حماقة اليهود وثبات الصحابة

قد قصَّ الله عز وجل علينا في كتابه العظيم قَصَصًا عجيبًا عن اليهود الذين كانوا مع نبي الله موسى الكليم عليه السلام، وما واجهوه به من العنت والأذى؛ ولهذا أمر الله عز وجل أهل الإيمان ألا يكونوا مثلهم، وألا يتشبهوا بهم

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - السيرة النبوية -

قد قصَّ الله عز وجل علينا في كتابه العظيم قَصَصًا عجيبًا عن اليهود الذين كانوا مع نبي الله موسى الكليم عليه السلام، وما واجهوه به من العنت والأذى؛ ولهذا أمر الله عز وجل أهل الإيمان ألا يكونوا مثلهم، وألا يتشبهوا بهم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

 

قسم رسول الله ذات يوم قسمًا، فقال رجل من المنافقين: والله، إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فقال ابن مسعود: والله لأخبرنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فأخبرته، فتغيَّر وجهه، فقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» [1].

 

ومن عنت اليهود وحماقاتهم مع نبي الله موسى عليه السلام أن قالوا له: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقال لهم موسى عليه السلام بأمر ربه: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].

 

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61].

 

وحدث من طائفة منهم أن جاؤوا إلى موسى عليه السلام بعد أن قُتِل لهم قتيل لا يعرف قاتله، فأمرهم بأمر الله عز وجل أن يذبحوا بقرة، وحصل منهم من التعنُّت والتلكُّؤ عن أمر الله، فشدَّدوا على أنفسهم، فشدَّد الله عز وجل عليهم، وفي النهاية: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].

 

ولما أنجاهم الله من فرعون وجنوده، وأغدق عليهم من النعم وأعطاهم منها ما أعطاهم، وفضلهم على عالمي زمانهم، أمرهم الله عز وجل على لسان موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة، وأن يُخرِجوا منها العملاقة الذين استحوذوا على بيت المقدس؛ ولكنهم نكلوا وعصوا، وقالوا قولًا يدل على جبن وخور، وعلى قلة يقين؛ {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]، {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

 

فهذه عباد الله ثلاثة مواضع من كتاب الله تعالى من قصص بني إسرائيل ممن كان منهم نبي الله موسى عليه السلام، وكيف خذلوا نبيهم وآذوه ولم يوقروه، ولم يستجيبوا لأمره، وهذا كان الغالب منهم، وإلا فإن منهم من اختاره الله عز وجل لنصرة نبي الله موسى عليه السلام وهم قليل.

 

واليهود ازداد كفرهم وطغا فسادهم لما أتى الله عز وجل بهذا الدين -دين الإسلام- وأرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس كافة بشيرًا ونذيرًا.

 

عباد الله، لما جاء الله عز وجل بالإسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم أكرمه الله عز وجل بأصحاب كرام آمنوا معه وجاهدوا معه، ولم يتوانوا عن أمر الله البتة، أثنى الله تعالى عليهم الثناء العاطر.

 

أنزلت آية في كتاب الله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284].

 

فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاتحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراجعوه في ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: «سمعنا وأطعنا» ، فما كان منهم إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: سمعنا وعصينا؛ فخفَّف الله عز وجل عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وعن هذه الأمة، وأثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ثناءً بالغًا.

 

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].

 

وما كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كانوا معه- ولا سيما غزوة تبوك- التي يبعد موضعها عن المدينة أكثر من 700 كيلو متر، وكانت في شدة حر وبعد طريق وقلة مؤنة وقلة ماء، صحراء قاحلة ورمال متراكبة وحرارة الشمس، ولم ينطق أحد منهم بكلمة تدل على تضجُّر أو تلكُّؤ أو ملل؛ ولهذا مدحهم الله ونزلت في هذه الغزوة آيات تتلى في سورة براءة:  {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].

 

وأما في غزوة بَدْر الكبرى التي سمَّاها الله عز وجل يوم الفرقان حين استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال النفير الذين جاؤوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان وكان يومئذٍ على الكفر، تكلَّم أبو بكر فأحسن الكلام، وتكلَّم رجال من المهاجرين فأحسنوا إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليَّ أيها المسلمون»، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأنصار: كأنك تعرض بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقَرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد.

 

قال المقداد رضي الله عنه: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:  {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكم مقاتلون.

 

هذه الاستجابة العظيمة عباد الله لأمر الله واليقين بوعد الله ووعيده أقام الله بهم الدين ونصرهم على الأعداء وفتح بهم الأنصار ونشر بهم السنة، وهكذا عباد الله لا نصر إلا مع تقوى وعلم نافع وعمل صالح، فجدوا واجتهدوا على توطين النفس على طاعة الله وصبرها عن معصية الله، فبهذا الرفعة والسناء والسيادة.

 

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

 

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

 

سلك الله بي وبكم صراطه المستقيم وحبله المتين.

 


[1] أخرجه البخاري (3612).

____________________________________________________
الكاتب: سعد محسن الشمري