الرضا عن الله
لزامًا على كل إنسان أن يدرك أن ما يجري عليه في الدنيا من خير أو شر، أو ضيق أو سَعَةٍ، أو زيادة أو نقص، أو فرح أو حزن، إنما هو داخل ضمن ما هو ممتحَن فيه...
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - - آفاق الشريعة -
نظرة المسلم للحياة: إن المسلمَ الحقَّ إنسانٌ سوِيٌّ إيجابي، لا يفارق الرضا عن الله قلبه، ينظر إلى وجوده في الحياة بإيجابية، فيدرك أنه مخلوق مكرَّم، فما خلقه الله إلا ليكرمه؛ ولذلك خلقه في أحسن تقويم، وعلَّمه ما لم يعلِّم غيره من المخلوقات، وأسجد ملائكته لأبيه آدمَ عليه السلام، وحين أخرجه من الجنة فإنما أخرجه منها ليعود إليها، وأسكنه الأرض ليثبت جدارته لسكنى السماء، فآدم لم يخرج من الجنة مطرودًا كإبليس، إنما خرج منها لأنه مخلوق ليسكن الأرض أصلًا، وقد أخبر الله تعالى ملائكته بأن آدم مخلوقٌ ليسكن الأرض، وذلك قبل أن يخلُقَه؛ فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فما أوجدنا الله على الأرض إلا لنعمل من أجل الجنة، لنثبت أننا جديرون بها، وبتكريم الله لنا، وأن الشيطان كان قد أخطأ حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12].
نعمة وجودنا على الأرض: بهذا المفهوم السابق لحقيقة الوجود الإنساني على الأرض، يصبح لزامًا على كل إنسان أن يدرك أن ما يجري عليه في الدنيا من خير أو شر، أو ضيق أو سَعَةٍ، أو زيادة أو نقص، أو فرح أو حزن، إنما هو داخل ضمن ما هو ممتحَن فيه، فما وضعه الله فيما وضعه فيه إلا ليكسِبَ الحسنات، التي يُبرِهن باكتسابها على حسن العبودية لله تعالى، ومن ثَمَّ استحقاق الجنة؛ لذلك نجد أن أهل الجنة يقولون عند دخولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74].
الامتحان مؤقَّت: ما دام وجودنا على الأرض سببه تحصيل الحسنات التي تؤهلنا للجنة، فلا ينبغي لمبتلًى أن يجزَع أو يغتمَّ، ولا لصاحب نعمة أن يفرح؛ لأن كل ما يجري فيها علينا هو امتحان مؤقت بزمن محدد وهو العمر، فإذا بلغت الروحُ الحلقومَ، فقد انتهى العمل وبدأ الجزاء، وقد أخبرنا الله تعالى أن الناس عند انتهاء زمن الاختبار فريقان؛ فريق يقول: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]، وفريق يقول: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]؛ ولذلك على المسلم أن يدرك أن كافة ما يتعرض له من مصاعبَ ومشاقَّ في حياته الدنيا، لا يساوي غَمْسَةً واحدة في الجنة، وأن كافة ما يتعرض له فيها من نعيم ولذة لا يساوي غمسة واحدة في جهنم؛ جاء في سنن ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤتَى يوم القيامة بأنعمِ أهل الدنيا من الكفار، فيُقال: اغمسوه في النار غمسةً، فيُغمس فيها، ثم يخرج، ثم يُقال له: أيْ فلان، هل أصابك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما أصابني نعيم قط، ويُؤتَى بأشد المؤمنين ضرًّا وبلاءً، فيقال: اغمسوه غمسةً في الجنة، فيُغمس فيها غمسةً، فيُقال له: أيْ فلان، هل أصابك ضرٌّ قط أو بلاء؟ فيقول: ما أصابني قط ضر ولا بلاء».
ثمرة المعرفة الرضا: حين يَقَرُّ في يقين العبد ما سلف من حقيقة وجوده وأسبابه ومدته وجزائه، فإن ثمرة ذلك أنه يصبح متصالحًا مع ربه، ونفسه، ينظر للحياة ودوره فيها بإيجابية ورضًا، ولذلك قيل للعبد الذي عرف دوره في الحياة، وأدرك معنى استخلافه في الأرض: عبدٌ عارف بالله؛ لأنه إذا تحصلت له تلك المعرفة استقر في قلبه الرضا، بكل عطاء ومنع، وسلب ومنح، فهو إذ ذاك لا يريد إلا ما أراد الله، ولا يرضى إلا بما يحب الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله.
"قيل للحسن البصري: من أين أتى سوء خلق الناس؟ قال: من قلة رضاهم عن الله، قيل له: فمن أين أتى قلة رضاهم عن الله؟ قال: من قلة معرفتهم بالله"،
وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: "إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به الله فيقول له: إذا أعطيتني قبِلت، وإذا منعتني رضيت، وإذا تركتني عبدت، وإذا ناديتني أجبت"، فهذا العارف الراضي عن الله، هو الذي لا تهزمه الشدائد، ولا تكسِره المحن، فهو مع الله يدور مع أقداره حيث دارت.
أين نحن من ذلك؟ يقول ابن القيم رحمه الله: "الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمِيَ لأجله في النار الخليل، وأُضْجِع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخسٍ، ولبِث في السجن بضع سنين، ونُشِر بالْمِنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وعانى الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم"؛ جاء في شعب الإيمان عن مطرف بن عبدالله قال: أتيت عمران بن الحصين يومًا رضي الله عنه فقلت له: "إني لأدعُ إتيانك لِما أراك فيه، ولِما أراك تلقى، قال: فلا تفعل؛ فوالله لأحبه إليه أحبه إليَّ، وكان عمران رضي الله عنه قد استسقى في بطنه، فظل ثلاثين عامًا ملقًى على ظهره لا يقوم ولا يقعد، وكانوا قد نقَبوا له نقبًا في سريره ليقضي حاجته، فدخل عليه مطرف بن عبدالله فجعل يبكي فقال له: لِمَ تبكي؟ قال: لِما أرى من حالك، فقال: لا تَبْكِ؛ فإن أحبه إليه أحبه إليَّ، وأخبرك بشيء لعل الله أن ينفعك به، ولكن اكتمه عني حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنَس بها، وتسلم عليَّ فأسمع تسليمها"؛ (الطبقات الكبرى، ج4، ص217).
وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مستجاب الدعوة، وكان قد كُفَّ بصره في آخر حياته، فقدم يومًا مكةَ، فالتف الناس حوله يسألونه الدعاء، كل يريد أن يدعو له سعد رضي الله عنه، فجاءه فتًى يُقال له: عبدالله بن السائب، فقال له: يا عمِّ، أنت تدعو للناس فيشفون، فلو دعوت لنفسك لردَّ الله عليك بصرك، فتبسم سعد، وقال: يا بني، قضاء الله أحب إليَّ من بصري؛ (جامع العلوم والحكم، الحديث الثامن الثلاثون، ج2، ص354).
عرَفتَ فالزم: حين ندرك ذلك من وجودنا، ومن حال الأنبياء والصالحين، نستمد العون على تحقيق المعرفة وتحويلها إلى عمل، ومن ثَمَّ تمتلئ قلوبنا بالرضا عن الله، والعيش بإيجابية في الحياة، فلا يفارق الأمل سلوكنا وهِمَّتَنا، ويظل ديدننا - رغم الخطوب - التفاؤل والرجاء والعزيمة والرضا في كل ما يجري علينا في أنفسنا وفي أُمَّتِنا؛ لأنه قد وقر في عقولنا وأفكارنا أننا في كل أحوالنا، وما يجري علينا، إنما هو امتحان، له زمن محدد، فلا شيء سيدوم، ولا شيء سينفعنا أو يضرنا إلا عملنا؛ فعلينا لذلك أن نكون محسنين، متقنين، راضين، صابرين، عاملين، محتسبين، فلا نَدَع طول البلاء يقنِّطنا، ولا ندع دوام العافية يُنسينا غايتنا وسبب وجودنا؛ وإنما نتذكر دائمًا قول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7].
_____________________________________________________________
الكاتب: د. محمد محمود النجار