إشراقة أمل وانطلاقة عمل

علي بن عمر بادحدح

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -


الخطبة الأولى:
وصية الله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين في كل آن وحين، وزاده الذي جعله لعباده المؤمنين تقوى الله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

بين يدينا أيام قليلة ويطل عام جديد ويكثر الحديث هنا في غالب الأحوال عن المصائب والمآسي، أو يختص في أحيان أخرى بالمخالفات والمعاصي، أو يركز أكثر ما يركز على الموت والأجل، أو يعتني بأن يبث الخوف والوجل، ونحو ذلك من الحديث عن المحاسبة والتوبة وكل ذلك صحيح نافع مفيد، وكله له ارتباط بهذا التحول من عام إلى عام، لكنني أريد أن نمضي إلى وجه أخرى لعل فيها جديداً يكون مفيداً ولعلها أيضاً وهي تمشي باتجاه آخر أن تستوعب كثيراً من هذه المعاني الذي يكثر الحديث عنها.

إشراقة أمل وانطلاقة عمل هذا عنوان أحب لنفسي ولإخواني أن يجعلوه عنوان عامهم؛ لأنه إن انطفأت جذوة وشعلة الأمل فإننا سيخيم علينا ظلام الكسل، وإن قعدنا عن انطلاقة العمل فإننا سنكون في صورة لا يمكن فيها أن نغير واقعنا أو نقوم اعوجاجاً حتى وإن تحدثنا عن قرب ونحو ذلك.
لكنني أظن بعضكم يتساءل الآن وهل ثمة في واقعنا ما يبعث على الأمل؟ وهل هناك مجال كما قد يتصور البعض للعمل؟ وهنا قد تأتي كلامات كثيرة وجمل عظيمة بأن أمتنا تشهد حالة من الضعف الشديد والوهن العظيم والفرقة المستحكمة والعمالة والتبعية التامة، ثم نأتي مرة أخرى لنعرج على آحاد المسلمين فنقول: غلبهم الهوى، وقل فيهم الورع، وضعف عندهم التدين، وعظم فيهم الجهل، وإذا بنا نستعرض المفردات لنسد كل طريق ونغلق كل باب فأي شي سنجني من وراء ذلك؟ وهل هذا هو نهج ديننا على النحو الذي يحصل في بعض الأحيان من تعظيم الصورة السوداء وتكثيف ذكر العقبات والعوائق حتى لا ينبعث في النفس أمل ولا يكون في الهمة شيء يمكن أن ينتج عنه عمل.
أيها المؤمنون.. انظروا إلى بواعث أمل الله تنتهي في حياتنا، إن إيماننا ما يزال بحمد الله في قلوبنا، إن إسلامنا في أركانه ما نزال نجتمع له في صلاتنا وفي حجنا وفي صيامنا وزكاتنا، إننا ما نزال نتلو وإن كنا نقصر ونهجر ما نزال نتلو كتاب ربنا.

إنني أذكركم هنا بصناعة الأمل والعمل في المواقف المتصلة بهذا التاريخ الذي نتحدث عنه، إن بداية العام يذكرنا بهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

وأعيدكم إلى ما قبل الهجرة بقليل.. ألم يذهب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يحذوه أمل ويخرجه عمل إلى الطائف ليلتمس لدعوته نصراء، ليلتمس لدينه من يرفع رايته وكان الرد كما تعلمون، وكان الأمر على نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم الوقع شديد الأثر كما هو معلوم حتى مضى يمشي ويهيم على وجه لكنه لم يفقد الأمل لأنه موصول بالله، واصل ظل في المواسم يعرض نفسه على القبائل: «من ينصرني، من يأويني»، حتى إذا كان ذلك الموسم ولا أحد يرد عليه، ولا أحد يستجيب له بل لا يجد إلا ردوداً قبيحة ومواقف سيئة.
قوضت الخيام والناس يوشكون على المغادرة ونفر قليلون يحلق بعضهم لبعض متهيئين للانطلاق، وقف سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- والأمل ما زال في قلبه ونفسه وقف يحدث هؤلاء النفر، القبائل والزعماء وهم مستقرون ما استجابوا له، الشمس في نحر الظهيرة والناس يستعدون للرحيل، وقف فدعاهم تحدث إليهم، أولئك النفر كانوا أصحاب بيعة العقبة الأولى من بعد وهم الذين كانوا من بعد أصحاب بيعة العقبة الثانية، وهم الذين كانت فيهم بيعة: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن ترى كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان"، ومن بعد ذلك تهيأت الهجرة وفتحت المدينة قلوب أبنائها وصدورهم وبيوتهم وأموالهم لتستقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتقيم دولة الإسلام وتكون موئل الرسالة ومنطلق الدعوة.

كان أمل وتبعه عمل ذلك هو الذي شق طريق الهجرة، وأقام معالم الدولة، ونشر دين الإسلام في شتى بقاع الأرض، وفي الهجرة نفسها أحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- خطته، وهيأ عدته إلى أن وقف المشركون على فم الغار كل التخطيطات لم تؤدِ إلى النتيجة النهائية حسب القدرة والطاقة البشرية، أبو بكر -رضي الله عنه- في تلك اللحظة الخوف يخالط قلبه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على الدعوة التي تريد أن تنطلق من هذا الحصار المضروب عليها في مكة: "يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موقع نظريه لرآنا"، ويأتي جواب الأمل والثقة واليقين: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب ولا يعرف كيف سينتهي الموقف، لكنه كان يعلم أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنه يعلم أنه سائر على منهج الله ورافع راية الله وداع إلى دين الله وناصر عباد الله، انفرج كل كرب وزال كل صعب وتهيأ كل أمر ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما مضى من قبل عندما أخذ التراب يحثوه على رؤوس القوم وهم عند بابه، هكذا تعطينا الهجرة كيف نبعث الأمل وكيف نجود العمل.

وهنا أنقلكم إلى صور كثيرة من آيات القرآن تعبر كذلك عن مواقف السيرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

ونحن اليوم نرى من أبناء أمتنا من يرى أن نصر الله ليس ببعيد فحسب بل هو مستحيل كأنما قد انقطعنا عن مصدر اليقين والإيمان بما جاء في كتاب الله وبما ثبت في سنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ألم يحاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في المدينة يوم الأحزاب، ألم يكونوا في شدة خوف وجوع وبرد! ألم يربط سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- حجرين على بطنه من شدة الجوع! ألم يكن الصحابة يخشى أحدهم أن يذهب قليلاً ليقضي حاجته! في ظل ذلك الظرف العصيب كبر سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-: «الله أكبر، الله أكبر، ابشروا»، كبر وبشر -صلى الله عليه وسلم-، والله -سبحانه وتعالى- وصف لنا الحال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]، لكن إيمانهم لم يتزلزل ويقينهم بالله لم يتزعزع، وثباتهم العملي وجهدهم البشري في حفر خندقهم وفي مناوبة حراستهم لم يتأخر لحظة واحدة: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]، جند من جند الله ريح أطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم وخلعت ثيابهم فانصرفوا لا يلوون على شيء، قد تقولون لي ذاك محمد -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- نعم هو رسول الله، لكن ألستم أنتم أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، أليست هذه الأمة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-! أليس القرآن الذي أنزل عليه هو القرآن الذي بين أيديهم اليوم لم يتغير منه حرف واحد!

انتقل بكم لنرى إشراقة الأمل الواسعة العريضة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، انظروا أيها الإخوة ما الذي بين أيدينا من قوة عظمى هي أقوى من السلاح النووي الذي صدعوا به رؤوسنا، وأقوى من كل قوى الأرض كلها، بين يدينا منهج محفوظ؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وسنة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وسيرة نراها في أدق تفاصيلها.

قدوة كاملة شاملة في جميع نواحي الحياة؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، تجديد لهذا الدين كما أخبر -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الذي روي بسند صحيح: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها»، وأمر آخر لا ينقطع على مدى الأزمان كلها: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»، ووعد الله موجود في كتابه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، استحضر هنا صورة مرت بالصحابة في الفترة المكية، اشتد الأذى وعلى المستصعفين بوجه الخصوص، ضربوا! جلدوا! سحروا! وفعلت بهم الأفاعيل! جاء بعضهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحديث يرويه خباب من الأرث -رضي الله عنه- الذي ظلت علامات السياط على ظهره إلى أن توفاه الله: "يا رسول الله: ألا تدعوا لنا! ألا تستنصر لنا"! طالت المدة، عظمت البلية، نريد فرجاً سريعاً والله قادر على ذلك، ورسوله إن دعاه استجاب له، لكنه -صلى الله عليه وسلم- يبين المنهج الذي اقتضته سنة الله: «إنه كان فيمن كان قبلكم من يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ومن يأتي بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فينشر حتى يكون نصفين ما يصده ذلك عن دينه والله ليسيرن الراكب من حضرموت إلى صنعاء لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون»، قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو خيرة خلق الله، وقاله للخلص من صفوة الخلق أصحابه -رضوان الله عليهم-، وقاله في ظلال الكعبة بيت الله الحرام، وقاله والظلم طاغٍ والأذى فاشٍ ليعلمنا أن لا يأس مطلقاً بل لا بدّ أن نثبت وأن نرابط وأن يبقى أملنا في وعد الله عظيماً: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، «ولن يغلب عسر يسرين» كما ذكر الله -عز وجل-، والله -سبحانه وتعالى- يقضي بهذه الأمور التي نراها من البلايا والرزايا وفق سنته ليهلك من هلك عن بينه، ويحيى من حي عن بينة الابتلاء الذي يحصل خير للأمة تمحيص لصفوفها، تنقية للدخيل من أبنائها أو أعدائها، وهكذا تمضي سنة الله -عز وجل-، لكننا نقول: الأمل لا بدّ أن يتبعه العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة: 105]، سل نفسك وأنت تستقبل عامك كم شعلة من الأمل تضيؤها وتذكي جذوتها بآيات الله ووعده وبما ورد في سيرة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بل بما نراه في واقعنا -وسأشير إلى ذلك قريباً-؟ ثم انظر إلى نفسك واشحذ همتها وقو عزيمتها وضع برامجها للعمل لئلا يكون أملك أمنيات فارغة وأحلاماً وردية لا صلة لها بالواقع: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 135]، كل ذلك يدعونا إلى هذا العمل.

وهنا انتقل إلى صور واقعية وأشير إليها إشارات سريعة بآيات قرآنية أو مواقف نبوية، اليوم أعداؤنا يحتلون أرضنا يتحكمون بثرواتنا أفلم نقرأ في كتاب الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، أفلم نرَ في تاريخنا من قبل كيف تسلط الأعداء ثم قضت حكمة الله ومضت سنته بنصر عباده المؤمنين، ألسنا نعرف كيف كان حال أمة الإسلام عندما دخل الصليبيون بيت المقدس واحتلوا الأجزاء الكبرى من بلاد الشام كلها، وكان الضعف في الأمة قد بلغ مبلغاً عظيماً، أما التشتت والتفرق فحدث عنه ولا حرج، لكن بقيت للأمة أخيار وأبرار، وبقي فيها أشراف وأطهار، وبقي فيها محبون وأغيار، نهضت الأمة، كان فيها صلاح الدين لم يبدأ المعركة بالقتال، بدأها أولاً بمعركة ضد المنكرات، فأبطل الحانات وأغلق الخمارات، وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بدأ بمعركة أخرى، وهي معركة العلم وتصحيح الاعتقاد، فأبطل ما كان من الرفض وما كان يدعى إليه من البدع، وأقام مدارس العلم، وعين فيها علماء السنة والأخيار من أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فغير مسار الأمة إلى هذا المنبع الصافي في الكتاب والسنة ثم خاض معركة التوحيد، لم يجعل الأمة مفرقة؛ فضم الشام ومصر واليمن وبلاد الحجاز، فلما تهيأت الأسباب وجرت الأقدار كانت حطين انتصاراً هو العنوان الأخير لملحمة دامت في مسيرة عمل وأمل طويل.

وهكذا لو أردنا أن نأخذ صورة أخرى لهالنا الأمر أيها الإخوة الكرام، في الحادي والعشرين من شهر الله المحرم أي في مطلع عام من الأعوام، عام ستة وخمسون وستمائة للهجرة دخل التتار إلى بغداد، وقتلوا الخليفة ودمروا عاصمة الدولة الإسلامية، وقتلوا في ذلك الوقت كما ذكر ابن كثير في تاريخه قال: "ثمانمائة ألف"، وقيل: "ألف ألف وثمانمائة ألف"، قال: "حتى سالت ميازيب بيوت بغداد من دماء المسلمين، وحتى وصل نتن جيفهم إلى بلاد الشام"، أمرٌ عظيم هول لا يمكن تصوره حتى قال ابن الأثير في تاريخه وهو يكتب، قال: "ووقفت عند ذلك طويلاً"، وكيف يكتب امرؤ نعي الإسلام بقلمه، ويظن الظان أنه لن تقوم للأمة قائمة، وأن أمة تدمر في معقلها على هذا النحو ستنسى وتطوى صفحاتها من التاريخ إلى الأبد، لكننا اليوم نتحدث هنا ونحن أمة الإسلام التي تبلغ مليار ونصف مليار، بعد أقل من عامين في الخامس والعشرين من جماد الآخرة في يوم جمعة أغر كان انتصار المسلمين على هؤلاء التتار في المعركة الشهيرة في عين جالوت، ومن بعد كان الانتصار الأكبر يوم دخل هؤلاء الأعداء في دين الإسلام وصاروا من جنده المجاهدين في سبيله والذائدين عنه.
واليوم نرى الذين يدخلون في الإسلام من ألدِّ أعدائه ومن كل المِلل والنِحل، ومن شتى الطبقات والبيئات، ومن كل المستويات والمناصب وهذا دليل قوة هذا الدين وعظمته.

{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، العبرة على المستوى الفردي نعم، كل يوم ينقضي من أعمارنا هو يوم يقربنا من آجالنا، كل يوم ينقضي من أعمارنا مسجل في الصحائف خيراً أو غير ذلك، كل يوم ينقضي من أعمارنا درس وعبرة لنتدارك ما يأتي من أيامنا، ليس ذلك على مستوى الفرد بل على مستوى الأمة كلها لكن لا مجال لليأس، لكن لا توقف للعمل ولو باليسير القليل، وأنا قادم إليكم أفكر في حديثي هذا الذي أطرحه بين يديكم فقلت في خيالي وأقوله الآن بكلامي:

أيها الإخوة.. مساجد الله بيوت الله في كل الأرض تملئ في كل جمعة نرى ذلك أيضاً في رمضان، نرى ذلك في الحج والجمع الحاشدة، قلت: لو أنهم حالوا بيننا وبين بيوت الله أغلقت هُدمت جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، لا مجال أن نصلي جماعة سنصلي في بيوتنا، لو قطعت ألسنتنا سنتلوا القرآن ولو بحركات أيدينا ولو بنظرات عيوننا، لن يكون هناك شيء يجفف منابع الإسلام كما يزعمون ويحاصر ما يدعونه من إرهاب كما يخططون، باءت خططهم بالفشل وانظروا إليهم وهم يجرون أذيال الخيبة بكل قواتهم وحشودهم ودولهم، وباءوا بأذيال الخيبة وكل يوم تكثر فضائحهم فيما يسمونه من عقائدهم المحرفة ومن دياناتهم بل حتى من إعلاناتهم المزيفة في حقوق الإنسان وغير ذلك، ونجم الإسلام يعلو، اقتصادهم تدمر واقعياً وحقيقياً واقتصاد الإسلام في أصوله ومناهجه وتطبيقاته يبقى ويقوى، مجتمعاتهم تنهار بتفكك الأسرة وتمزقها وما يزال فينا من بقية الإسلام إن حافظنا عليه قوة تماسك لا يمكن أن تخترق -بإذن الله عز وجل-، لذلك نحن لا نخشى شيئاً نخشى من أنفسنا فقط، نخشى من تقصيرنا، نخشى من ألا تكون ثقتنا بالله -عز وجل- عظيمة ويقيننا بنصره أكيد، وأن لا نكون بموجب ذلك عاملين.
 

إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما به الصدر الرحيب
ولم ترى لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث *** يمد به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت *** فموصول بها الفرج القريب



نسأل الله -عز وجل- أن يعجل فرجنا وفرج أمتنا وإن فرجه لقريب؛ {مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].

الخطبة الثانية:
عظموا يقينكم بالله فإن ذلك هو جوهر تقوى الله، واعملوا بمنهج الله واسعوا لمرضاة الله فإن ذلكم هو سبيل النجاة في هذه الحياة، وهو سبيل الفلاح والفوز في الآخرة -بإذن الله-.

وإنني لأختم بالمقولة المشهورة: انظر إلى نصف الكأس المملوء ولا تنظر إلى نصف الكأس الفارغ فحسب، إن في كأسنا ماء كثير عذب، يروي ظمأ قلوبنا، ويكون به قوة أبداننا، ويقع به -بإذن الله عز وجل- انطلاقة مسيرتنا.

ولعلي أذكر أمثلة لأنني أتصور أن بعض إخواننا قد لا يرى أمثلة مطلقاً لجانب عملي فيه قوة.
واسمحوا لي أن أذهب إلى الموطن الذي يعز عليَّ أن أغادر الحديث عنه لولا ما يقتضيه مقام الخطبة أحياناً، أذهب بكم إلى أرض الإسراء في فلسطين سنرى أن اليهود المجرمين متحكمين وأنهم كما نرى ونسمع -للأسف الشديد- في كل يوم يهودون القدس ويسعون إلى هدم المسجد الأقصى، ونراهم أيضاً وهم يتبجحون ويتغطرسون على العالم كله دون أن يقول لهم بنت شفة، حتى كأن أحداً يرى أن ذلك الأمر كما يقول -للأسف- بعض الساسة لم يتغير، فيقولون لك: كن واقعياً واستسلم لهذه القوة التي تستلم لها القوة العظمى مجتمعة، فكيف نصنع نحن؟

وتأتينا صورة أخرى ما نزال نفاوض المجرم المعتدي، وكلما اعتدى علينا توسلنا إليه أن يقبلنا لنتحدث إليه فيصفعنا فنأتي إليه مرة أخرى ليركلنا، فإذا ركلنا وسقطنا عدنا إليه ليدوسنا، صورة أين كأسها المملوء، أقول لكم: انظروا أيضاً إلى الذين ظلوا في أرضهم في بيت المقدس، ليس لهم بينهم وبين الأرض غطاء، ولا فوقهم سقف بينهم وبين السماء، من هؤلاء؟ هم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، هم المعادلة التي حيرت القوم إلى يومنا هذا، وهم الأقوياء بقوة الله، الثابتون بوعد الله، الموقنون بنصر الله، الذين أخبر عنهم -صلى الله عليه وسلم- وليس بالضرورة بآحادهم وأعيانهم وإنما أخبر بأنه: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»، قيل: "أين هم يا رسول الله"؟ قال: «في بيت القدس، وأكناف بيت المقدس»، وفي روايات: «في أكناف بلاد الشام».

انظروا أيضاً إلى الأمر الذي -وللأسف الشديد ننساه- نقول: إن مليوناً ونصف من أهل غزة محاصرون، منذ متى نقول ذلك أيها الإخوة؟ منذ كم؟! منذ نحو أربع سنوات كاملة، هل سمعتم أنهم أعطوا الدنية في دينهم؟ هل سمعتم أحداً يقول: أيها العالم أنقذونا وافعلوا ما شئتم، سنوقع على ما أردتم؟! ألم نفكر في هذا؟! ألم تسمعوا أن هذه الرقعة الصغيرة من الأرض خرجت العام الماضي (13.000) من حفاظ وحافظات القرآن في عام واحد، ألا ترون صورة مبهرة معجزة، رجل كل شيء فيه معاق، مشلول القدمين واليدين لا يحرك إلا رأسه، لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بمساعدة، ثم يقتل بواسطة الطائرات، سبحان الله أليست هذه عظمة؟! أليس هذا الرجل الذي لا يملك من شأنه شيئاً يدل على أنه كان من القوة والمهابة أن خاف أعداؤه حتى تآمروا ليقتلوه في وقت خروجه لصلاة الفجر وحيداً وبطائرات عن بعد، نحن لدينا قوة عظمى لكننا نستمع إلى الإعلام الذي يغطي كل ذلك، بل ربما يظهره ولكن يظهره بصورة مقلوبة، ليقول لنا: إن كل من يدافع عن دينه ويتشبث بعرضه متشتت أو كل من يدافع عن أ رضه وبلده إرهابي أو نحو ذلك.. أقول: أيها الإخوة... لدينا صورة مشرقة كثيرة ليس في أرض فلسطين فحسب بل في كل مكان، ومسكين من يظن أنه سيطفأ نور الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32]، وهذه من معجزات وبلاغات القرآن، بأفواههم ستنفخون بأفواهكم لتطفئوا نور الشمس هل النفخة بهذه الأفواه ستطفأ حريقاً هائلاً، وبالأمس استمعنا ورأينا حريقاً في أرض فلسطين عند الكيان الصهيوني ماذا صنعوا؟! لا شيء، استنجدوا بالقوى الأخرى لأن الأمور بقدر الله -عز وجل- لا يستطيعها هؤلاء البشر بقوتهم مهما كانت: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

نستمع اليوم إلى أمور كثيرة ولا أود أن أطيل عليكم، هناك من يأتينا بأمور ويحلل ما حرم الله، فليقولوا: إن الخمر حلال، وليصنعوها وليبيعوها، فعندنا القرآن آياته باقية وستغلبهم وستغلب كل ما يقولون، ويأتينا من يقول: فلتكشف المرأة نحرها وشعرها أو ذراعيها أو تفعل كذا وكذا، فليقولوا ما يشاؤون فعندنا في كتاب الله حكم واضح وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تطبيق عملي لا يتغير لا نخشى شيئاً، هؤلاء المساكين كما انطوى غيرهم وذهب ذكرهم وفلتت قوتهم وذهبت ريحهم فسيلحق هؤلاء بهم وسيبقى دين الله، وسيبقى كتاب الله، وستبقى سنة رسول الله، وستبقى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فعظموا اليقين وأكثروا العمل.

المصدر: موقع المختار الإسلامي