العاقل من لا يهلك نفسه

  • التصنيفات: طلب العلم - نصائح ومواعظ -

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، والصلاة والسلام الطيبان الأكملان على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإننا نرى في تصنيف الكتب اليوم عجبًا، ونرى جرأة لم تكن من قبلُ، والأمر في الحقيقة يحتاج لبعض النصائح والتنبيهات، سائلًا الله عز وجل التوفيق والسداد:

1- نجد اليوم كل من روى عن شيخ أو جَمَعَ إجازاتٍ أصدر كتابًا، وسمَّاه الأربعين في كذا، أو الأربعين في كذا، وهذا في الحقيقة ليس تصنيفًا، بل هو مجرد جمع، ربما يوفَّق فيه صاحبه وربما لا يوفَّق، وغالب مراد هؤلاء تصدير الكتاب بأسانيدهم بُغية الشهرة والظهور - إلا من رحم ربك - فكثير منهم لم يعرض كتابه على شيخٍ عالمٍ متقِنٍ، ولم يُجهِد نفسه في جمع مادته، ولم ينظر في حال الناس، وهل تصنيفه مجرد استكثار أم لدعوة الناس وحاجتهم؟ وهل راجع مادته ونظر فيها، وغيَّر وأثبت، أم تعجَّل ولم يتمهل، وأعانه على تعجُّله أصحاب المجالس الذين يركضون خلف كل أحد، فيقولون: نقرأ عليك مصنفاتك؟ وما مصنفاته؟ جمع أربعين حديثًا لا يفقه فيها شيئًا، ولا يعرف كيف يُعنون لها، ولا علاقتها بالتبويب، ثم يُقال: مصنفات، أو شاب ينظِم متنًا، وخلفه من يقول له: نقرؤه عليك؟

 

إن كان هذا رجلٌ فيه علم، وأجهد نفسه في مادته، وتأنَّى، وعرض مادته على عالم عارف، فنصحه بنشرها لحاجة الناس لمثلها، فلا بأس، أما غير ذلك، فما نعلم من هذا العمل إلا غرضًا دنيويًّا، أو جهلًا مُزريًا إلا من رحم ربك.

 

2- أن البعض يريد بجمع بعض الأحاديث في كتاب أن يقدم له بعض أهل الفضل - وهذا من رحمتهم بالخَلق - فيستغل لذلك لبثِّ منهجه المنحرف بين الخلق من أفكار باطلة، أو بِدعٍ مُهلِكة، أو منهج باطل؛ ولذا تجده يطلب تزكية من الشيخ هذا أو ذاك، فإذا لم يجد وعرفوا مراده، جمع أربعين حديثًا وأعطاها لبعض من تصدروا في مجالس الرواية ليقدموا له - وأكثرهم لا يقرأ الكتاب - ثم ينشره مشيرًا لِما كتبه هؤلاء المسنِدون، فينخدع الناس ويخيَّل إليهم أنه شيء.

 

3- أن بعضهم لا ينظر لحاجة الناس، وقد يكون رجلًا فُتح له في باب آخر، لكنه يريد اقتحام هذا الباب لمجرد الظهور، ووالله إني لأعرف أقوامًا فُتح لهم في التصنيف وتركوه خشية العُجب، أو أنهم رأوا أن هناك أبوابًا أولى بالوقت، فيا من تريد التصنيف، انظر أولًا، هل أنت من أهل التصنيف أم أنك مجرد جامع من هنا وهناك؟ ولا تظن أن كل من صنَّف، صار الكتاب ولده، بل قد يموت ولدك وأنت حي، ولا يُذكر، ولا يُعرف.

 

وفي هذا قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ عن مؤلفات الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: "مؤلفاته المتنوعة إنما كانت بحسب حاجة الناس إليها، ليست للتكاثر، أو للاستكثار، أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، فلم يَكتُب لأجل أن يَكتُب، ولكن لأجل أن يدعوَ، وبين الأمرين فرق".

 

فليكن أولًا نظرك في حاجة الناس لِما عزمت عليه.

 

4- ولتكن في هذا مخلصًا وهدفك نفع الخلق ودعوتهم للخير، ولتعلم أن ما كان لله يبقى؛ رُوِيَ عن مالك قوله: "ما كان لله يبقى".

 

ورُوِيَ عن الشافعي مثل ذلك.

وقد سُئل أبو موسى الضرير عن كتب الشافعي: كيف سارت في الناس؟

فقال: "أراد اللهَ بعلمه فرفَعه".

 

فأخْلِصِ النية، ولتعلم أنه ما كان لله يبقى، وماذا تريد إلا أن يكون عملك لله خالصًا، والنية شأنها عظيم؛ ولذا كان من عادة الأئمة أن يبدؤوا كتبهم بحديث النية؛ تنبيهًا للطلاب على أهميتها، وضرورة تصحيحها.

 

قال النووي رحمه الله: "بدأ البخاري بهذا الحديث، وإن لم يترجم له؛ لأن عادة السلف ابتداءُ المصنفات به؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النية".

 

قال الكرماني رحمه الله عن صحيح البخاري: "لما صحَّح فيه النية، وصفَّى فيه الطَّوِيَّةَ، جعل الله تعالى كتابه علمًا من أعلام الإسلام".

 

وقال ابن رجب رحمه الله: "به صدَّر البخاري كتابه الصحيح؛ إشارة منه إلى كل عمل لا يُراد به وجه الله، فهو باطلٌ لا ثمرة له في الدنيا، ولا في الآخرة".

 

فإن لم تكن لك نية صالحة، فلتراجع نفسك، وتوقَّف إن غلبك فسادها، فعملٌ كالتصنيف تتركه ولم يكن لله، خير من أن تكمله وتشرك فيه غيره.

 

5- ثم عليك أن تستخير الله عز وجل، وكان هذا صنيع أهل العلم؛ قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "استخرت الله تعالى في عمل كتب التفسير".

 

وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "كنتُ إذا أردت أن أصنِّفَ الشيء، دخلت الصلاة مستخيرًا حتى يفتح لي فيها، ثم أبتدئ التصنيف".

 

6- ثم إذا نظرت في حاجة الناس، وشرعت في تصنيف ما يحتاجونه وفيه نفعهم، وأخلصت النية، واستخرت الله عز وجل، فلتجتهد في تهذيبه والنظر فيه، وتنقيحه وترتيبه، ولو أخذ ذلك منك عمرًا؛ قال ابن جماعة رحمه الله: "لا يخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه، وتكرير النظر فيه"، ومن نظر في فعل البخاري في صحيحه، علِمَ ذلك؛ فهو ما زال ينظر وينقِّح إلى أن مات، لكنهم صنَّفوا وأخلصوا، وكانت غايتهم نفع الناس، وسد باب حاجتهم، فرفعهم الله، وأبقى ما صنفوه دليلًا على ذلك.

 

7- ثم بعد ذلك تأنَّ ولا تتعجل، ولو أخذ ما بين يديك عمرًا، فالتصنيف كولدك ولا تدري أيهم يكون بك بارًّا، فلا تُخرِج كتابك إلا بعد أن تتأنَّى وتحسب أنك قد بذلت وسعك، وطالما أن النية الخير، فالأجر واقع، فَلِمَ الاستعجال؟

 

وقد مكث قبلك أئمةٌ أربعين سنة في كتاب واحد، وبعضهم ثلاثين سنة، وبعضهم عشرين، فهم أرادوا عملًا لله فأجادوه، ولا يعني هذا أن من صنف شيئًا في وقت يسير أنه لم يتقنه، لا، لكن هذا فضل من ربك أعطاه لأهل الفضل، فهم مع علمهم ورسوخهم ألان الله لهم كل شيء، فصار التصنيف عندهم أيسر الأمور، أما اليوم فنحن أمام كثير ممن يصنف، ووصفهم الصحيح أنهم عوام، فلا يستويان.

 

8- فإذا تم لك ذلك، فاعرض كتابك على أهل الفضل، ولو كانوا أصغر منك عمرًا، فلعلهم يفيدونك، ولا يكن همُّك اسم من يقدم وشهرته؛ لتنال بذلك عَرَضَ الدنيا، بل ليكن همك أهل العلم منهم، ومن عُرف عنه الرسوخ، ولك في سلفك قدوة؛ فالإمام البخاري رحمه الله بعد أن صنَّف كتابه الصحيح، عرَضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني رحمه الله.

 

وابن ماجه القزويني رحمه الله عرض كتابه السنن على أبي زرعة الرازي.

وأبو داود السجستاني رحمه الله عرَض كتابه السنن على الإمام أحمد بن حنبل، فاستجاده واستحسَنه.

 

9- فإذا رأوا فيه نفعًا ونصحوك بنشره، فراجعه مرات ومرات، علَّ الله يرزقك الفوائد والدرر، فتُجمِّل بها مصنفًا ينفع الخلق، وسَلْ ربك التوفيق والإعانة والقبول، ولا تنتظر شهرة ولا منصبًا، ولا جاهًا، بل ليكن همك ترويض نفسك وإصلاحها، وتهذيبها، وداوم مراقبتها، واجتهد في جَعْلِ نيتك لله، وسَلْ ربك أن يجعله حجة لك لا وبالًا، فإن اشتهر مصنفك فخير وبركة، ولا يزيدك ذلك إلا تواضعًا وشكرًا، وإن لم يشتهر، فالنية أنه لله، ثم لنفع الخلق والأعمال بالنية.

 

فالإمام الترمذي سأل الله عند فراغه من كتابه العلل النفعَ بما فيه، وألَّا يجعله وبالًا عليه برحمته.

 

ومن توقَّف عن التصنيف أو لم يفتح له بابه، فليلزم ما فُتح له، والجاهل من ترك بابًا فتحه الله له ليطرق بابًا موصدًا ليس من أهله، فإن فتح لك في شرح الكتب، فتعلَّم، ثم استعن بالله، وابدأ، ولو كان شيوخك أحياء، والزم ما ذكرته سابقًا، وما ذكرته في غير هذا الموضع، فهو للمصنف والشارح نافع بإذن الله، وإن فتح لك في غيرهما فالزمه.

 

والعاقل من يعرف أين نجاته.

وهذا كله بعد الرسوخ في العلم لا قبله.

 

وسل ربك السلامة؛ فإن السلامة لا يعدلها شيء.

رزقنا الله وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح.

_________________________________________________________
الكاتب: مصطفى سيد الصرماني