مقارنة بين انتشار الإسلام وانتشار المسيحية

لقد كان السيف هو الوسيلةَ الوحيدة لتعاملِ الصليبية مع نفسها، كما حدث في الحروب الصليبية المحلية بين مختلف القوى الصليبية الأوروبية، كما كان السيف هو الوسيلةَ الرئيسية مع الشعوب الإسلامية

  • التصنيفات: مقارنة الأديان - التاريخ الإسلامي -

نجد أن انتشار المسيحية يرجع إلى عاملين رئيسين؛ هما:

1- عامل داخلي:

حيث قامت الصليبية على تركيبة ساهمت اليهودية فيها بالأسس، ثم جاءت عناصر البناء الأخرى من العالم الهلينستي الذي تآلفتْ فيه التأثيرات اليونانية مع التأثيرات الشرقية الخاصة من آسيا الصغرى، وسوريا، وما بين النهرين، وإيران، ومصر منذ عهد انتصارات الإسكندر.

 

2- عامل خارجي:

ويرجع إلى الظروف والقُوَى التي أحاطت بالمسيحية، وتطورها إلى صليبية وُجِدت في ظل الإمبراطورية الرومانية التي كانت خيرَ عونٍ لها على الظهور والانتشار، وتحوَّلت الصليبية دينًا رسميًّا للبلاد مستغَلاًّ من قِبَل السياسة لربط أجزاء البلاد المفكَّكة من جانب، ولتحقيق المصالح المادية من جانب آخر[1].

 

ويقول "شارل جبنييز"[2] - وهو يقارن بين مسيحية المسيح، وما آلت إليه في القرون الوسطى -:

كانت "الصليبية" دينًا يبغي العالمية، ويتَّخذ الحرب وسيلة لها، دينًا متعصبًا شديد التعصب، لا يَقبَل بالنسبة إلى العالم الخارجي أنصافَ الحلول، ويخشاه اليهود خاصة... وعندما نتأمَّلها ثم نقارن حالها بدينِ نبي إقليم الجليل، ذلك النبي المتواضع، الرقيق الخلق، الذي زعم أن رسالته هي فقط تبشير إخوته في الله بالنبأ الطيب، ونبأ حلول مملكة الله، وحثهم على إعداد العُدَّة لها بمكارم الأخلاق - لا نجد رابطة تذكر بين هذا وذاك.

 

ويقول هربرت فيشر[3]:

"إن المؤرخ سوف يلاحظ أن تحوُّل أوروبا إلى المسيحية كان مرجعُه بالدرجة الأولى إلى الحساب المادي، أو الضغط السياسي، وإذا استثنينا أفرادًا وجماعات من مختلف الشعوب والأجناس عبر قرون طويلة قَبِلت النصرانية عن قناعات شخصية، فمِمَّا لا شك فيه أن تحوُّل الجموع الكبيرة من الأوروبيين إلى النصرانية قد تم تحت رعبِ السيف، وطلبًا لمكاسب مادية، لا علاقة لها بمملكة السماء وعطاياها الأخروية، ويكفي التذكرة بما فعله "شارلمان" حين قَتَل في يوم واحد 4500 إنسان رفضوا التنصر، ثم ما فَعَلتْه البابوية حين فوَّضت فرسانَها بغزوِ شعوب البلطيق، والاستيلاء على أراضيها ثمن تقديم النصرانية إليها.

 

لقد كان السيف هو الوسيلةَ الوحيدة لتعاملِ الصليبية مع نفسها، كما حدث في الحروب الصليبية المحلية بين مختلف القوى الصليبية الأوروبية، كما كان السيف هو الوسيلةَ الرئيسية مع الشعوب الإسلامية[4].

 

يقرِّر هذه الحقيقةَ أحدُ كبار مؤرِّخي الحروب الصليبية، معترفًا بالمذابح التي ارتكبها الصليبيون في سكَّان البلاد التي استولوا عليها، رغم ما بذلوه لهم من الأمان، ولم يقتصر الأمرُ على غير أبناء عقيدتهم فحسب، بل يعترف "ستيفن رنسيمان" بأن الصليبيين الذين سقطتْ في أيديهم بيتُ المقدس (يوليو - 1099) حينما استقروا في الشرق، لم يعاملوا إخوانَهم بما يفضل ما عاملهم به الخليفة، والواقع - على حد قوله - أنهم كانوا أشد قسوة وعنفًا[5].

 

والواقع أن نجاح الحملات الصليبية أوَّلَ الأمر لم يرجعْ - فحسب - إلى كثرةِ أعداد الصليبيين، وإلى ما تلقَّوه من مساعداتٍ من الغرب الصليبي ومن الدولة البيزنطية، بل يرجع أساسًا إلى تمزُّق كلمة المسلمين، ونشوبِ الفتن الداخلية، واضطراب الأمن، وإلى ما اتَّبَعه الصليبيون من أساليب الغدر والخيانة، واستخدام العُمَلاء من السكَّان الوطنيين في تحقيق أغراضهم، وإلى ما أَجْرَوه من مذابحَ في سكان البلاد التي استولوا عليها، برغم ما بذلوه من الأمان، وأدرك المسلمون آخرَ الأمر أن الصليبيين لم يستهدفوا إلا مصلحتَهم الشخصية، وأنهم يتطلَّعون إلى مدِّ نفوذهم وسلطانهم إلى سائر البلاد الإسلامية.

 

ولم تلبث فكرةُ الجهاد أن خرجتْ إلى حيِّز التنفيذ، واشتدَّت ثائرة المسلمين، وتهيأ للأمة الإسلامية القادةُ الذين مضوا بها إلى طريق النصر[6].

 

الخلاصة:

وأخيرًا:

نقرِّر أن ادِّعاء انتشار الإسلام بالسيف، واعتماده على البطش في تبليغ تعاليمه ونشر مبادئه، تهمةٌ باطلة لعوامل متعددة؛ منها:

1- أن نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - هو أول مَن يعرف أن كلَّ محاولة لفرض دين عالمي وحيد هي محاولة فاشلة، بل هي مقاومةٌ لسنة الوجود، ومعاندة لإرادة رب الوجود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].

 

2- القاعدة الإسلامية المحكمة هي قاعدة حرية العقيدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، ومن هنا رسَم القرآن أسلوب الدعوة ومنهاجها، فجلُّها دعوة بالحجة والنصيحة في رفق ولين: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

 

3- لا يكتفي الإسلام بعدم إكراه أحدٍ على الدخول فيه، بل يُوصِينا القرآنُ في معاملة الوثنية - التي هي أبعد الديانات عن الإسلام، فضلاً عن الديانات التي تربطنا بها أواصرُ الوحي السماوي - بتلك الوصية: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]؛ فأنت تراه لا يكتفي منا بأن نُجِير هؤلاء المشركين ونؤويَهم فحسب، ولا يكتفي منا بأن نرشدهم إلى الحق وكفى، بل يأمرنا بأن نَكفُل لهم كذلك الحماية والرعاية في انتقالهم، حتى يصلوا إلى المكان الذي يأمنون فيه كل غائلة.

 

4- لم تكتفِ الدعوة القرآنية في تحديد العَلاقة بين الأمم الإسلامية وبين الأمم التي لا تدين بالإسلام بأن تجعلها مبادلة سلم بسلم: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]؛ بل تندب المسلمين أن يكون موقفُهم من غير المسلمين موقفَ رحمةٍ وبر، وعدل وقسط: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

 

وجاءتِ السنة النبوية لتؤكِّد هذا الموقف؛ حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مَن ظلم معاهَدًا، أو انتقصه حقه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجُه يوم القيامة»[7].

 

5- إن المتأمل في معاملات النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَن عاصرهم، يلاحظ أنها كانت على مقتضى الحكمة، وهو رعاية حق المعاهدين ما استقاموا على عهدهم، والأخذ في معاملة المنافقين بظاهر حالهم ومسالمة التاركين (قبائل لم تتعرَّض لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم تدخل معه في عهد) ما داموا على حيادهم، وإعلان الحرب على مَن وقف موقفَ العدوِّ (قريش ومَن شاكلهم في المجاهرة بالعداوة).

 

ومَن درس غزواته - صلى الله عليه وسلم - وسراياه وجدَها إما حربًا لعدوٍّ لم يَدَعْ أذى وصلت إليه يدُه إلا فعلَه؛ كغزوةِ بدرٍ، أو دفاعًا لعدوٍّ مُهَاجِم؛ كغزوة أُحُد وحُنَين، أو مبادرة لعدو تحفَّز للشر؛ كغزوة بني قُرَيظة، أو كسرًا لشوكة عدو نقضَ العهد وعُرِف بمحاربة الدعوة، واتَّخذ كل وسيلة للانتقام من القائمين بها والقضاء عليها؛ كفتح مكة، حارب - صلى الله عليه وسلم - أولئك الأعداء، وكان يحاربهم في جانب عظيم من السماحة، فنهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، ونهى عن المُثْلَة، وكان يمضي كل تأمين يصدر من أحد من المسلمين لبعض المحاربين، ((ويسعى بذمتهم أدناهم))[8]، وكان يوحي بالإحسان إلى الأسرى، وقد يُطلِق سبيلَهم من غير فداءٍ، وبالجملة: فالإسلام يُدِين روح التدمير وروح السيطرة.

 

6- ماذا يقول هؤلاء الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالسيف إذا نظروا في مسلمي الصين وجاوه وغيرهم من الأمم التي دخلت الإسلام بمجرد الدعاية؟!

 

7- أن كل بناء مزيَّف إذا عاش بُرْهَة من الزمن بفضل القوة التي تسانده، لا بد وأن ينهارَ حين تختفي من حوله العناصرُ االغريبة عليه التي ساعدت على بقائه قائمًا.
 

فماذا نرى اليوم بعد توقف الفتوحات الإسلامية؟!

 

8- أن المقارنة بين انتشار الإسلام وكيفيته، وبين غيره من الدعوات تُثبِت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن غيره من الدعوات قد عَمِلت في الرقاب للإكراه على قبولها، مهدِّدة كل أمة لم تَقْبَلها بالإبادة والمحو من سطح البسيطة، مع كثرة الجيوش ووفرة العدد، هذا ما صنعتْه الصليبية والصهيونية والمغول، وغيرهم.

 

أما الإسلام، فلم تكن وسيلته السيف، بل العجب أن مَن جاؤوا إلى بلاد الإسلام أعداء مُغِيرون، ما لبثوا أن دخلوا تحت جناح هذا الدين وصاروا من دعاته وناشريه.

 

9- أن عبارات الإنصاف وشهادات المحققين تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على التسامح الإسلامي.

 


[1] حقيقة التبشير (ص 78 - 85) بتصرف، المسيحية نشأتها وتطورها (ص 246) بتصرف، محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص 203) بتصرف.

[2] المسيحية نشأتها وتطورها (ص 16 - 17، ص 239 - 0 24) بتصرف.

[3] حقيقة التبشير (ص 101) بتصرف.

[4] الإسلام والحضارة العربية، محمد كرد علي (ج1 ص292) بتصرف، ط/ لجنة التأليف والترجمة والنشر، الثالثة عام (1968)، الإسلام وخرافة السيف د/ عبدالودود شلبي (ص 164) ط/ مؤسسة الخليج العربي سنة (1407 هـ - 1987م).

[5] تاريخ الحروب الصليبية "ستيفن رنسيمان" (ج 3 ص 788، 487)، (ج1 ص 212، 426، 472) بتصرف.

[6] تاريخ الحروب الصليبية "ستيفن رنسيمان" (ج1 ص7، 8) بتصرف، حولية كلية الدعوة الإسلامية، العدد الأول عام (1405 هـ - 1985 م)، ص40، وما بعدها.

[7] سبق تخريجه.

[8] جزء من حديثٍ أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، باب إثم مَن تبرَّأ من مواليه (ج 4 ص 169)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (ج 2 ص 198).

____________________________________________________
الكاتب: أ. د. عمر بن عبدالعزيز قريشي