أنت والقضاة الثلاثة.. وأبو القوانين

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالقضاة هم ثلاثة أصناف، واحد في الجنة واثنان في النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ» [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، وفي رواية: «الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» [رواه أبو داود، وصححه الألباني].

فالوحيد المؤتمن في الدنيا والناجي في الآخرة هو من علم الحق وقضى به، والحق في أي قضية يشمل أمرين: علم بواقع القضية وملابستها، ومعرفة حكم المولى جل وعلا في هذه القضية، ثم حسن إنزال هذا الحكم على حيثيات القضية.

والقاضي: كل من حكم بين اثنين، صغرت القضية أم كبرت، وكلما زاد تعدد أطراف القضية واتسعت جزئياتها وتشعبت وعَظم ما سيترتب عليها من حكم لا سيما إن بقى أمره أمدًا من الزمان كلما صعبت مهمة القاضي، وجل خطره، وندر معدنه.

وكيف الحال لو كان أطراف القضية شعبًا بأكمله، وجزئيات القضية متشعبة جدًا تشعب دروب الحياة أمنًا وأمانًا، وإعلامًا وتعليمًا، واقتصادًا وحربًا وسلمًا، بل إلى أدق تفاصيل ذلك في حياة الإنسان.. في دمه وماله وعرضه ونفسه، بل ومعتقده.

فيا ترى أين القاضي ذو الكفاءة والأمانة لمثل هذه القضية؟!

بل كيف الحال والأمر أعقد من ذلك، فإن مهمة القاضي في قضيتنا هذه هي جماعٌ لكل تلك التفاصيل والجزئيات المتشعبة في منظومة دقيقة جدًا الحرف فيها له ثمن (1)، منظومة قواعد كلية تهيمن على صياغة كل قانون متعلق بأي تفصيل أو جزئية في حياة هذا الشعب، بل إن قاضينا المنتظر هو من سينطق بالحكم في قضية ميلاد جديد لـ "أبي القوانين".

أبو القوانين.. الدستور:
وهو كما يعرفه القانونيون: القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة)، ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري)، وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية)، وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص، والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لاتجاه السلطة، إذاً فهو المهيمن على جميع القوانين، بل تنبثق جميعًا منه، وهو الموجه الرئيسي لأداء السلطات التنفيذية.

ووظيفة البرلمان أمران أساسيان هما: التشريع (2) والرقابة: التشريع سواء كان أحد القوانين أو كان أعظم من ذلك، وهو تشريع أبي القوانين، والرقابة: رقابة على أداء السلطة التنفيذية بكل فروعها وتفصيلاتها، بل له مساءلة أي فرد في الدولة، حتى رئيس الدولة أو رئيس الحكومة عن أي أداء له في أي قضية من القضايا.

وإن كانت الوظيفة الرقابية في الدورة البرلمانية القادمة ليست بنفس خطورة وأهمية الجانب التشريعي، بل إن شئتَ قلت: إن الدور الأساسي على الحقيقة هو وهو فقط: وضع الدستور (أبو القوانين).

وأنت..
هذه المهمة الخطيرة.. لا ينفرد بمسئوليتها تلك اللجنة التأسيسية لوضع الدستور والتي سيختارها مجلس الشعب المنتخب، لن ينفرد بحلوها ومرها، بخيرها وشرها، بصوابها وخطئها، هذه اللجنة فحسب، بل إن كانوا هم قضاة في أعظم وأخطر قضية في حياة ومستقبل مصرنا الحبيبة، بل في مجريات التاريخ بأكمله، فلا ينكر أحد مدى تأثير مصر إسلاميًا وعربيًا بل ودوليًا، فهي القلب الإستراتيجي للعالم فعلاً.

فإن كانوا هم قضاة في هذه القضية، فأنا وأنت لدينا قضية أصعب "قضية الاختيار"، اختيار أحد القضاة الثلاثة "واحد في الجنة واثنان في النار" لهذه القضية، فبأي حكم سنقضي؟! فكل واحد منا في دائرته الانتخابية أمامه ثلاثة قضايا (اختيارات) عليه أن يختار إحدى القوائم المطروحة، وأن يختار مرشحين فرديين، عليه أن يقضي بالحق، مَن يصلح لوضع الدستور، مَن يؤتمن على هذا الأمر الجلل.

عليه أن يقضي، مَن مِن المرشحين يعلم الحق واقعًا وشرعًا، ويحسن تحسين الشرع على الواقع (القوة والكفاءة)، وأنه سيقضي به (أداء الأمانة) فإن خير من استأجرت القوي الأمين.

مع التأكيد على أن وظيفة البرلمان أو عضو مجلس الشعب ليست وظيفة خدمية من أداء مصلحة لأحد من أبناء دائرته، ونحو ذلك.. وإنما هذه هي وظيفة المجالس المحلية، فكثير منا إلا من رحم الله يخلط بين الوظيفتين، وبناءً على ثقافته تلك سيكون اختياره.

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، ليس معنى الآية أداء الأمانات العينية والحسية المودعة عندك لأصحابها فحسب، بل أعظم من ذلك هو رد المسؤوليات والمهمات إلى من يستطيع القيام بها وأداءها حقًا، فتؤدى هذه الأمانة لمن يقدر على تحملها والقيام بأعبائها.

{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]، وما أعظم هذه الشهادة بصلاحية هذا المرشح أو ذاك؛ للوقوف على خطر هذه المهمة وأدائها، وأن نمكنه في أنفسنا وأموالنا، ودمائنا وأعراضنا، وعقائدنا وهويتنا ومستقبلنا؛ ليحكم فيه بالحق أو بالهوى.

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، فلا يسعك أن تتخلف فحتى وإن فرط في حقك، فكيف تفرط في حقي وحق إخوانك؟ بل وأولادك وأحفادك؟ فهذا الدستور لربما امتد أثره عشرات أو مئات من السنين.

«إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني]، فدورهن هذه المرة تمامًا كالرجل في صياغة هذا المستقبل سواء بسواء، بل بمجموعهن يفقن الرجال تأثيرًا، فإن الكتلة التصويتية للمرأة 56% من أصوات الناخبين.

ولقد رأينا كيف كانت أم سلمة رضي الله عنها نعم الوزير ونعم المشير لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وكم نقلت عائشة رضي الله عنها لنا من ميراث النبوة.

وها قد واتت كل أخت مسلمة الفرصة؛ لتكون لها البصمة على سبيل صناعة التاريخ والتمكين لدين رب العالمين.

فلنخرج رجالاً ونساءً، وشيوخًا وشبانًا؛ لأداء الأمانة، وشهادة الحق.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].

اللهم اقدر لنا الخير حيث كان ثم رضنا به، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولقد رأينا كيف كان تغيير حرف في الدستور السابق له أثر بالغ من (مدة) إلى (مدد)، ومِن (مصدر) إلى (المصدر).
(2) التشريع بالاصطلاح المعاصر يشمل وضع القوانين التي تحكم حياة الناس، ويشمل القوانين الإدارية المنظـِّمة للأفراد والمؤسسات، ويشمل المعاهدات الدولية والاتفاقات، كما يشمل الميزانية ومناقشة وإقرار برنامج الحكومة، ونحو ذلك.. والقسم الأول ينطبق على لفظ التشريع في الدين وهو حق لله عز وجل بلا شريك، وكذا فليس من حق أي فرد أو مجلس أن يسن خلاف الشريعة الإلهية وإلا لم يكن مسلمًا، ودستور البلاد الذي ينص على مرجعية الشريعة ينزع حق التشريع بهذا المعنى عن مجلس الشعب المنتخب، ويلزمه أن يسن فقط ما يوافق الشريعة.



موقع صوت السلف
www.salafvoice.com