأمر بالاصطبار وهو: صبر وزيادة، وأمر المؤمنين تارة بالتواصي به، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].
أمر سبحانه بالاستعانة بالصبر، ووعد عباده بمعيته: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
وأرشد عباده الصالحين المجاهدين لدعائه أن يوفقهم للصبر، قال تعالى حكاية: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250].
وتارة يعدهم ويبشرهم بما لهم من الجزاء والمثوبة، قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
فيا من ابتليت بلاء، عليك بالصبر، قال عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن كل أمره خير؛ إن أصابته سرَّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيرًا له».
والصبر أنواع ثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
من عرف ما في طاعة الله من الخير والسعادة، هان عليه الصبر والمداومة عليه، والطاعة صبر ساعة تسعد بها في دنياك وعند لقاء مولاك.
ومن عرف ما في معصية الله من الضرر والشقاء سهل عليه إرغام النفس، والإقلاع عن الذنب؛ فالمعصية لذة ساعة، ويعقبها حسرة وندامة في دنياك، وعند لقاء مولاك.
ومن علم أن الله عزيز حكيم، وأن المصائب بتقدير الرؤوف الرحيم؛ أذعن للرضا، ورضي الله عنه، وهدى قلبَه للإيمان والتسليم.
ولطف الله لا ينفك عن قدره، فكم من مصيبة نزل معها السلوان والصبر بحمد الله؟!
أخي، يا من ابتُليت فصبرت، هنيئًا لك معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وهنيئًا لك الأجر الموعود بغير حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وهنيئًا لك الرضا بقضاء الله وتكفير الذنوب والخطايا، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يصيب المؤمن من هم ولا غَمٍّ ولا أذًى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه».
عباد الله، مما يشرع وقت المصائب:
أ- الاسترجاع؛ وهو قول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].
ب- وأن يقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها، ويشرع للمسلمين مواساة إخوانهم المصابين، فمن عزَّى ملسمًا فله مثل أجره.
والصبر خلق نبيل، سار عليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فنوح يمكث ويصبر في دعوته ألف سنة إلا خمسين عامًا، وأيوب يصبر على البلاء ثمانية عشر عامًا، وموسى يلاقي من قومه ما يلاقي ويصبر، ويوسف يتآمر عليه إخوته، ويدخل السجن في سبيل الحفاظ على دينه وعرضه، ويصبر.
وإمام الصابرين المستجيب لأمر رب العالمين: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65]، محمد عليه الصلاة والسلام أصبر الناس عاش مرارة ولوعة اليتم في أعلى مراتبه؛ مات أبوه قبل ولادته، ثم توفيت أمه، وقد تعلق بها قلبه، فعظم يتمه، كفله جده، وضمَّه ورقَّ عليه، وقدَّمه على بنيه، مستشعرًا ألم يتم أبويه، وبعد عامين توفي جده، فكفله الفقير كثير العيال عمُّه، فأعانه عليه الصلاة والسلام على كده وعيشه وهو صغير، أحبَّه عمُّه فأكرمه وأحاطه وذاد عنه، وغضب له ونصره، وتجرَّع الحصار والألم نصرةً له، ثم مات عمُّه، ثم عظم كربه بموت زوجه المحبة خديجة رضي الله عنها، أول من آمن به وواساه وصدَّقه، وخفَّف عنه، فاجتمع المصاب بموت السند الداخلي زوجه، والخارجي عمه؛ لكنه لم يفقد صبره، مات بنوه كلهم في حياته إلا فاطمة فاحتسب وصبر.
وأما عيشه؛ فكان يمر عليه الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهِلَّة في شهر ولم يُوقَد في بيته نار، وربط من شدة الجوع الحجر على بطنه، ونام على الحصير، فأثر في جنبه، وناولته فاطمة كسرة خبز، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاث»، فصبر.
وفي إبلاغ رسالته تحمَّل ما لا يتحمله بشر، فصبر، يقول عليه السلام عن نفسه: «لقد خفت في الله، ولا يخاف أحد، وأُوذيت في سبيل الله، وما يؤذى أحد».
أذاه قومه أبلغ الأذى فصبر، واستهزأوا به، وسخروا، وهمزوا ولمزوا وشتموا، وبالسحر والكهانة والشعر والجنون اتهموه، فما انثنى ولا فتر، أغروه بالمال والسيادة والنساء فما التفت إلى ذلك ولا نظر؛ ولكنه على كل ذلك صبر صبرًا إيجابيًّا عليه الصلاة والسلام حقق معه نجاحًا بالغًا؛ فأدَّى الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده صلوات الله وسلامه عليه، فكذا ينبغي أن يكون أتباعه، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
عباد الله، مما ينبغي التنبيه عليه أنه ومع عظم المصاب سواءً للفرد والأمة يجب أن يتحلى المسلم بالصبر، وعليه بالعمل والجد والاجتهاد، ولا تنسَ إحسان الظن بالله، لا سيما في المدلهمات والكربات، فهو من أعظم العبادات.
عباد الله، بالصبر يخف المصاب، ويعظم عند ربنا الثواب، وبالجزع يعظم الخطب، ويشتد الكرب، ويحبط الأجر، وربما حل العقاب، فيا سعادة من رضي بالله ربًّا عظيمًا مدبرًا، وكان عمله عند السراء الشكر، وعند الضراء الصبر، كان الله في عون الصابرين في شتى بقاع الأرض، فكلما اشتدَّ الكرب قرب الفرج، وإذا اشتدت الظلمة قرب الفجر، وإن مع العسر يسرًا.
فأحسنوا الظن بربكم أن يعجل نصركم، ارفعوا أكُفَّ الضراعة لربكم.
اللهم اجعلنا مُعظِّمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا مُعظِّمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تنصر من نصر الدين، وأن تخذل من خذله، وأن توالي من والاه بقوتك، يا جبار السماوات والأرض.
___________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني